police-justice-tunisie-syndicat-securite

بعد مقطع الفيديو الذي بثته قناة الحوار التونسي يوم 23 جانفي 2016، أصبحت قضية إطلاق سراح المُشتَبَهين في جرائم إرهابية مادّة إعلامية مُثيرة للجدل، يجري النقاش حولها وسط تبادل الاتهامات بين العديد من الأطراف المُتَدخّلة في الشأنين الأمني والقضائي.

ومن الملاحظ أنه عادة ما يكون طرفي النزاع المُعلَنين في هذه القضية بعض المنتسبين إلى النقابات والمنظمات الأمنية من جهة وبعض القضاة والناشطين الحقوقيين من جهة أخرى. ولئن لم يتخذ النزاع  حول ملف الإرهاب طابعا رسميا سَافرا، فإن العديد من التسريبات والوقائع تشير إلى أن الجهازين الأمني والقضائي يعيشان تململا داخليا يتجلى في التعارض الملحوظ بين جهازي دولة يتزعّمان البث في القضايا الإرهابية. فهل أن هذا التعارض يعبّر عن نزاع فرَضَه عدم التنسيق وتداخل الاختصاصات أم أنه يعكس صراعا سياسيا تسرّب إلى أجهزة الدولة؟

تضارب في تحديد المُشتبه بهم

أكّد وزير الداخلية السابق ناجم الغرسلّي -في ندوة صحفية نُظِّمت بُعيد عملية باردو التي جدّت في 18 مارس 2015- أن المدعو محمد أمين القبلي هو المشرف على الخلية الإرهابية التي نفذت الهجوم المسلح على متحف باردو، وهو من المنتمين لكتيبة عقبة بن نافع وسبِق له أن التقى بالجزائري خالد الشايب المكنّى بـ”لقمان أبو صخر”‘. وهذه الخلية –حسب تصريحات الوزير- تضم 23 عنصرا مُقسّمين إلى أربع خلايا مكلفة بالرصد والدعم والتخطيط والتنفيذ وتأمين الانسحاب.

في نفس الفترة تم اعتقال محمد أمين القبلي وأُحِيل على الدوائر القضائية، ولكن بعد أربعة أشهر من اعتقاله أطلِق سراحه أوائل شهر أوت من سنة 2015. ويشكّل إخلاء سبيل القبلي إقرارا صريحا من طرف الجهات القضائية بأن المعطيات التي قدمتها الوحدة الوطنية للبحث في جرائم الإرهاب بالقرجاني لم ترتق إلى مستوى قرائن الإدانة. وقد أطلقت هذه الحادثة عنان التأويلات والاستنتاجات حول حقيقة ما يحدث في كواليس الجهازين الأمني والقضائي خصوصا وأن بعض النقابات الأمنية أعلنت في تلك الفترة رفضها للقرار القضائي.

احتدم الجدل حول إطلاق سراح مُشتبهين في قضايا إرهابية تزامنا مع الإفراج عن سبعة مشتبه بهم ينتمون إلى ما يعرف بـ”خلية القيران”، بداية شهر أوت من سنة 2015. وهي مجموعة تضم سبعة أشخاص تم إيقافهم من قبل الوحدة الوطنية لمكافحة الإرهاب بالقرجاني أواخر شهر جويلية من السنة الفارطة بتهمة التخطيط لعمليات إرهابية واغتيالات سياسية بعدد من مناطق الجمهورية. وقد شهدت هذه القضية تطورا ملحوظا عندما استدعى قاضي التحقيق المُكلّف بالملف عناصر من الفرقة الأمنية المذكورة بتاريخ 17 أوت 2015 للتحقيق معهم في تهمة اختطاف وتعذيب عناصر “خلية القيروان”، وبالتوازي مع ذلك أعلن مجلس النواب تشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في شبهة التعذيب.

وقد عرفت اللجنة البرلمانية انقساما في مواقف أعضاءها بين من يؤكد ثبوت شبهة التعذيب وبين من يعتبر أن الاعتداء لا يرتقي إلى مستوى التعذيب على غرار رئيسة اللجنة والنائبة عن نداء تونس، بشرى بالحاج حميدة، التي أفادت أن آثار التعذيب وقع تضخيمها، منتقدة في نفس الوقت تقصير قاضي التحقيق المكلف بالملف الذي اعتبرته غير مؤهّل للبث في قضايا الإرهاب، فيما أكد غازي الشوّاشي عضو اللجنة البرلمانية والنائب عن حزب التيار الديمقراطي أن إيقاف المشتبه بهم لم يكن قانونيا، مشيرا إلى وجود آثار تعذيب على البعض منهم.

معركة التسريبات

التعارض بين الجهازين الأمني والقضائي حول التدخل في بعض الملفات الإرهابية انتقل إلى حلبة الصراع الإعلامي، لتنطلق بذلك معركة التسريبات التي تزعّمها نقابيون من السلك الأمني وبعض القضاة. في هذا السياق بثت قناة الحوار التونسي يوم 23 جانفي 2016 مقطع فيديو يصوّر إحدى الفرق الأمنية بصدد تشخيص جريمة إرهابية بمرافقة أحد المشتبهين في عملية باردو.

وبسبب تسريب هذا الفيديو أوقفت السلطات عصام الدردوري، رئيس المنظمة التونسية للأمن والمواطن، لأنه أكد في ذات البرنامج أن محمد أمين القبلي، المتهم الرئيسي في عملية باردو، هو نفس الشخص الذي يظهر في مقطع الفيديو المعروض. وقد زعم الدردوري أن القبلي أطلع الوحدات الأمنية على تفاصيل تحوّله إلى منطقة جبلية في ماطر وكشف لهم مخبأ السلاح الذي تم استعماله في العملية .

هذه التسريبات رافقتها تصريحات مضادة أدلى بها أحمد الرحموني، رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء، اتهم فيها الفرقة الوطنية للبحث في جرائم الإٍرهاب بالقرجاني بتدليس محاضر البحث وممارسة التعذيب. وفي نفس السياق ذكر الرحموني أن قاضي التحقيق بالمكتب عدد 13 سَحب الإنابة العدلية في قضية باردو من فرقة القرجاني وسلَّمها لوحدة الحرس الوطني بالعوينة.

الجدل الذي أثارته معظم وسائل الإعلام جعل العديد من المُتابعين يلوّحون بوجود انقسام داخل أجهزة الدولة في قضية الحرب على الإرهاب. وقد أذكت هذا الجدل بعض التصريحات التي تطعن في نزاهة واستقلالية قاضي التحقيق عدد 13 الذي يمسك بأخطر الملفات الإرهابية في البلاد على غرار ملف اغتيال الشهيد شكري بلعيد وقضيتي باردو وسوسة. ومن بين هذه التصريحات ما أدلى به القيادي السابق في حزب حركة نداء تونس، لزهر العكرمي، الذي أشار إلى أن هذا القاضي ينتمي إلى حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وفي نفس السياق طعنت هيئة الدفاع عن الشهيد شكري بلعيد في مصداقيته واتهمته بالتلاعب بالملف.

هل هو صراع سياسي داخل الأجهزة؟

من الملاحظ أن النزاع الإعلامي بين النقابات والجمعيات الأمنية وبين القضاة لا يقتصر فقط على التفاصيل التقنية المتعلقة بمجريات البحث والتقاضي، وإنما يأخذ في بعض الأحيان طابعا سياسيا سافرا من خلال طرح بعض القضايا التي تعتبر محاور رئيسية في المشهد السياسي على غرار استقلالية القضاء وتفعيل استراتيجيا مقاومة الإرهاب وكشف المخططات قبل تنفيذها.

في تصريح خصّ به نواة نفى محمد بن لطيّف، رئيس المحكمة الابتدائية بصفاقس وعضو المكتب التنفيذي لجمعية القضاة، وجود صراع بين الجهازين الأمني والقضائي وأكد أن هناك حملة مشبوهة على قاضي التحقيق عدد 13 يخوضها منتسبون للجمعيات والنقابات الأمنية للضغط عليه من أجل التخلي عن الملفات الإرهابية الكبرى. وشدد بن لطيف على نزاهة القاضي المذكور بشهادة لجنة التفقد التابعة لوزارة العدل التي كلّفها وزير العدل السابق محمد صالح بن عيسى بمراقبة مكتب التحقيق عدد 13.

وبخصوص اتهام الجهات القضائية بعدم استيعاب العمل الأمني الاستباقي، أفاد عضو جمعية القضاة أن اقتلاع الاعترافات بالقوة تحت التعذيب يُشكّل أكبر دليل على انعدام العمل الأمني الاستباقي، وهو ما سبّبه غياب جهاز استعلامات قوي. وأكد في ذات السياق أن تقارير الطب الشرعي التي وصلت إلى قاضي التحقيق 13 تشير بوضوح إلى ثبوت التعذيب، معتبرا أن هذه الممارسة لا تؤدي إلى معرفة الحقيقة وتدفع ببعض المتّهمين إلى الاعتراف القسري وتسمح للجناة الحقيقيين بالإفلات مثلما حدث في عملية سوسة، التي أكد أنه كان بالإمكان تفاديها لو تم فعلا استهداف المتورّطين الحقيقيين. وأشار بن لطيّف إلى أن إقالة محمد الخريجي رئيس الوحدة الوطنية لمكافحة الإرهاب بالقرجاني جاءت على خلفية التورط في ممارسات التعذيب على مُتّهمين في عمليتي باردو وسوسة.

من جهته استبعد وليد زرّوق، النقابي الأمني ورئيس جمعية مراقب، وجود صراع قطاعي بين الجهازين الأمني والقضائي، وإنما هناك صراع سياسي تمّ تصديره إلى أجهزة الدولة. وفي هذا السياق أفاد محدثنا بأن هناك مجموعات مُتنفّذة في الجهازين الأمني والقضائي تتلقى تعليماتها من الأحزاب السياسية، الأمر الذي أدى إلى ضرب استقلالية المرفق القضائي والمس من حيادية المؤسّسة الأمنية. وذهب زرّوق إلى القول أن “الإخلالات ليست مجرد أخطاء مهنية وإنما تعكس تواطؤا واضحا مع الإرهاب لأن المسألة تتعلق بتسهيل فرار مُتورّطين في قضايا إرهابية بتستّر من بعض الأمنيين أو إطلاق سراح البعض منهم من قبل قضاة مُتحزِّبين”.