بتاريخ 7 ديسمبر 2021، أصدر سعيّد الأمر الرئاسي عدد 223، المنشور بالرائد الرسمي والقاضي بحذف يوم 14 جانفي من قائمة العطل الرسمية وتعويضه بيوم 17 ديسمبر عيدا للثورة تُمنح بموجبه عطلة ليوم واحد. قرار لم يتوقف منذ صدوره عن إثارة الجدل، وطرح أسئلة عميقة حول من يملك سلطة تعريف التاريخ الوطني، ومن يكتب الذاكرة الجماعية للتونسيين، ومن يحدد لحظاتها المؤسسة مثل تاريخ الحركة الوطنية والثورة التونسية…

جزء واسع من الفاعلين السياسيين والمناضلين والمشاركين في أحداث الثورة، من مختلف الخلفيات الفكرية والأيديولوجية، يعتبرون 14 جانفي تاريخا مركزيا ومحوريا يستحق الفخر والاحتفال، ويرفضون ما يرونه تغييرا فوقيا للتاريخ لم يسبقه أي نقاش وطني أو تعبير عن إرادة جماعية، رغم إقرار كثير من الأحزاب ذات المرجعيات اليسارية بأن 17 ديسمبر يمثل شرارة انطلاق المسار الثوري والاحتفاء به رمزيا، إلا أنهم يعتبرون تغيير عيد الثورة محاولة للسطو السياسي على تاريخ مشترك وربطه بشخص من يحدد موعد الاحتفال به.

يتجدد هذا الجدل سنويا مع حلول ذكرى الثورة، ويبدو مرشحا للاستمرار في ظل وجود نية لدى عدد من الأحزاب والفاعلين المدنيين، من مشارب فكرية مختلفة، تنظيم تحركات احتجاجية أو رمزية بشارع الحبيب بورقيبة، تمسكا بتاريخ هروب بن علي وعائلته من غضب المتظاهرين واحتجاجا على عودة الظلم والاستبداد.

غير أن هذا الصراع حول الرموز والتواريخ ليس حدثا طارئا، بل يندرج ضمن جدل قديم حول السردية التاريخية الرسمية، رافق الدولة التونسية منذ الاستقلال مرورا بفترة حكم بن علي وصولا إلى ما بعد الثورة.

ومن خلال قراءة هذا المسار، تبدو مقولة ”التاريخ يكتبه المنتصرون“ شديدة الالتصاق بالحالة التونسية، إذ غالبا ما ترافق كل قطيعة سياسية كبرى إعادة ترتيب لأجندة الذاكرة الوطنية، في محاولة لمحو ما سبقها من رموز وأعياد، لتتحول بعض التواريخ من محطات جامعة للشعب إلى علامات دالة على السلطة أو رأسها، لا على المواطنين وتاريخهم المشترك.

 تواريخ وطنية جامعة أو أجندة على أهواء الرؤساء

حرصت الأنظمة السياسية المختلفة في تونس منذ دولة ما بعد الاستقلال إلى اليوم، على ترسيخ سرديَتها التاريخية وقراءتها الخاصة للتاريخ المشترك للتونسيين، فكان اختيار معظم الأعياد الوطنية مرتبطا بتوجهات السلطة السياسية.

قد يجوز القول بأن هناك محاولة لشخصنة بعض تواريخ تونس الكبرى في ذوات رمزية، على غرار ربط الاحتفال بذكرى إعلان الجمهورية، بانقلاب سعيّد في 25 جويلية 2021، وكذا ربط تاريخ 7 نوفمبر بانقلاب بن علي على بورقيبة، في حين أن التاريخ كان ولعقود طويلة ذكرى لإحياء شهداء أحداث الجلاز باعتبار 7 نوفمبر 1911 يوما فارقا في تاريخ النضال ضد الاستعمار، يكاد يكون مجهولا لأغلب التونسيين خاصة من غير المهتمين بالسياسة.

صورة أرشيفية لمحاكمة المناضلين الوطنيين عقب احداث 7 نوفمبر 1911 المعروفة بأحداث الجلاز – نواة

 وهنا يمكن اعتبار التاريخ الرسمي وخاصة اختيار تواريخ الاحتفالات لا يهدف في معظمه إلى الاحتفاء بأحداث تاريخية مهمة، بل يندرج عبر مختلف الأنظمة الحاكمة في إطار أسلوب ”البروباغندا“ السياسية من أجل ترسيخ سلطة الأنظمة وتلميع صورتها.

هنا تنتهج سلطة 25 جويلية نهجا مختلفا عن باقي الأنظمة التي مرت على تونس، حيث ان نظام سعيّد كان ميالا إلى اختيار تواريخ دولية/ عربية تحمل دلالات ورمزيات مرتبطة في عمقها بالمصطلحات التي يستعملها الرئيس في خطابه مثل تاريخ إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية 7 أكتوبر، وهو ذكرى العبور وحرب التحرير في مصر، وهي مصطلحات وعبارات بنى عليها الرئيس سعيد خطابه كعبارات معركة تحرير التونسيين من الفاسدين والمتآمرين وتولي الوطنيين الصادقين زمام السلطة من أجل خلق نموذج سياسي جديد على المستوى العالمي لا التونسي فقط.. وكلها مفردات ترتبط بصانع التغيير الجديد.

في تصريحه لنواة أكد أستاذ التاريخ الثقافي بجامعة تونس، لطفي عيسى على هذه المقاربة حيث فسر بأنه:

ليس غريبا أن تفضي أشكال تصريف شؤون الدولة بطريقة غلبت عليها النوازع الفردية التسلطية، وهي من صميم موروثنا السياسي على مدى قرون، تداول خلالها أمراء وحكام وسلاطين السلالات الأغلبية والصنهاجِية والحفصية والمرادية والحسينية، على توظيف جميع الاحتفالات الدينية والدنيوية لتلميع صورة الحكام وكذا السلالة التي أسسُوها أو نسلُوا عنها. بعد الاستقلال حرص بورقيبة على ربط تاريخ الحصول على الحكم الذاتي غرة جوان 1955 تاريخ عودته من المنفى لا يوم 3 جوان تاريخ إمضاء بروتوكول الاستقلال الداخلي، مع الإغضاء عن ملاحم الفلاڨة والمقاومة المسلحة في الجنوب، وجميعها وقائع لم يتم الحرص على ربطها بالذاكرة الوطنية احتفاليا. كما عمد الرئيس الأسبق بن علي إلى إلغاء عطلة الاحتفال بعيد الجلاء يوم 15 أكتوبر، مستبدلا إياها بعطلة الاحتفال بالسابع من نوفمبر. أما تداخل الاحتفال بإعلان الجمهورية يوم 25 جويلية 1957 بإحياء ذكرى وفاة الباجي قائد السبسي باعتباره أول رئيس منتخب بشكل ديمقراطي يوم 25 جويلية 2019، إضافة الى الاحتفال بحل سعيّد البرلمان في نفس اليوم من سنة 2021، لا يمكنه غير بث البلبلة في الأذهان ومزيد تقسيم التونسيين بخصوص جدوى الاحتفال والاعتبار بذكرى إرساء الحكم الجمهوري سنة 1957، بعد أن انقلب الأمر في أذهانهم إلى واقعة تماثل في التاريخ الإسلامي رفع الامويين لـ “قميص الخليفة المقتول عثمان بن عفان“ أمام خصومهم من شيعة علي بن أبي طالب. لذلك فإن الحديث عن حضور الدعاية أو البروباغندا السياسية فرضية يصعب تفنيدها أو التنازع بشأن حقيقة حضورها.

يؤكد هنا الأستاذ عيسى على عراقة الانتقائية بدافع أيديولوجي وخاصة سياسي في اختيار الأحداث التاريخية التي وجب الاحتفاء بها وترسيخها في الذاكرة ”الوطنية“ الجماعية وهو ما جعل الكثير من الأحداث تختلط في أذهان التونسيين وجعل الأعياد الوطنية تفقد أهميتها شيئا فشيئا لتتحول إلى ما يمكن تسميته بمناسبات فلكلورية بلا روح أو مجرد يوم إجازة خالصة الأجر.

هذا ما يجعلنا نتساءل حول كيفية كتابة التاريخ الرسمي في تونس، خاصة من زاوية اختيار الأعياد والمناسبات الوطنية ذات الرمزية الكبرى.

 يفسر الأستاذ لطفي عيسى الامر كالتالي ”ينبغي أن نعترف بدءا، أن تقاليد إحياء الأعياد الوطنية شهدت فتورا ملحوظا وذلك بالتوازي مع ضمور النموذج المجتمعي لدولة الاستقلال، أو قل وصوله إلى الحدود الموضوعية الإيجابية. فقد تحولت مختلف الأعياد التي تحيل إلى مفاصل زمنية استثنائية إلى عطل وأيام راحة مُفرغة من كل روح وشحنة رمزية. وليس بعيدا أن يكون لرفض هيمنة القراءة الرسمية بخصوص تلك المواعيد، بل ووسمها بتزييف الحقائق من قبل طيف واسع من معارضي تلك القراءة، يمينا أو يسارا، دور لا يستهان به في حصول ذلك. عمليات توظيف التسلطية في شخص كبار رموزها لمختلف تلك التواريخ الرسمية أو للبعض منها في خدمة مشاريعهم السياسية وتصوراتهم، لا يمكن أن تخطئه كل عين بصيرة.“

مجسم عربة محمد البوعزيزي وسط مدينة سيدي بوزيد كرمز لاحداث الثورة وربطها بتاريخ 17 ديسمبر – صور نواة

نفهم من خلال هذه القراءة المعمقة لخلفيات اختيار التواريخ الرسمية وكيفية تفاعل الطيف السياسي من مختلف المشارب السياسية معها خلال مختلف الأنظمة الحاكمة، أن المحطات التاريخية الكبرى التي ترى الأنظمة الحاكمة وجوب الاحتفاء بها، لا تخضع في حقيقة الأمر لمعايير مقبولة مثل مدى أهمية الحدث التاريخي بالنسبة لعموم التونسيين، بل تحدد في الجانب الأكبر منها حسب أهواء الزعماء ومدى خدمة ذلك الاحتفال لمشروعهم السياسي وديمومة سلطتهم ومحاولة تخليد ذكراهم كحكام.

ومن هنا سوف نخوض في خفايا وخلفيات كتابة التاريخ الرسمي التونسي خاصة من زاوية أحداثه الكبرى الذي يظهر الآن مثلا في الاختلاف الواضح بين سردية سعيد ومعارضيه حيث يعتبر الأغلبية أن قراءة الرئيس فردية تسلطية لا تحترم الاختلاف في القراءات وتحاول فرض رؤية تسلطية على أرض الواقع تجلت من خلال تغيير موعد الاحتفال بعيد الثورة وهو ما بينه الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي نبيل الحاجي في تصريحِه لنواة:

حسب قناعاتي الرئيس لا يريد الاحتفال لا بهذا التاريخ ولا بذلك، تغيير التاريخ ليس مرده فكر معين أو قناعة معينة كما كان يصرح الرئيس في خطابه: (الثورة أُجهضت في 14 جانفي) بل مرده ربط التاريخ الجديد في ذهن التونسيين بالرئيس. حتى الإقرار بسردية 17 ديسمبر كتاريخ اعتباري للثورة بدل 14 جانفي نجدها بلا رموز ولا زعماء باستثناء محمد البوعزيزي الذي أضرم النار في جسده، لكن الشباب الذي خرج إلى الشوارع وانتفض ضد السلطة المستبدة، اليوم، تقريباً لا يذكرون الا على نطاق ضيق محلي لا يتجاوز الحي السكني او الدائرة الترابية التي ينحدرون منها، فبالكاد نجد أسماء معروفة، حتى الآن لا توجد قائمة متفق عليها رسمياً أكثر من ذلك، لا توجد أسماء متداولة حالياً كرموز لهذه الثورة. ومن يريد الاستبداد بالسلطة يخشى من ظهور أسماء وعناوين يقتنع بها الشعب ويبني عليها سرديتِه. لذلك يجب أن تبقى السردية مقتصرة فقط على اسم القائد ”الهمام“ الذي يتحكم في كل شيء، والذي يُعتبر قائد الثورة وكل شيء آخر.

يشترك الحاجي في هذه القراءة مع أغلب الطيف السياسي المعارض الرافض للقرارات الفوقية التي يتخذها الرئيس سعيد دون فتح باب النقاش مع أحد، لا هياكل وسيطة من مجتمع مدني وأحزاب ولا حتى هياكل عمومية مثل الجامعات ومراكز البحوث المتخصصة في البحوث التاريخية والسياسية وهو ما يعبر حسب رأيهم على نزعة تسلطية واضحة وعن خوف شديد من كل عقل قادر على كشف تخبط الخطاب الرئاسي وإغراقه الرأي العام بنظريات المؤامرة السهلة لتفادي التقييم والمحاسبة.

يعبر موقف الحاجي بكل وضوح أيضا على أن الجدل حول التواريخ الرسمية لا يقتصر على الفترة السياسية الحالية، بل هي السمة الرسمية لكل فترة سياسية تغلب عليها النزعة التسلطية وهي قراءة طيف سياسي ومدني واسع تشكك في مشروعية تغيير تاريخ الاحتفال بعيد الثورة وتعتبر أن التاريخ الأهم هو 14 جانفي ذكرى رحيل بن علي.

دائما ما كان التاريخ السياسي الراهن في تونس مثيرا للجدل، ودائما ما اتهمت الأنظمة المتعاقبة بكتابة التاريخ وفق أهواء الزعيم الأوحد، بهدف إعطاء الشرعية للسلطة الحاكمة والمشروعية الرمزية لما تحمله من توجهات ومشاريع سياسية تريد تطبيقها على أرض الواقع.

من هذه الزاوية تحديدا يمكن أن نفهم علاقة الأعياد الوطنية بطبيعة النظام الحاكم وهو ما فككهُ محدثنا الأستاذ لطفي عيسى ”ما من شك أن فكرة الاحتفال بالأعياد الوطنية ميراث يتصل بترسيخ تاريخ الدولة الوطن، وهو ما تلازم مع نشأة الأيديولوجية الوطنية، وفق ما تبسط في التعريف به والكشف عن محاذيره أيضا العديد من المؤلفات المنهجية والمرجعية الهامة، على شاكلة كتاب ”الوطن والوطنية” لـ ”إرنست غلنير Ernest Gellner“، أو العروض التي خطها ”هايدن وايت Hayden White“ حول ”الميتا تاريخ، أو التاريخ المتخيل في القرن التاسع عشر“. وغيرها من البحوث التي تكشف عن سياقات تشكّل تلك الرؤى، وتحوّلها بالتدرج إلى سجل معياري وقيمي ثابت، سعى دائما إلى ربط مناهج تدريس المواد الإنسانية والاجتماعية بحاجيات الدولة-الوطن السياسية.“

14 جانفي 2015 قصر قرطاج – احتفالية عيد الثورة سنة 2015 تحت رئاسة الباجي قائد السبسي – رئاسة الجمهورية

يحلينا تفكيك وتحليل أستاذ التاريخ الثقافي لطفي عيسى إلى جملة من الأسئلة أشمل من الاستفسار حول تواريخ الأعياد الرسمية إلى كتابة التاريخ المشترك خاصة من خلال المؤسسات الرسمية. حيث نستذكر النقاش المتواصل حول تاريخ الحركة الوطنية ومحاولة تكثيف المسار الطويل من النضال ضد الاستعمار في شخص الرئيس بورڨيبة بداية من إطلاق اسم المجاهد الأكبر وصولا لما وصفه قسم من المثقفين والمناضلين والفاعلين السياسيين خاصة من التيار اليساري والقومي بمحاولة تغييب أي دور لأي جهة قد تنازع بورقيبة شرعية حكمه المرتبطة بنضاله زمن الاستعمار، من ذلك تغييب الشيوعيين رغم تقاسمهم الزنازين والمعتقلات مع بورقيبة نفسه، أو تغييب دور الفلاڨة وملاحم الكفاح المسلح، أو ما لحق باليوسفيين بعد ذلك وقرار تغييبهم عن التاريخ الرسمي الذي يدرس في المدارس والجامعات التونسية، حيث اعتبروا أن البحوث التي راكمَها المعهد العالي للحركة الوطنية[1] (المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر حاضرا) على أهميتها وقيمتها العلمية، قد بقيت وفيّة عامة للقراءة الرسمية، ولم تفلح في صياغة عروض تاريخية معرفية تتسم بالموضوعية وتقتضي الإنصاف في معالجة الوقائع والأحداث. غير أن الأستاذ لطفي عيسى يرى في هذه القراءة الكثير من التجني على مجهود المعهد والمؤرخين والدارسين لتاريخ تونس المعاصر والراهن بشكل عام حيث وضح أن:

هذه القراءة ليست دقيقة، لأن الاشتغال بالتاريخ المعاصر وبتاريخ الزمن الراهن لا ينبغي اعتباره مسألة محسوما في أمرها أو مبذولة، كما تسعى القراءة الرسمية للتواريخ الوطنية إلى توريط البحث المعرفي في ذلك. فقد دأبت الجهات السياسية الرسمية على احتضان ومراقبة أداء تلك المؤسسة الـمُحدثة في 16 نوفمبر سنة 1989. بيد أن معظم أبحاث أجيال المؤرخين المحسوبين عليها لم تنخرط في تلك الرؤية ولم تقبل بذلك السقف، حتى وإن عبر بعض الباحثين على استعداد للتصديق عن ذلك. وهو ما يثبته جانب من الدراسات المنشورة ضمن مجلة المعهد “روافد“، وضمن أعمال مختلف الملتقيات الدورية وأعمال المؤتمرات التي حرص المعهد على تنظيمها كل سنتين. بيد أن الاستعاضة عن تسمية تاريخ الحركة الوطنية لتاريخ تونس المعاصر يؤشر من جانبه ومنذ حلول سنة 2011 عن التمسك بالدفاع عن الحريات الأكاديمية والارتقاء بمستوى المباحث المنجزة ضمن ما درجنا على تسميته بـ ”تاريخ الحركة الوطنية“ وتاريخ تونس المعاصر وتاريخ الزمن الراهن أيضا.

يوضح هنا نبيل الحاجي أمين عام التيار الديمقراطي أنه إذا عدنا إلى توطئة دستور 2022، نجد أنه ينص لا على ”تصحيح مسار الثورة“، بل ”تصحيح مسار التاريخ“، وهو ما تم يوم 25 جويلية 2021 في ذهن قيس سعيد، رغم أنه لم يشارك في التاريخين (لا 17 ديسمير ولا 14 جانفي) ولا حتى فيما بينهما، قرر في توطئة دستوره أن يكون هو صاحب مسار الثورة ومُصلح مسار التاريخ، ليس فقط مسار الثورة التونسية، بل مسار التاريخ التونسي برمته. من الواضح أن ما يحرك قيس سعيد ليس الإشكال حول التاريخ، بل قناعته بأنه يجب أن يكون هو المركز في كل عملية تفكير أو سردية تبنى عليها فكرة التغيير إذن قيس سعيد يريد أن يصبح هو ”مُصحح مسار التاريخ“.

إنّ تغيير تاريخ الاحتفال بعيد الثورة لا يمكن اختزاله في كونه مجرد تعديلٍ لتواريخ رسمية أو استبدال يوم عطلة بآخر، بل هو فعل سياسي مكثّف يندرج في سياق إعادة كتابة الذاكرة الجمعية على مقاس الرواية التي يريدها الرئيس لتاريخ الثورة التونسية.

غير أنّ الرئيس يتجاوز هذه المفاهيم الخلافية كلها، ليؤسّس خطاباً خاصاً به يقوم على عبارتين مفتاحيتين: ”الانفجار الثوري غير المسبوق“ و”تصحيح مسار الثورة“. وهاتان العبارتان ليستا مجرد استعارات لغوية، بل هما جزء من هندسة تصورٍ سياسي يقوم على احتكار تفسير الماضي وتحديد معالم المستقبل. فإعادة ضبط المواعيد الوطنية من طرف واحد ينسجم تماماً مع فلسفة الرئيس الرافضة للاعتراف بالأحزاب وبالهياكل الوسيطة، مقابل تكريس تمركز فعلي للسلطة في يد الجهاز التنفيذي، في حركة تعيد ترتيب العلاقة بين الدولة والمجتمع وفق منطق أحادي يفرض سرديته بوصفها السردية الشرعية الوحيدة، لكنه يعيد في نفس الوقت انتاج أسباب الرفض الشعبي لهذه التصورات الأحادية التي تفرض على المجتمع والتي أفرزت تاريخ 17 ديسمبر ومن ثم 14 جانفي.


[1] المعهد العالي للحركة الوطنية : مؤسسة بحثية تابعة لجامعة منوبة تهتم بالتاريخ المعاصر للبلاد التونسية