ouled hmed

وحدها الوصايا تُديم المعاني وتحيى الأموات. شبه متيقن كنت، أما الآن: فعلى يقين من أنهم احترموا الوصية وزرعوني في كل شبر من هذه البلاد. هذه البلاد التي أضيفُ إليها ياءا من موتي وأسمّيها بلادي.الصغير أولاد أحمد، الوصية .

كتب الصغير أولاد أحمد قصيدة “الوصية”، صيف سنة 1992، وبعد 24 سنة رحل الشاعر مساء الخامس من أفريل 2016 تاركا حزمة من الوصايا ومئات القصائد التي قال عنها في ديوان نشيد الأيام الستة “قصائدي جيش من الأحلام منتشر على الدنيا”.

مسيرة أدبية صاخبة امتدت أكثر من ثلاث عقود، تخلّلها القلق والمنع والفرح والتمرد، امتهن فيها أولاد أحمد معاني جديدة للصعلكة الشعرية، مُعلنًا الخروج على سلطة الملوك والرؤساء ورجال الدين، ليجعل من الشعر حالة احتفاء دائمة بحرية الإنسان.

 “شاعر مفرد في صيغة الجمع”

“أنا مفرد في صيغة الجمع”. هكذا يعرّف أولاد أحمد نفسه مستلهما العبارة من الشاعر السوري أدونيس، ويُحيل من خلال هذا الاقتباس إلى اسمه المركّب الذي ورثه عن عادات البادية التي كان يُشَار فيها إلى الأسماء بالإصبع، كان اسم والده محمد فنُعِت الولد انسجاما مع هذه العادة “محمد الصغير”، أما “أولاد أحمد” فهو انتساب إلى أحد الأولياء الصالحين. ويبدو أن اسمه المتعدد كان له انعكاس في تجربته الأدبية فقد كان يكتب الشعر، إذ صدرت له 6 دواوين شعرية، “نشيد الأيام الستة” و”لكنني أحمد” و”ليس لي مشكلة” و”جنوب الماء” و”الوصية” و”حالات الطريق”، وخاض تجربة النثر أيضا من خلال مجموعة “تفاصيل” التي صدرت سنة 1991 و”القيادة الشعرية للثورة التونسية” سنة 2013، علاوة على العديد من المقالات الصحفية المنشورة في تونس وخارجها.

ولد أولاد أحمد في 4 أفريل 1955 في قرية النوايل بسيدي بوزيد، وقد وصفها في أحد قصائده “إنني من بادية حافية في الجنوب. في أقصى الجنوب. يستوجب الوصول إلى كلابها ثلاثة أرباع يوم”. زَاول تعليمه الابتدائي في مدرسة القرية ليغادرها إلى قفصة أين استكمل تعليمه الثانوي، ثم ارتحل إلى تونس العاصمة ليلتحق بالمعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي أين تحصل على دبلوم في التنشيط الثقافي أواخر السبعينات. وكان وراء فكرة تأسيس بيت الشعر الذي تولى إدارته في الفترة الفاصلة بين 1993 و1997، وتميزت علاقته بالرئيس السابق بالجفاء خصوصا عندما رفض “جائزة الاستحقاق الثقافي لرئيس الجمهورية” سنة 1993، وقد قال في حوار له سنة 2004 ساخرا من بن علي “كان لدينا رئيس يتكلم وُيمسرح خطابه والآن أصبح لدينا رئيس لا يتكلم ونسمعه مُسجّلا”.

الشعر تحت مقصلة الرقابة

كان الصراع مع منظومة الرقابة واحدا من العناصر المهيمنة على أدب أولاد أحمد، إذ اصطدم الشاعر بآلة المنع السياسي منذ أن دفع بأول دواوينه “نشيد الأيام الستة” للطباعة في عهد نظام بورقيبة سنة 1984، ولم يُنشر هذا الديوان إلا بعد سنة 1988، وقد سُجن صاحبه فترة قصيرة سنة 1985 وطُرد من عمله كمنشط طيلة خمس سنوات. وكثيرا ما كان يبدي تذمره من حذف كلمات من نصوصه، ويردد في بعض الأحيان “مقالاتي لم تعد تشبهني”. وعادة ما يتهكم على الكتاب المدّاحين واصفا بعضهم في مجموعة تفاصيل “هؤلاء الكتاب لا يُفرّقون بين المحابر وآبار النفط وبين الأوراق النقدية وأوراق الكتابة”.

في ظل انتشار المحظور السياسي كان أولاد أحمد ينظر إلى الشعر بوصفه فعلا يؤسس لتحرر الإنسان من قيود السلطة، ويلخص هذه الوظيفة في عبارات مكثفة وردت بديوان الوصية المنشور سنة 2003 “إن الشعر ليس حرفة معزولة عن التكوين والتاريخ، بل فعل كينونة، متجدد باستمرار، لا معنى له خارج أفق الخلق الحر”.

ولم يكن خجولا من إبداء سخطه على الرؤساء والملوك، إذ يقول في ديوان نشيد الأيام الستة موجها الخطاب للرئيس الراحل بورقيبة “أنا لا أعشق الرؤساء لكني سأمشي في جنازتهم”، ويوسع الشاعر جغرافيا الازدراء لتشمل بقية الحكام العرب الذين يسحب عنهم أي غطاء للشرعية، واصفا إياهم في مجموعة تفاصيل “هذه الأمة لا يمثل حكامها سوى زوجاتهم ورهط من مهربي المخدرات ومحتكري المعادن”.

التمرد على سلطة الكهنة

“يتطيرون منه ومن كتاباته لكونه يؤمن بإله أجمل من إلههم”، هكذا يلخص الكاتب التونسي سليم دولة -أثناء تقديمه لمجموعة “تفاصيل”- المعارك التي خاضها أولاد أحمد مع رجال الدين ومناصريهم. كان جريئا في إرهاق الخطاب الديني بالأسئلة لينزع عنه حجاب التقديس وصبغة الإطلاقية، وتتواتر نبرة التشكيك في احتكار رجال الدين للحقيقة في أكثر من قصيدة، حيث كان الشاعر يتساءل في ديوان نشيد الأيام الستة “ماذا ستأوي النار والحجّاج قد نزعوا جرائمهم بمكة ثم عادوا؟”.

كان أولاد أحمد يصف مشايخ الدين الأصوليين بـ”أصحاب المقاعد المحجوزة في السماء” و”سفراء الله” اقتباسا عن الفيلسوف الألماني نيتشه، فطارَده التكفير والتصقت به صفة الزندقة، وقد اتهمه الداعية يوسف القرضاوي بالإلحاد والتطاول على الذات الإلهية في كتاب له بعنوان “التطرف العلماني في مواجهة الإسلام”، وذلك على خلفية قصيدة “أدعية” الشهيرة التي نشرها الصغير أولاد أحمد سنة 2007، ومطلعها “إلهي. أعني عليهم. لقد عقروا ناقتي. وأباحوا دمي في بيوت أذنت بأن لا يراق دم فوق سجادها”. وقد استخدم أولاد أحمد قدرته الفائقة في التوظيف المجازي للمعطى الديني في هذه القصيدة الأمر الذي أثار حفيظة مفتي الإخوان المسلمين.

في وقت سابق تعرض الشاعر إلى حملة شيطنة من قبل بعض الصحف المحلية على خلفية مقال نشره سنة 1884 بجريدة الموقف تحت عنوان “الإيديولوجيا والتكنولوجيا” دعى فيه المؤذنين إلى حسن استعمال مضخمات الصوت، ويعلق أولاد أحمد متهكما على هذه الحملة في كتاب تفاصيل “قادت هذه الحملة صحيفتان هما “العمل” و”الأنوار التونسية” ورمتاني بالكفر والزندقة والمروق وبنعوت قروسطية أخرى لم أر أكثر منها كفرا واستخفاف بالدين منذ مجيء الإسلام مثل قول أحدهم أني الشيطان ذاته. والشيطان فيما أعلم لا يلبس حذاءا ولا يأكل ولا يكتب بالعربية الفصحى مثلما أفعل أنا”.

ومع صعود الإسلاميين إلى سدة الحكم في أكتوبر 2011 وما رافقه من اكتساح الخطاب الأصولي التكفيري للشارع التونسي، لم يكف أولاد أحمد عن معارضة تستر الإسلام السياسي بالدين لتحقيق أهداف سلطوية، وهو ما جعله عرضة للاعتداء بالعنف اللفظي والمادي من قبل مجموعة محسوبة على التيار السلفي في أوت من سنة 2012، وقد علق على هذا الاعتداء آنذاك ” تلقىت شيئاً من الثقافة التي يبشر بها السلفيون”.