المصدر: «الحقائق» الدولية

أجرى الحوار: الطاهر العبيدي

عقدت حركة النهضة التونسية في المدة الأخيرة مؤتمرها الثامن في المنفى، ليعاد تجديد مسؤولية الرئاسة للشيخ راشد الغنوشي، بعد انسحاب بعض الأسماء المرشحة لهذه المهمة من بينهم: عامر العريض – الدكتور عبد المجيد النجار – رضا إدريس…ليخرج المؤتمر بخلاصات ونتائج وتوصيفات وتوصيات، وقد سبق هذا الأخير جدل وسجالات ومطارحات ومصارحات، تصاعدت حرارتها خصوصا السنوات الأخيرة على مواقع الانترنيت وضمن المجالس، حول الأداء السياسي للحركة، والآفاق المستقبلية، والعلاقة مع السلطة، وأوضاع المساجين السياسيين، وتململ المغتربين، ومفهوم المصالحة وحالة الترقب، وغيرها من التعبيرات الموالية والمعاكسة والمحايدة، وفي إطار المتابعة والمواكبة الإعلامية، ارتأت الحقائق الدولية أن تستكشف بعض الرؤى المعاكسة، دون أن تكون طرفا من الطبيخ الداخلي، سوى محاورة الاختلاف الفكري والسياسي، وتسليط الأضواء على التباينات داخل حركة لا تشذّ عن واقع التيه العربي والإسلامي، عبر هذا الحوار مع الشيخ خميس الماجري، أحد المؤسسين لحركة النهضة التونسية، والمستقيل أخيرا احتجاجا على جملة من المآخذ الفكرية والسياسية والمنهجية كما يقول:

 أنت أحد المؤسسين لحركة النهضة التونسية / الاتجاه الإسلامي سابقا والموجود حاليا بالمهجر، على إثر موجة الفرار من تونس للعديد من كوادر وقواعد الحركة، نتيجة المحاكمات والتضييق، رأيناك نشرت استقالتك علنا، فهل هذا الانسحاب هو اعتراض على النهج العام للحركة، أم عدم توافق مع الخيارات، أم لأسباب شخصية، ولماذا انتظرت كل هذه المدة لاتخاذ مثل هذا القرار؟

 بسم الله الرّحمن الرّحيم والصّلاة والسّلام على أشرف المرسلين وعلى آل بيته وعلى أصحابه ومن تبع هداهم إلى يوم الدّين.

في البداية أشكرك أستاذ الطّاهر العبيدي ومن خلالك أحيي «الحقائق» الدولية هذا المنبر الإعلامي المتميز شكلا ومحتوى.

لم أعلن استقالتي لأسباب أربعة: أوّلها إشفاقي على أهل الدّاخل، وثانيها ترقّب شيء من الانفراج في البلد، وثالثها الظّلم المفرط الذي أصابني من نهضة المهجر، ورابعها أنّي

لم أجد جهة شرعيّة أتوجّه إليها بالاستقالة، فلمّا أطلق سراح جزء كبير من القيادة التّاريخيّة من السّجن نشرتها في العلن مسجّلا عدم اعترافي بشرعيّة نهضة المهجر!

 تقول انك استقلت احتجاجا على العديد من الانحرافات الفكرية والسياسية والعقائدية، في حين أن الطرف المقابل يؤكد أنه وقع طردك من الحركة، لعدم التزامك تنظيميا في عدة قضايا وتجاوزك المؤسسات؟

 هذه أقوال غير موثّقة، وأنا لست على علم بهذا إذ لا يمكن لعاقل أن يعلن استقالته وهو خارج الجسم التّنظيمي. فبعد أن تبيّن لي أنّ الإصلاح غير ميسّر بل غير ممكن داخل مجموعة ساكنة ومعاندة، كما رشح لي أنّ وجودي ضمن جماعة جامدة يضفي لها شرعيّة لا تستحقّها، جهرت بما أراه من اجتهاد، فعوديت شرّ معاداة، من خلال استقالتي1 التي أزعجتهم وأربكتهم.

إنّ الأصل في قبول الخبر سنده، والقول يقوى بمعرفة ممّن صدر وفي حقّ من قيل، إذ لا بدّ من دليل قويّ يستند عليه في تلك الأقوال التّي لا تصحّ إلاّ بفضل قائلها وبدلالة الدّليل القطعيّ عليها. والعاقل المنصف لا يقبل أيّ قول من الطّرف “الخصم” وفي هذه الحالة هو الحزب، فكيف يكون خصما وحكما وهو لا يمتلك مؤسّسة قضائيّة قويّة أمينة مسؤولة ومستقلّة. وأنا بهذه المناسبة أتحدّاهم من جديد أن نفتح الملفّات الكبيرة والضّخمة العالقة، وسنرى هل يبقى نفر واحد في تلك الحركة التي صارت حبسا خاصّا للمحافظين ومورد ثراء فاحش لهم. لقد تبيّن لي أنّ حركة نهضة المهجر صارت في يد قبضة “قائد” التفّ حوله بطانة منتفعين صاروا يشكّلون هيئة قياديّة حديديّة محافظة تدافع عن مصالحها، تمتهن طعن وإذلال وإهانة كلّ مسلم خالفهم ويعلون من كعب كلّ يساريّ استئصالي ينافقهم.

 نلاحظ من خلال ما تكتب أنك تحمّل النهضة المسؤولية السياسية عن الأزمة بالبلاد، في حين أنك أحد المؤسسين وأحد القيادات، فأين كنت وقتها لتستفيق الآن، وترمي الأخطاء على غيرك وتبرّر نفسك؟

 إنّي وللّه الحمد لم أساهم في أيّ حادث كارثيّ ارتكبته الحركة، بل إنّ أفرادا قلائل زجّوا بها إلى عدّة مغامرات من بينها الإعلان السّياسي في 6 جوان 1981، حيث كنت في أقصى الشّمال الغربيّ ، وفي المحاولة الانقلابيّة سنة 1987 لم أكن على علم بها لأنّي كنت في حالة مطاردة وملاحقة، أمّا في سنة 1989 فقد كنت ممّن رفض الدّخول بكثافة في الحملة الانتخابيّة، والذي زجّ بالبلد في المغامرة هو الأستاذ الغنّوشي الذي خالف قرار مجلس الشّورى الذي كنت أحد أعضائه، حيث وقفت بكلّ قوّة رافضا مغامرة الإستعصاء وفرض الحرّيّات ثمّ سجنت بعد ذلك، ولا يمكن بأيّ حال تحمّل مسؤوليّة ما قُرّر بعدي. هذا وإنّه بحمد الله وفضله لم تؤت الحركة يوما من قبلي ولم أخن ولم أضعف حتّى أيّام كنت أسلخ بين جزّاري الدّاخليّة ولم أعطهم اسما أو معلومة رغم المعاملة المهينة والعذاب الشّديد الذي كاد أن يؤدّي بحياتي. ولقد عارضت ـ منذ السّبعينات ـ الكثير من المسائل ومن اجل ذلك دفعت فاتورة تلك الاعتراضات

ومعلوم أنّ الفرد يذوب في الأغلبيّة لأنّ القرار في المؤسّسات للأغلبيّة، وهذا من كوارث العمل السّرّي، بمعنى أنّ صوتا واحدا يقرّر في مسائل خطيرة وعظيمة، وقد يكون هذا الأخ متعبا أو نائما ثمّ يفيق حال التّصويت ليزجّ بالحركة في خيار خطير. ولقد نصحتُ ما استطعت داخل البلد وداخل المؤسّسات، ولكن لم أوفّق مع أغلبيّة إخواني إلى ضبط الغنّوشي على الاعتدال والتّواضع للمؤسّسات واحترامها وعدم تهميشها. 

وفي المهجر وجدت جيلا جديدا لم يتحمّل مسؤوليّة أسرة بيت في حياته، طار بدون ريش، وترأّس بدون علم، وجدته في المواقع الأولى دون شرعيّة تاريخيّة أو تمرّس أو تواضع أو حتّى نجاح في دراسة، فواصلتُ النّصح والإصلاح ضمن “مبادرة مجموعة 12″، منذ 1995. وهنا أغتنم هذه الفرصة لأدعو هؤلاء الإخوة أن يشهدوا للّه تعالى شهادة صدق وأن يقولوا كلمة حقّ فلقد صمتوا طويلا وأدعوهم أن يتحمّلوا مسؤليّتهم التّاريخيّة كاملة، فلمثلهم قال تعالى: “ولا تكتموا الشّهادة”. لقد دُمّرت تلك المبادرة، فواصلتُ بمفردي عبر الكتابة في مواقع النتّ القريبة من تلك الحركة التي عادتني هي بدورها وروّجت لعفن ضحايا التّعصّب وحاصروني من البيان وكانوا ظالمين. لقد حاولتُ أن أسهم في لفت الانتباه إلى ضرورة:

ضبط المرجعيّة في الفكر والعمل التزاما بأصل سنّي عظيم وهو قاعدة: العلم قبل القول والعمل.

القطع مع الغلوّ في الأشخاص والهيئات لأنّه ما دخل الشّرك والفساد إلاّ من باب الغلوّ في الصّالحين.

القطع مع انتهاج الجبريّة في تكريس الزّعامة المغامرة من جهة وتحميل السّلطة وحدها كلّ أسباب الاستبداد.

الحسم في المنهج المتحلّل والتّنظيم المزدوج والمتلوّن، وغير ذلك من المسائل كما دعوت إلى التّحلّي بالجرأة الضّروريّة للنّقد الدّاخلي والذّاتي العميق والشّامل وتعميمه وإعلانه حتّى نؤسّس لخلق التّواضع والمسؤوليّة فذلك أدعى لتقويم الذّات ومجلبة لاحترام الآخرين وطريقا للمصالحة والتّعايش.

 نسمعك قولا وكتابة تتهم حركة النهضة بأنها من تعطل المصالحة لفك الاشتباك مع النظام، في حين أن معلوماتنا مستقاة من الكوادر الأمامية للحركة تؤكد لنا، أن هذه الأخيرة طيلة هذه السنوات لم تتخل عن هذا المنحى، وسعت إلى ذلك عمليا عبر العديد من الوساطات، نذكر منها على سبيل المثال توسيط الأمير عبد الله الذي فاتح الرئيس زين العابدين ووعده إيجابيا، مرورا بوزير الخارجية السابق محمد المصمودي، والشيخ القرضاوي لما فاتح الأسد في هذا الشان، غير أن السلطة بقيت جدارا عازلا تجاه كل هذه المحاولات المتعدّدة؟

 هذا يدلّ على ما فيه القوم من مأزق وتخبّط، يتعللون دائما أنّ البلاء يأتي من طرف السّلطة، في حين أنّهم يذلّون لها سرّا و”يتعنترون”عليها علانيّة! إنّ التّنازلات العقائديّة القاسية المذلّة التي قدّمتها حركة النّهضة لليسار الاستئصالي، والتي نالت من شرعيّتهم لهي أضخم بكثير من تنازلات سياسيّة مرتقبة منهم تجاه السّلطة، وعليه فإنّ هذه الوساطات التي لم نسمع بها إلاّ من جانبهم، لابدّ أن تكون ضمن مسلك سياسيّ متعقّل، لأنّ السّلطة لا تثق في الوساطات دون سلوك سياسيّ متناسق ومتوازي، فهي تنتظر تغيّرا في السّلوك السّياسي والخطابيّ للحركة، وعندما ترى أنّ الذين يتحمّلون المسؤوليّة اليوم لا يزال خطابهم متّنطّعا ومتشنّجا، وسلوكهم السّياسيّ لا يزال محافظا على التّلوّن والازدواجية، والمكابرة والغرور والإستقواء باليسار في تحالفات المغالبة المشبوهة، فكيف تقبل السّلطة بتلك الوساطات، لأنّه ببساطة يهمّها سلوك الحركة ولا يهمّها الوسطاء،لقد كنتُ ممّن تحمّل قيادة الحركة بعد مواجهة1981 وفي ظرف أربع سنوات فقط رفعت مظلمة السّجن، للسّلوك والخطاب المعتدل الذي سلكناه، رغم وجود بورقيبة في قيادة الحزب الحاكم في ذلك الوقت. وهم اليوم في سلطة النّهضة منذ 17 سنة فماذا فعلوا؟

لقد اتّصلت بي السّلطة سنة 1997 ولكنّ جهاز نهضة المهجر ـ مع الأسف الشّديد ـ لم يحسن التّعامل مع ذلك الاتصال، ولربّما كنت ومجموعة 12خير وسيط، ولكن ماذا تفعل مع قوم لا يثقون في إخوانهم الذين أبلوا البلاء العظيم طوال تاريخهم، وضحّوا بكلّ غال ونفيس، وقضوا زهرة حياتهم في رحم تلك الحركة عطاء وتضحية وفداء، فإذا كان”رئيس” النّهضة لا يثق فيهم، وهم قيادات تاريخيّة كانوا معه منذ السّبعينات، فكيف يثق ابن عليّ في الغنّوشي؟ والعجيب كيف يثق هؤلاء في وساطات رجال سياسة عليهم مؤاخذات من لدن شعوبهم. سيقول أحدهم: لقد اتّصل بك أحد رؤوس المخابرات، أقول: نعم هذا صحيح، فما هو ذنبي وما هو العيب في ذلك ولقد أعلمت كلّ الإخوة بذلك؟ فهل علم هذا المعترض أنّ العالم كلّه أصحاب القرار الفعليّين فيه هم أهل المخابرات وأنّ رجال السّياسة يقرّرون بما توفّر لهم من معطياتهم؟ فهل علم هذا المعترض أنّ علاقات نهضة المهجر بالمخابرات الفرنسيّة الحميمة والمفتوحة وصلت إلى مستوى الدّعاء بالشّفاء لوزير داخليّتها الأسبق في بيان سياسيّ ممضى من طرف رئيس المكتب السّياسي لحركة النّهضة الحبيب المكني، ألا يعلم أنّ هذا الأخير يخبر الأجهزة الفرنسيّة بنشاطات حركته؟ هذا حقّ ولا أريد إلاّ أن أبيّن للمهرّجين المزايدين على الشّرفاء، أن لا تفتحوا هذه الأبواب فهي ستحرقكم. والله إنّنا نريد أن تحلّ الأزمة ولقد هممنا بذلك منذ 1995 ولكنّهم صدّونا عن ذلك! ألسنا متضرّرين ولا أبالغ إن قلت: إنّ أكثر المستفيدين من هذا الوضع القائم هم الذين اختطفوا نهضة المهجر، وانظر إليهم كيف يتصرّفون مع كلّ من يدعو إلى المصالحة وحلّ الاشتباك القائم مع السّلطة، فهل هذا السّلوك يليق بمن يدفع بالوساطات، ومع الأسف، فإنّ هؤلاء يضعون أنفسهم في مآزق لا مخرج منها.

 لا تترك مناسبة إلاّ وتنتقد فيها الشيخ راشد الغنوشي حول أدائه السياسي، وتصل إلى حد اتهامه بالتناقضات الفكرية، مما أوحى للبعض أنه بينك وبين الشيخ راشد الغنوشي، خصومة شخصية ألبستها الثوب الفكري؟

 لقد عدّ أهل العلم الكلام المذموم أعظم من شهادة الزّور، وهؤلاء مع الأسف ليس عندهم إلاّ هذا الكلام، وهو من الحيدة المنكرة والتكلّف المحرّم و الضّجيج المصطنع والتّشويش المفتعل، والكلام المرسل المبغوض المضلِّل الموجَّه نحو كلّ من يريد أن يصوّب إلى ما يراه حقّا ومصلحة للدّين والعباد والبلاد. هذه تهم سياسيّة كيديّة لا تصدر إلاّ من استئصاليّين “شخصنوا” الخلاف وشحنوا القلوب، أنا أعالج أفكارا وسلوكا سياسيّا وهم يطعنون في نيّاتي.نعم، لقد أشرت إلى علل فكريّة خطيرة للأستاذ وإلى تناقضات عظيمة وشطحات عديدة، متحمّلا مسئوليتي في كبح جناح التّفلّت والفوضى فما العيب في ذلك؟ فهل ارتكبت ناقضا من نواقض التّوحيد؟ إنّي لم أرتكب في حقّه ذنبا شرعيّا. ألم يصحّح أهل العلم بعضهم بعضا؟ عجبا من قوم يشخصّون ويتّهمون غيرهم بذلك، لقد اتهموني في حملات تحريضيّة بـ “الجهل والعمالة والتّكفيري و الخارجيّ ، والسّلفيّ الجهاديّ” ورغم كلّ ذلك دعوتهم إلى الحوار ولا زلت أطالبهم بذلك. لقد اخترت أن أتحدّث بشفافيّة ووضوح، فهل كلّ الذين انتقدوا فكر الأستاذ الغنّوشي وتناقضاته وهم كثير جدّا ـ من تونسيّين وغيرهم ـ لهم خصومات شخصيّة معه؟ ولقد سعدت كثيرا بصعود صوت أخي الفاضل البلدي ـ أحد القيادات التّاريخيّة للحركة ـ وشهادته الآتية من داخل تونس التي تشجعّني على المزيد من البيان والتّوضيح. فهل يُسمح لهم أن يقولوا ويكتبوا ما يشاءون ويمنعوننا من نصحهم أو الإنكار عليهم! هذه آرائي لا أدّعي لها العصمة فليناقشوها وليكفّوا عن حرب التّهم الملفّقة هو خير لهم وأشرف وأسلم.

إنّه من المفيد جدّا أن ترتقيَ لغةُ الحوار إلى مستوى أخلاقيّ عال و أن نتجاوز هذه الحيدات، ونركّز على الأفكار عوض الطّعن في النّوايا، كما يجب أن نفرّق بين تعيير الفكر والمنهج والسّلوك السّياسي وبين تعييب الشّخص في خُلُقه أو خَلقه، أو سلوكه ونيّاته،.. فالّتعيير الفكريّّ نصيحة واجبة والتّعييب الشّخصيّ ممنوع. كما يجب أن يعلم كذلك أنّ من أكثر من التّناقض والغموض فقد جعل دينه ونفسه للخصومات.

 أنت تؤكد أنّ ضمور الجانب الدعوي أو تهميشه في الحركة نزع عنها صفة التمايز، حيث أصبحت لا تختلف عن غيرها من الأحزاب العلمانية، وحسب رأيك هي فاقدة للشرعية والمصداقية، في حين أن القول المعاكس يقول أن مميزات الحركة في الثراء والتنوع، حيث تجمع في داخلها مختلف الرؤى الفكرية والثقافية والسياسية والدعوية، وهذا يكسبها المناعة والتحصين ؟

 لا تغرّنك الأقوال؟ فأين هذا من الواقع؟ هذه شعارات لا أثر لها على الأرض، بل إنّ هذا لمن أشدّ مآزق القوم، إذ الواقع أصدقُ شاهدٍ، إنّهم صاروا حزبا فأين علماؤهم ودعاتهم وأين كتبهم وتسجيلاتهم وأشرطتهم وأين مواقعهم الدّعوّية وأين خطباؤهم، وإن كان ثمّة فمكتوب فقط، والمكتوب مجموعة تناقضات وتلوّنات، ثمّ أين هو أثر الدّعويّ والثّقافي على عملهم السّياسيّ؟ وأين أخلاقهم مع إخوانهم الذين خالفوهم؟ إنّهم استسلموا لليسار حتّى أنّهم لا يستطيعون أن ينتصروا للمعلوم من الدّين بالضّرورة لأنّهم اختاروا ومنذ زمن بعيد أن يضحّوا بدينهم من أجل السّياسة، لقد خضعوا للضّغوطات المذلّة واستدرجوا لشباك الأحلاف النّفعيّة الهشّة الملغومة المؤقّتة، إنّهم صاروا يرسمون مواقفهم على أهوائهم وإملاءات غيرهم لا على حسب مرادات الشّرع العزيز، لأنّهم لا يستطيعون أن يحرجوا حلفاءهم الملحدين، وما تصريحاتهم وإمضاؤهم على بيان8 مارس الأخير المخالف لصريح الكتاب والسّنّة إلاّ دليل على ما أقول4. ولكي تغطّي تلك الحركة هذا الخلل صنعت ما يسمّى”الهيئة العالمية لنصرة الإسلام في تونس”التي راسلتني أكثر من مرّة للإمضاء معها فرفضت، لأنّها هيئة خلفيّة خاضعة لإملاءات أجندة الحزب وشروط الحلفاء الشّرسين. لقد زادت هذه الهيئة في تعقيد الأوضاع ولغّمت ملفّ المظلمة، حيث لعبت تلك الهيئة مع اللّاعبين ففي حين يمضي “سياسيّو” النّهضة على مواثيق تطعن في الشّريعة، يأتي”صوفّية”هيئتها ليندّدوا بما جاء في ذلك البيان تكريسا للإزدواجيّة والتّناقض والتّلوّن، ليبيّنوا أنّ للحركة وجه علمانيّ وآخر دينيّ، كما هو حال السّلطة تماما سياسة علمانيّة ويقابلها مفتي ووزارة دين ومجلس إسلامي أعلى ورابطة القرآن.

لقد حان الوقت أن تجدّد تلك الحركة نفسها وأن تحسم في الفسيفساء التي استحال التوفيق بينها منذ 26 سنة. لا بدّ أن تحسم موقفها بين السّياسي والدّعويّ بكلّ شجاعة وجرأة ومسؤوليّة ووضوح فإمّا حركة ثقافيّة تلتزم بمطالب الشّريعة كلّها دون لفّ أو دوران وتلوّن ودون تعديل لها وتدخّل فيها، وتبتعد عن السّياسة وتفكّك التّنظيم وتنخرط في المجتمع الأهليّ دعوة وتعليما وخدمة، وإمّا حزب سياسيّ على طراز النّخبة وتتخلّى عن الدّين الّذي تستخدمه وتقدّمه مزيّفا يتساوق مع مصالحها، هذا هو المخرج من المأزق الكبير، أمّا مسك العصا من الوسط واللّعب على الازدواجية والغموض، وصناعة الهيئات وتقاسم الأدوار: هذا يطعن وآخر يدافع، هذا خطاب موجّه إلى صوفيّي الحركة وآخر موجّه لنخبتها و”للمجتمع المدنيّ” فما عاد ينفع أو يقنع أحدا، لقد قالوا أكثر من مرّة:” نحن لسنا حزبا دينيّا فكيف ندعو إلى تطبيق الشّريعة”، لقد تخلّت حركة النّهضة التّونسيّة عن سمتها الإسلاميّ وتدحرجت إلى علمنة مقنّعة برداء دينيّ رقيق، حتّى أنّ رئيسها الأستاذ راشد الغنوشي ليس من برامجه لمّا يتولّى السّلطة أن يدعو شعبه إلى الصّلاة أو الدّفاع عن الإسلام لأنّ للإسلام ربّ يحميه، في حين أنّه يسمح لشقراوات الغرب أن يسبحن عرايا تماما في شواطئ الزّيتونة وعقبة وأبي لبابة…

 تطرح نفسك كأحد دعاة المصالحة التأصيليّة، وقد نشرت ورقات في هذا المنحى، فما هو تصورك للمصالحة مع النظام التونسي، الذي رفض الحد الأدنى المتفق عليه من العائلات السياسية، ضمن حركة 18 أكتوبر المطالبة بـ (حرية التنظم – حرية الإعلام – العفو التشريعي العام) والتي تعاني المحاصرة والمصادرة وأنواع التضييقات؟ 

 إنّ أيّ سلطة لا يمكن أن تحصل على شرعّيتها إلاّ بأمرين أوّلهما بما التزمت به وثانيهما إذا استجابت إلى المطالب المشروعة لشعبها. والسّلطة في تونس أعلنت منذ فجر 7 نوفمبر أن لا ظلم بعد اليوم، وشعبنا لا يزال ينتظر تمثّل ذلك الوعد، والذي يبدو لي أنّ الّسلطة لا زالت لم تقتنع بعد بما هو ضروريّ لمصداقّيتها وحتميّ لتجدّدها، إنّها تطيل الأزمة حيث لا زالت تراهن على وهم الحلّ الأمني في تهشيم النّخبة والاستئصال في مواجهة الصّحوة والتّجفيف في مواجهة الأسلمة. فلماذا تخشى السّلطة من حرّيّة التّنظّم ومن العفو التّشريعي العام؟ ولماذا لا يكون ابن علي هو السّبّاق إلى ذلك؟ لماذا يترك هذا الأمر إلى من بعده؟ لماذا لا يتصالح مع كلّ شعبه؟ لماذا تبقى تونس حالة استثنائيّة بين جيرانها وفي المنطقة كلّها؟ إنّ تلك المطالب، هي الحدّ المعقول الذي يعيد مناخ الثّقة بين السّلطة وشعبها، وتحقيق ذلك ضروريّ لبسط الأمن الحقيقيّ لا الأمن الملغوم المغشوش وشرط صحيح للوصول إلى التّنمية الحقيقيّة لا التّسكينيّة الهشّة.

كما أنّ أعظم إصلاح ينتظره التّونسيّون – والمسلمون في العالم ـ من طرف السّلطة مصالحتها مع حقّ تديّن النّاس و أن تقلع عن تحكّمها في الإسلام ومؤسّساته ورجاله والملتزمين به. فلا يمكن أن يعالج أيّ ملفّ من الملفّات الضّخمة في بلدنا دون حلّ لهذا الحقّ الأعظم لشعبنا المسلم، لأنّه سبب الخلاف الأصليّ بين المجتمع وبين السّلطة، وإنّه بدون حلّ حقيقيّ وجوهريّ لهذا المشكل العالق والمستمرّ والذي يشهد مزيدا من التّأزّم فلن تحلّ الاشتباكات القائمة أبدا. ولو تركت السّلطة النّاس أحرارا في تديّنهم فهما وعملا ونشاطا علميّا ودعويّا وثقافيّا فسيحلّ أعقد ملفّ وأخطره، وهذا كفيل بتخفيف ثقل كلّ الملفّات الأخرى ومعالجتها بيسر، وهذا عمل عظيم يحسب لها إن سارعت إلى ذلك ولو بشكل متدرّج.

 هناك عودة إلى التدين في تونس وصفها البعض بأنها صحوة تلقائية، وأنت تقول أني سأسعى إلى ترشيد هذه الصحوة فما المقصود بهذا المصطلح؟

 نحمد الله تعالى على هذه الصّحوة الجديدة، ونتمنّى لها الأمان والتّوفيق وأن يحفظها الله من الانغلاق والانزلاق والاختراق. يا أخي الكريم كيف لا نهتمّ بما يصلح البلد وكيف ننسحب ونغفل ونتخلّى عن قضايا شعبنا؟ إنّ للصّحوة واجب النّصح وحقّ الأخوّة والنّصرة. والمبادرة التي شرعت في إصدارها منذ شهرين ضمن رؤية إصلاحيّة بعيدة المدى بعنوان”الإمام مالك رائد الإصلاح في تونس” تستهدف ترشيد كلّ الحركة الإسلاميّة في تونس ومن بينها بالتّأكيد هذه الصّحوة النّاشئة، أردتُ من خلال تلك المحاولة أن أجمع كلّ التّونسيّين شعبا وحكما على أصول نتّفق عليها جميعا وضعها الإمام مالك رحمه الله تعالى تكون بمثابة مرجعيّة موحّدة، تجنيبا للفتنة ومنعا للفرقة وإبعادا للزّلل ودفعا للضّرر على العباد والبلاد…

 إضرابات الجوع، التي تتخذها العديد من الأطر الحقوقية وسيلة مقاومة مدنية، وأداة تعبير واحتجاج يلتجأ إليها المضطهدين سياسيا، اعتبرتها أنت مخالفة للشرع، واعترضت على هذا النهج عقائديا، فلو توضّح لقراء صحيفة «الحقائق» الدولية هذا المفهوم؟

 عندما بلغني أنّ اثنين من إخواننا ماتا بسبب إضراب جوع داخل سجون تونس أفزعني الأمر وحزنت على ذلك، فكتبت مقالا تحت عنوان:”ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل” دعوت فيه الإخوة أن يتوقّفوا عن الموت الاختياري المبرمج وتبيّن لي أنّ نهضة المهجر لم تنه عنه بل حرّضت عليه ونشرت في موقعها من يقول إنّني سأخرج من السّجن إمّا على نعشي أو على رجلي، وخلاصة رأيي الذي ألقى به ربّي أنّي قلت:”من قرّرّ أن يضرب جوعا حتّى يموت ثمّ مات فهو منتحر” فتجنّد ضدّ هذا الاجتهاد المأجور حشد من متعصّبة الحزب المغامرين في تعبئة حاقدة لا مثيل لها، فحرّفوا وبدّلوا وجعلوا ذلك “الانتحار” شهادة وجهادا وغير ذلك من الجهل فرددت عليهم بسلسلة مقالات تحت عنوان أأسود عليّ!!! 

أمّا من أضرب بقصد لفت انتباه النّاس إلى مظلمته أو رفع التّعذيب عنه دون إحداث ضرر محقّق في نفسه وبدنه فلا بأس بذلك ولقد قمت بذلك شخصيّا في زنزانات الدّاخليّة سنة 1990 وسنة 1999 في باريس لمّا تعرّضت لمظلمة سياسيّة عظيمة قاسية من نهضة المهجر إثر مبادرة مجموعة12.

هذا وإنّي أرجو من كلّ العاملين للدّين أن يجعلوا الله غايتهم والسّنّة منهجهم والله أعلم والله المستعان وعليه البلاغ ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.