في البيرو والنيبال ومدغشقر وغيرها من الدول، قاد الشباب احتجاجات حاسمة ضد تدهور الخدمات والفساد نجحت في إسقاط حكومات وخلق زخم مجتمعي بعد أن كسر الشباب حاجز الخوف ونزل إلى الشوارع مطالبة بتحسين الخدمات العامة ورفع القيود البوليسية عن الحركات الاحتجاجية مثلما كان الحال في اندونيسيا والمغرب، لتتحول عبارة ”جين زي“ وأعلام القرصان الضاحك إلى كابوس يرعب الاستبداد أينما كان.
الجيل زد، جيل مختلف بهوية خاصة
على رصيف واسع في أحد شوارع العاصمة تونس تتجمع مجموعة من الشبان والشابات، بعضهم يرتدي قمصانا مطبوعة بصور شخصيات ”أنيمي“ إلا أنها ليست السمة الوحيدة فهناك آخرون يفضلون القمصان الرياضية الفضفاضة أو السترات الملونة الزاهية وأحذية رياضية تتماشى مع حركتهم الدائمة بين فضاءات المدينة.
بعض الفتيات والفتية يضعون كوفيات فلسطينية على الرقبة أو يرتدون أساور و”تيشيرتات“ تحمل شعارات المقاومة وشخصيات مؤثرة ما يعكس اهتمامهم ومتابعتهم المستمرة لما يحصل حولهم خصوصا ما يحدث في فلسطين ويظهر مواقفهم ورغبتهم في التعبير عنها بصمت أو بوضوح. تتنقل أيديهم بسرعة بين الهواتف، يلتقطون صورا جماعية ويشاركون مقاطع فيديو عن ”الترندات“ الأخيرة أو المباريات الرياضية بينما تتخلل نقاشاتهم من وقت إلى اخر حوارات عن السياسة المحلية والدولية، الضحكات تتعالى أحيانا عند مشاهدة مقطع مضحك وتصبح الجلسة جادة حين يذكر أحدهم حدثا عالميا أو حملة تضامن. حركاتهم الجسدية وعفوية الأيدي تلوح أثناء النقاش النظرات تتنقل بين الشاشة والواقع والابتسامات تتبادل بين الجدية والمرح بينما يعكس كل سلوك مراوحة بين الحرية الفردية والانتماء الجماعي وبين الواقع والفضاء الرقمي. فالملابس والحركات والعبارات المستعملة هنا ليست مجرد تفاصيل عابرة، بل بيان صامت عن هويتهم وشخصيتهم المتميزة عن الأجيال السابقة. الجيل Z يظهر هنا بوضوح حر الحركة، دائم الاتصال بالإنترنت، يشارك في النقاشات العامة والخاصة فكل حركة كل ابتسامة وكل هاتف في أياديهم يروي قصة جيل جديد، متنوع وجريء، مندمج بين العالم الواقعي والرقمي.

مع بداية الألفية الجديدة، وُلدت فئة عمرية جديدة تُعرف بـ جيل Z، يمتد مواليدها تقريبًا من منتصف التسعينيات إلى سنة 2012. جيل ولد ونشأ في ظل عالم رقمي متصل بالإنترنت منذ طفولته، حيث أصبحت الوسائط الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي جزءا لا يتجزأ من حياته اليومية سواء للتعلم أو التواصل أو التعبير عن الذات.
وفقًا لبحث نشرته مجلة ”Lanka Journal of Social Sciences and Humanities“ في عام 2023، يُعرف الجيلZ بأنه الجيل الذي وُلد بعد عام 1995، ويتميز بنشأته الرقمية (digital nativity) حيث ترعرع في عالم متصل رقميا مما أثر على قيمه وسلوكياته، كما يظهر هذا الجيل اهتماما متزايدا بالقضايا الاجتماعية والسياسية ويُعتبر من أكثر الأجيال تنوعا من الناحية العرقية والثقافية.
في كتاب Generation Z: A Century in the Making تقدّم الباحثتان كوراي سيميلر وميغان غرايس تحليلًا شاملا لخصائص هذا الجيل، فهو ”جيل مُبدع، مدفوع، ريادي، ومتقدم تكنولوجيًا“ ويظهر قدرة على التكيف السريع مع التغيرات التكنولوجية والاجتماعية مما جعله أكثر وعيا بالقضايا العالمية والمحلية.
على الرغم من هذه المميزات يواجه الجيل Z تحديات صحية ونفسية حيث تشير الدراسات إلى ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب والإرهاق بين أفراده مقارنة بالأجيال السابقة ويعود ذلك جزئيًا إلى الضغوط الاجتماعية والاقتصادية بالإضافة إلى التأثيرات السلبية للاستخدام المفرط للتكنولوجيا وما يشهده العالم في السنوات الأخيرة من تطورات جعلت من هذا الجيل جيلا عاصر الثورات والانتفاضات والحروب الدامية ونشأ في بيئة لم تعرف الاستقرار أو الهدوء.
راية قرصان قبعة القش.. ”ماركة مسجلة“ لاحتجاجات الجيل Z
في السنوات الأخيرة شهدت شوارع ومدن عديدة تحركات شبابية قادها الجيل زد وبرزت معها ثقافة رمزية موازية تواكب هذا الحراك وتعبر عن روحه العميقة بوسائط غير تقليدية. فهؤلاء الشباب والمراهقين الذين خرجوا إلى الشوارع من كاتماندو إلى سانتياغو ومن باريس إلى جاكرتا ثم الرباط في المغرب لم يكتفوا برفع الشعارات السياسية الجافة والمعتادة أو المطالب المباشرة، بل اختاروا التعبير عن تمردهم بلغة بصرية وثقافية متشابكة تستمد رموزها من الإنترنت وشخصيات ”الأنيمي“. في قلب هذه الرموز برز علم ”One Piece“ الأسود مع جمجمة قرصان مبتسم مرتديا قبعة قش، كراية توحد ملامح الغضب والأمل في آن واحد وتحمل في داخلها سردية كاملة عن جيل يرفض الخضوع ويبحث عن الحرية بمعناها الأعمق.

تحول هذا العلم المزدان بجمجمة القرصان المبتسم وقبعة القش الشهيرة إلى أحد أبرز الرموز التي ترفعها مجموعات الاحتجاج الشبابية في السنوات الأخيرة، هذا الرمز لم يعد مقتصرا على عالم الخيال الياباني أو محبي ”الأنمي“، بل أصبح تعبيرا بصريا عن روح التمرّد والرفض الجماعي للمنظومات السياسية والاقتصادية السائدة. شخصية ”مونكي دي لوفي“، بطل سلسلة “One Piece“ التي تجسد الحرية المطلقة والإصرار على بلوغ الحلم مهما كانت الصعوبات صارت أيقونة لهذا الجيل الذي يرى في نفسه امتدادا لفلسفة السعي إلى الحرية الحقيقية في وجه عالم تتحكم فيه السلطة والمال.
يستدعي هذا الجيل المتمرد رمزية ”لوفي“ ليس بوصفه بطلا خياليا فحسب، بل كصوت يجسد الرفض ويمثل جيلا لا يخضع لمنطق الزعامة التقليدية ويؤمن بالقيادة الجماعية وبفكرة الطاقم والجماعة المتآزرة التي تسعى وراء العدالة، لعل هذا ما يفسر حضور العلم في احتجاجات نيبال 2025 وفي مظاهرات طلابية أو بيئية في تايوان وتشيلي وفرنسا والبيرو وآخرها في المغرب إذ رفعه الشباب كتعبير عن تمسكهم بالأمل رغم الخراب وعن توقهم إلى كسر الأغلال التي تكبل حرياتهم سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو رقمية. يمكن القول أن هذا التوظيف الرمزي للثقافة الشعبية يعكس ذكاءا اتصاليا عميقا لدى الجيل زد الذي لا يعبر بلغة الأيديولوجيات الكلاسيكية، بل بلغة الرموز العابرة للحدود المستمدّة من الفضاء الرقمي ومن المخيال الجماعي العالمي وامتدادا لحلم ”لوفي“ الأبدي في أن يعيش الإنسان حرًّا مهما كان الثمن.
بشعارات الثورة المطالبة بالشغل والحرية والكرامة الوطنية ضد التعذيب ودولة البوليس وانتهاكات حقوق الإنسان، عاد شباب الحركات الاحتجاجية إلى شوارع العاصمة بإصرارهم وشعاراتهم الفريدة. مسيرة انطلقت من نقابة الصحفيين لتجوب شوارع العاصمة بعنوان ”أحكموا الحيوط“ وشعار مركزي: ”لا دساترة لا خوانجية لا دولة اخشيدية“.
حراك GenZ212 المغربية.. تمرّد رقمي بين الوعي والحدود الملكية
يبدو حراك GenZ212 في المغرب امتدادا طبيعيا للغليان الاجتماعي الكامن منذ سنوات، إلا أنه في نفس الوقت تعبير عن شكل جديد من الاحتجاج صاغه جيل تربّى في الفضاء الرقمي أكثر مما تشكل داخل الأطر السياسية أو النقابية. شرارة الاحتجاج اندلعت عقب وفاة عدد من النساء في مستشفيات عمومية في اكادير أثناء الولادة، ما كشف هشاشة الخدمات العمومية الصحية. تزامنا مع هذا الغضب انطلقت موجة من الرفض للتطبيع مع الأمر الواقع ترجمها الشباب إلى دعوات للتظاهر عبر شبكات التواصل، فتحوّل الغضب الفردي إلى حراك شبابي غير مؤطر يعبر عن الرفض دون أن يتقيد بخطابٍ حزبي أو قيادة مركزية.
رغم أن المطالب المشروعة لهذا الجيل بتحسين الخدمات العمومية، مكافحة الفساد وضمان العدالة الاجتماعية فإن الحراك كشف أيضا عن حدود التعبئة الرقمية حين تظل المشاعر الغاضبة معلقة في الفضاء الالكتروني دون ترجمة تنظيمية أو استراتيجية واضحة فالمجموعة التي تطلق على نفسها اسم ”GenZ212“ استعادت نبض الشارع لكنها واجهت تحديات كبيرة من غياب التنسيق الداخلي وتشتّت الخطاب فضلا عن مراقبة الدولة اللصيقة لأي محاولة لتجاوز سقف الاحتجاج.

مقارنة بحركات الاحتجاج السابقة في السنوات القليلة الماضية، مثل 20 فبراير (ولدت حركة ”20 فبراير“ المؤيدة للإصلاح ومكافحة الفساد في المغرب خلال موجة الانتفاضات العربية بعد 2011) أو حراك الريف (سلسلة من الاحتجاجات في مدينة الحسيمة في الريف شمال المغرب بعد مقتل الشاب محسن فكري يوم 28 أكتوبر 2016)، يبدو أن احتجاج هذا الجيل كان أقل قدرة على إنتاج مشروع تغيير سياسي متماسك، بل انحصر في تحركات محدودة وشعارات عامة لا تطرح أي بديل سياسي للوضع الموجود في المغرب. رغم تميز هذا الجيل بقدرته على تحريك الرأي العام لكنه يعاني من ضعف أدوات الضغط واستمرار التوجس من السياسة، فالشباب الذي نظم الوقفات ونزل إلى الشارع يعبر عن وعي متقدم بمشاكله لكنه يعبر صراحة عن رفضه وعدم ثقته في الطرق التقليدية للتغيير رغم عدم طرحه لبدائل تنظيمية تؤهله لفرض مطالبه ضمن مسار وخطة واضحة، ما يعكس أزمة جيل واع بحقوقه لكنه متردّد في التنظّم الجاد لتحقيقها والاكتفاء بمطالب بقيت منحصرة ضمن حدود مدروسة لا تتجاوز الخطوط الحمراء في المشهد السياسي المغربي، فالمنخرطون في هذا الحراك على اختلاف خلفياتهم يؤكدون في بياناتهم وتصريحاتهم العفوية أنّ تحرّكهم سلمي وأنهم لا يعادون النظام الملكي ولا يسعون إلى إسقاطه بل يطالبون فقط بإصلاحات ملموسة تمسّ حياتهم اليومية.
يرى الباحث والكاتب ماهر حنين أن ما يحدث اليوم في العالم من انتفاضات شبابية تقودها فئة ”جيل زد“ ليس معزولا عن السياق التاريخي والاجتماعي الأوسع، بل هو امتداد لتحول عميق يطال كل جوانب الحياة الاجتماعية منذ مطلع الألفية الجديدة، معتبرا أن حراك GenZ212 في المغرب يختزل هذا التحول، إذ نزلت الشابات والشبان من منصّة ”ديسكورد“ إلى الشارع، حاملين الراية ذاتها المقتبسة من ”أنمي وان بيس“، ليتحوّل هذا الرمز الثقافي إلى جمجمة مبتسمة عابرة للحدود ومحفّز لحركة جماهيرية جذرية.
يشير حنين إلى أن هذا الحراك لا ينبع فقط من تذمّر سياسي، بل من رفض عميق لاقتصاد سياسي مظهري هش مسخر للدعاية الرسمية على حساب خدمات عمومية متداعية في تلميح واضح إلى أن الغضب الشبابي يتجاوز المطلب الآني نحو مساءلة منظومة كاملة من الخيارات الاقتصادية والاجتماعية. كما أن هذا الغضب ليس وليد اللحظة بل امتداد لتاريخ طويل من الاحتجاجات الاجتماعية من حركة 20 فبراير إلى حراك الريف حيث تنتقل جذوة الغضب من جيل إلى آخر. كما يقول ماهر حنين أن هذه التحركات تفكك الصورة النمطية المترسخة عن جيلٍ متقوقع خلف الشاشات لتكشف عن جيل مبدع في التنظيم والاتصال، قادر على تحويل أدوات التكنولوجيا إلى طاقة مقاومة جديدة، وهو توصيف يلخّص جوهر الظاهرة الاحتجاجية الجديدة التي تمزج بين الثقافة الرقمية والفعل الميداني بين الهوية المحلية والانتماء إلى موجة كونية من الشباب الرافض للظلم الاجتماعي.
فضاءات افتراضية هربا من التتبعات وعصى البوليس
خلال فترة إعداد هذا العمل حاولنا الوصول إلى المشرفين أو قيادات من الحراك الاحتجاجي في المغرب، إلا أن الأمر كان في غاية التعقيد نظرا لعدم وجود أسماء بارزة تقود الحراك أو متحدثين رسميين بأسماء مكشوفة غير صفحات مواقع التواصل الاجتماعي وسيرفرات خاصة على تطبيق ديسكورد الخاص بالألعاب.
بعد أيام من البحث والمحاولات داخل أحد السيرفرات الكبرى الخاصة بحراك GenZ212 على منصة ”ديسكورد“، التي يُقدّر عدد أعضائها بأكثر من مئتي ألف مشارك من مختلف مناطق المغرب، بدا من الوهلة الأولى أننا أمام فضاء افتراضي شديد التنظيم والانغلاق في الوقت نفسه يفرض المشرفون عليه التزاما صارما بقواعد داخلية تراقب فرق الإشراف تطبيقها والالتزام بها. بعد انضمامنا إلى السيرفر العام وغرف حوار أخرى أصغر لاحظنا أن التواصل المباشر مع المشرفين أمر بالغ الصعوبة أو مستحيل إذ يعتمد أغلبهم على أسماء مستعارة وصور رمزية ولا يقدمون أي مؤشرات لهوياتهم الحقيقية، بل يتجنبون الظهور الصوتي أو البصري بشكل كامل.

الحذر الرقمي من قرصنة الحسابات والمعطيات الشخصية يرتقي لمثابة الثقافة لدى هذا الجيل والمشرفين على الحراك الذين يتعاملون مع المراقبة الإلكترونية كواقع يومي ويحرصون على التحصّن ضدّ أي اختراق محتمل أو استهداف بوليسي. رغم صعوبة الوصول إلى القائمين على هذا الفضاء تمكّنا بعد محاولات ومشاركة في القنوات العامة من بناء حوار قصير لم يدم سوى بعض الدقائق مع أحد المشاركين النشطين الذي يشارك بانتظام في النقاشات والمنشورات المتعلقة بخطط التحرك الميداني. رفض الشابّ تمامًا الكشف عن اسمه أو منطقته أو أي تفصيل قد يعرّضه للتعريف، كما أصر على فسخ المحادثة والقيام ب”بلوك“ للحساب الذي نستعمله مباشرة بعد نهاية الحوار واكتفى بالقول إنه شاب مغربي غاضب ينزل إلى الشارع كلما شعر بأنّ صوته لا يُسمع في مؤسسات الدولة.
روى لنا محدثنا كيف أنّ النقاشات داخل السيرفرات لا تقتصر على الخطاب الثوري أو الشعارات، بل تتناول بشكل مفصّل قضايا العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة ومكافحة الفساد مع تركيز خاص على الانهيار المتواصل في قطاعات التعليم والصحة كمؤشر على فشل السياسات العمومية في تلبية الحاجات الأساسية للمواطنين. يرى هذا الشاب المغربي أن ما يحرّكهم هو إحساس عميق باللامساواة وبأنّ الموارد تُهدر في مجالات لا تمسّ حياتنا اليومية في إشارة إلى الإنفاق الضخم على تنظيم المسابقات الرياضية والمشاريع الاستعراضية التي تقدّم صورة جميلة للخارج لكنها لا تغيّر شيئًا في واقع الناس.
ورغم حدة النقد الذي يوجهونه إلى السياسات الاقتصادية والاجتماعية فإن هذا الناشط شأنه شأن أغلب المشاركين في الحديث داخل غرف النقاش على ”ديسكورد“ يرفض أي محاولة لتسييس مطالبهم أو ربطها بأجندات معارضة فالحراك كما يؤكد ليس موجها ضد الملك أو الديوان الملكي ولا يهدف إلى تغيير النظام أو المس من رموزه، بل إلى دفع السلطات للاستماع بجدية إلى الجيل الجديد وإيقاف التتبّعات البوليسية ضد الشباب الذين يعبّرون عن آرائهم. مضيفا أن هذا الموقف ليس استثناءً فرديًا بل قاعدة منصوص عليها ضمن ما يسمّيه المنخرطون بالنظام الداخلي للحراك الذي تضعه المجموعات المشرفة كخط أحمر لا يُسمح بتجاوزه. فكل دعوة إلى التمرّد السياسي أو الهجوم على رموز الدولة يتمّ حذفها فورًا وأحيانا يطرد صاحبها من السيرفر في محاولة للحفاظ على طابع الحراك الاجتماعي السلمي وضمان استمرار تعاطف الرأي العام معه، وفق قوله.
لا يمكن إنكار أن حراك الشباب في المغرب بقي في منطقة رمادية عكس بقية الدول فلا هو ثورة ولا هو حركة إصلاحية مؤطرة بل تعبير متنام عن جيل يعيش اختناقا اقتصاديا ويحاول عبر الفضاء الرقمي أن يجد لنفسه متنفسا وصوتا في بلد تخنق فيه الأصوات قبل أن تصل إلى الشارع رغم إصراره على تقديم صورة تقدس النظام الملكي وضرورة تواجده حفاظا على السلم الاجتماعي والدولة.
الحراك الشبابي في تونس.. ركود بعد الزخم
شهدت تونس بعد سقوط نظام بن علي في 2011 مرحلة استثنائية من النشاط الشبابي والاحتجاجي المكثف شكل نقطة تحول حقيقية في المشهد السياسي والاجتماعي للبلاد، فقد خرجت مجموعات شبابية متعددة نظمت وشاركت في اعتصامات وتحركات في الأحياء الشعبية بالعاصمة والمدن الداخلية لتتحول إلى رقم صعب في المعادلة السياسية الاجتماعية، مسلّطة الضوء على فجوة واسعة بين ما تريده السلطة وبين حاجة المجتمع إلى إصلاحات حقيقية وملموسة.
لم يقتصر الحراك على المجموعات المعلنة، بل شمل شبانا وشابات من مختلف الخلفيات، تصدوا للعربدة ”الميليشياوية“ التي انتهجتها بعض النقابات البوليسية آنذاك وعملوا على دعم المتظاهرين والمعتصمين أثناء مواجهة القوانين المقيدة مثل قانون زجر الاعتداء على الأمنيين الذي أثار جدلًا واسعا باعتباره أداة لتجريم الاحتجاج الشعبي بدلا من حماية المجتمع. كما أبدت بعض مجموعات الألتراس، رغم تركيزها التقليدي على النشاط الرياضي، دعما ملموسا للتحركات الشعبية سواء بالحضور في الشارع أو عبر البيانات والرسائل والأغاني. على مدار العشرية التي تلت سقوط نظام بن علي أخذت هذه التحركات الشبابية نهج الضغط على الحكومة لتلبية المطالب الاجتماعية والمواجهة مع السلطة القائمة، غير أنّ هذا النشاط المكثف لم يدم طويلًا فبعد انقلاب 25 جويلية 2021 وانفراد سعيّد بالسلطة وتحويل ما تبقى إلى وظائف في خدمته، بدأ الحراك الشبابي يتراجع تدريجيا فقد تقلصت التحركات الميدانية بشكل كبير وابتعد كثير من الشباب عن المشاركة المباشرة ليقتصر النشاط غالبا على مبادرات رمزية محدودة أو دعم للقضايا الإنسانية الدولية مثل التضامن مع القضية الفلسطينية أو بعض التحركات المتفرقة التي لم تستعد بعد القدرة على تعبئة الشارع كما كان في السابق.

ظهر مصطلح ”جيل زد“ في تونس كمحاولة للإشارة إلى موجة احتجاجية جديدة، إلا أن التحركات التي ارتبطت بهذا الاسم لم تترجم على أرض الواقع ومعظمها ظل محصورا في النقاشات الرقمية أو ظهور من وقت إلى آخر ببعض الكتابات الحائطية خاصة في علاقة بملف التلوث البيئي في قابس، حيث تبادل الشباب الأفكار حول خطوات ممكنة ومبادرات مجتمعية دون القدرة الى حد كتابة هذه الأسطر على تحويل هذه النقاشات إلى تحركات ميدانية قادرة على فرض مطالبها على السلطة والمجتمع.
بعد سنوات من الحراك المكثف متعدد الموجات، يبدو المشهد الشبابي في تونس منحصرا بين الحذر والضغط الاجتماعي المحدود والمبادرات الرمزية. حراك دون القدرة على استعادة الزخم السابق أو بلورة تحركات مستمرة على الأرض للتعبير عن المطالب الاجتماعية التي تبقى غالبا محصورة داخل فضاءات رقمية تحاصرها السلطة الحالية عبر مراسيمها وقوانينها الزجرية، في حين أن الحراك الميداني أصبح شبه منعدم باستثناء بعض الفعاليات التضامنية أو المبادرات الفردية غير المنتظمة. لكن تبقى ميزة تحركات الجيل زد في كل العالم، وإن بقيت فوضوية بلا أفق سياسي واضح، هي القدرة على المباغتة وفرض معادلة ترعب كل نظام يحتقر مواطناته ومواطنيه ولا يعاملهم كدافعي ضرائب وممولين لميزانية الدولة ولأجور الرؤساء والوزراء وقوات البوليس التي يستقدمونها لقمع الحراك الاحتجاجي.
iThere are no comments
Add yours