Les articles publiés dans cette rubrique ne reflètent pas nécessairement les opinions de Nawaat.

إنّ الأخلاق ليست لفظة جوفاء أو رمزا لبضع حركات ميكانيكيّة من إحترام رزمة من الضّوابط السّلوكيّة السّطحيّة. بل الأخلاق علم واسع متعدّد الفروع و كتب فيه و سال عليه كثير من الحبر. و لا غرو في أهميّته و هو المنوط به إيجات الآليّات المنطقيّة المحدّدة للخطأ من الصّواب و فرز السيّء من الجيّد. فإدراجنا لتّوصيف اللّغويّ “حسن” أو “سيّء” على فعل أو سحبها على فاعل أو فكرة ليس وليد لحظة متسرّعة و إنّما هو من حيث نشعر و لا نشعر مستوجب لنظريّات تحكمه و خاضع لتراكمات تاريخيّة و ثيولوجيّة طويلة.و رغم أنّ أغلب “الأخلاق” غير مدوّنة أو مكتوبة و لا يرجع إلى مراجعها عند إتّخاذ جلّ القرارات إلّا أنّه الضّابط الحقيقيّ و الفعليّ للتّعاملات اليوميّة في شكل قواعد ضمنيّة متعارف عليها. فالنّسيج الأخلاقيّ هو الحاجز و الضّمان من الإنزلاق في الرّيبة المستفحلة و فقدان الثّقة بالمحيطين و بالتّالي الفوضى.

لا يمكن لقانون أو سلطة إذا أن تصلح من شأن طبيعة و جودة حياة مجموعة بشريّة بدون توفّر النّسيج الأخلاقيّ الحيويّ كداعم. فلا يمكن إيجاد آليّة يكون بموجبها لكلّ بائع و موضّف و مسؤول حارس يتثبّت من أفعاله. فالكلام البذيء في الشّارع و معاكسة البنات و التحرّش و الغشّ في الأسواق كلّها أمور لا يد لأيّ حكومة عليها في كلّ الأوقات سواء كانت ديمقراطيّة أو ديكتاتوريّة.و لعلّنا نتّفق الآن على أنّ البلية و الإهتراء أصابا البنيان القيميّ و الميزان الأخلاقيّ لشعبنا التّونسيّ وأنّ التثبّت من ذلك لا يستلزم سوى إطلالة صغيرة على أيّ شارع مكتضّ.

من الأمثلة الكثيرة على هذا التفسّخ غياب الأمن و الإحساس به و الرّيبة المستمّرة و وجوب الحيطة المتواصلة. كما أنّ عدم القدرة على الثّقة بالآخر تجد رافدها في إستفحال الكذب و عدم القدرة على تبيّن الحقيقة من البهتان. ويصل الكذب كظاهرة إلى قطاع الإعلام، واجهة الشّعب و نافذته، الذّي لا يقتأ يطالعنا بأخبار زائفة و فظائح تزوير. كما صارت بعض الفضائيّات نوافذ مفتوحة على الرّذيلة و السّوء و بابا للتّطبيع مع مشاهد كان التّونسيّ يستهجنها بالماضي القريب.

و أمّا عن الفضائ الإلكتروني و فوضاه العارمة وإشاعاته المغرضة فحدّث و لا حرج.كما تصعد كنتيجة للتفسّخ الأخلاقي صورة البطل التّونسيّ كشخص قادر على غشّ غيره و تحصيل مكاسبه بكلّ الوسائل سواء السويّة أو الملتوية  و يطلق عليه لفظ “المهفّ” و يحتفي به المجتمع كشخص قادر و ذكيّ في قلب للصّورة المنطقيّة من وجوب إدانة السّلوكيّات الملتوية.

تغلغل أسلوب الغشّ في كلّ طبقات المجتمع و لم تسلم من النّخب بل كانت سبّاقة في ريادة مسار المغالطة و التفسّخ. و الدّليل على أنّ المرض يتجاوز أساليب الدّكتاتوريّة إلى كونه ظاهرة عامّة و شاملة، يكمن في المجلس التّأسيسي المناط به التّأسيس لنقيض الدّكتاتويّة و الإستبداد. فطالعتنا الصّفحات الإلكترونيّة بنوّاب بالمجلس و هم يقومون بالتّصويت خلسة مزوّرين للأصوات في ضلّ غياب زملائهم. و هذه الحادثة شديدة الرّمزيّة حيث تتعلّق بالحقيقة بمحاولة لتزوير إرادة شعب بأكمله واستسهال غشّه بكبسة زرّ من طرف نائب غشّاش. أمّا الأنكى من ذلك فهو مرور الحادثة مرور الكرام و عدم إتّخاذ أيّ إجراء عقابيّ يليق و حجم الجرم المقترف و تجاهل المسألة و ترك المهمّة لعامل الوقت لتمييعها و وضعها طيّ النّسيان.

أدّت 50 سنة من التّغريب الحضاريّ القسريّ و من التّيه و تغييب الثّوابت الإجتماعيّة إلى نسف و تقطيع أساس و خيط النّسيج الأخلاقي بتونس و هو الإسلام بلا منازع. فسبب تفشّي الفساد الخلاقي و التّطبيع معه هو تلك القطيعة المصطنعة و البتر القسريّ لمسار وجوبيّ من التطوّر الطبيعيّ للأخلاق بتونس. فالحقيقة أنّ الأخلاق في وطننا متماهية حدّ التمازج مع الإسلام. فكان تجفيف و قطع الجذر الإسلاميّ بمثابة حكم بالإعدام على فرعه و غصنه الطبيعيّ أي الأخلاق. و تمّت محاولة لزرع أخلاقيّات و أنماط عيش فرنسيّة بالأساس و أدّى فشل هذه المحاولة إلى نمط مجتمعيّ مشوّه لا هو فرنسيّ و لا هو إسلاميّ أصيل.

كما كان التّعليم غائبا، و لا يزال، عن دوره الأساسيّ في المساهمة في التّربية. بل و نجد المحيط المدرسيّ مساهما في أحيان كثيرة في نشر الإفساد و قتل بذور الخير و التميّز. و كأن لفظ المؤسّسة التّربويّة لم يتجاوز يافطات المدارس و الشّعارات الحكوميّة. بل نجد أنّ الإطار التربويّ نفسه غير مؤهّل في حالات عديدة للتّعامل مع التلاميذ و تتوالى الفضائح و أقلّه غياب الإحترام و حوادث الإعتداء المتبادل بين الإطار التربويّ و التّلاميذ الذّي يصل في أحيان كثيرة إلى العنف.بالتّالي و ،بما أنّه لا يمكن لمسيرة التقدّم بتونس أن تنجح فاقدة للإطار الأخلاقيّ الحاضن، وجب علينا كمجتمع التفكّر بطرق لإعادة غرس و تعهّد البنيان القيميّ التونسيّ. و يبدو أن أهمّ ثلاث محور لهذا الإصلاح ستكون الإعلام و الدّين و التّعليم.

أمّا الإعلام فيجب ترشيد الوسائل الإعلاميّة العموميّة و إيجاد البديل الهادف و مخاطبة عقول التّونسيّين بدلا عن غائزهم. و يجب إرجاع الهيبة و الدّور المحوريّ للإسلام كمشكّل رئيسيّ للأعراف و الضّوابط الإجتماعيّة من خلال دعوة المسلمين و تعريفهم أكثر حول مبدئ الحلال و الحرام و تفقيههم فيما يصلح شأن دنياهم قبل آخرتهم. هذان المجهودان يجب أن يترافقا مع إرساء تعليم مبدئيّ تكون للعلوم الإنسانيّة به مكانة و قيمة لتمكين النّشئ من الأدوات المنطقيّة اللّازمة لتحديد الخطئ من الصّواب.