يوميات محامي-الحلقة الثانية

بقلم أيوب الصابر

رافع محام لا يشبه المحامين، أضاع تركيزي بالجلسة، فلم أسمع له الا صياحا وضجيجا، تكلم طويلا ولم يقل شيئا، وكان يلتفت للجمهور في كل مرّة، ويعيد قراءة مقتطفات من محضر البحث، يرفع أوراقا بيده الى الأعلى تارة وطورا آخر يدقّ على الطاولة التى أمامه، ليثير انتباه العامّة وكأنّه يدافع بشراسة وضمير عن حريفه، كانت مرافعة بائسة، يابسة، ناعسة، ناقصة ليس فيها من القانون شيئا، وكانت موجّهة للعامة أكثر من أن تكون موجهة للمحكمة، ومتقيدة بالقوانين والفصول وكل ما يميز بين المرافعة وبين الخطب المهزلة، فيها سخرية من ذكاء القضاة وذكائنا نحن زملاءه، كان يرافع وكنت في سرّي ألعن هذه المهنة، التي تتطاول عليها أصحاب العقول المسطحة وذوي الانفس المتعفّنة، وبقدر حبي لمهنة المحاماة فإني فضّلت وقتها أي مهنة أخرى، حييت في نفسي صبر القاضي على ما كان يقوله، حتى أني قلت في سرّي، لو كنت مكان القاضي لأعطيته درسا في فنون الدفاع عن الحرفاء، ولن يشفع له أن يكون زميلا سابقا لي في القضاء، أو أن يكون رئيسا لإحدى البلديات أو مسؤولا بارزا في التجمع الحاكم…

وبينما أنا غارق في التأمل باحتقار لهذا الصنف المتهافت على المحاماة، بعد أن يكون قد لفظه القضاء لأسباب تخل بالشرف والكرامة، حتى شدّ انتباهي رجل أنيق يتقدم الى قفص الاتهام، بدلتة تشبه البدلات الرسمية، وربطة عنقه فيها كثير من الذوق والانسجام، قليل هم المتهمون الذين يمثلون أمام المحاكم بربطة عنق، فالأغلبة يكون ثيايهم عنوان بؤسهم، وعادة ما تكون المحاكم مليئة بمعاشر البؤساء، الذين يتحالف الزمن والدنيا والظروف والجوع والحرمان ضدّهم، فلا يرحمهم المجتمع ولا تغيثهم القوانين..لا بدّ أن يكون هذا الذي شدّ انتباهي شخصية مهمّة، وأن تكون تهمته سياسية أوربما وفي أسوأ الأحوال صاحب شيكات بدون رصيد، لم يكلف محاميا فهذه النوعية من البشر عادة لا يحتاجون الى محامين، فهم يحسنون الدفاع عن أنفسهم بألف طريقة، أقلها أكثر نجاعة مما في رأس أشطر المحامين من فهم للقوانين…

تقدّم بنوع من الثقة، رافعا رأسه بكل شموخ وتوازن، كأنه ليس أمام هيأة المحكمة وليس متهما أصلا..

الرئيس : أتعترف بالجرم المنسوب اليك ؟

المتهم : بماذا أعترف سيدي، لم يكن مسعاي وهدفي غير الخير.

الرئيس : أي خير يا هذا، تقدّم نفسك لأصحاب المغازات على أنك مدير احدى المؤسسات الرسمية، لتكسب ثقتهم، ثم تملأ الشاحنة تلو الأخرى من المواد الغذائية والألبسة، ثم تذوب كالملح فلا يعثر لك على أثر…

المتهم : نعم حصل هذا سيدي، ولكن لغايات نبيلة.

وقاطعه الرئيس في غضب ظاهر

ما هي هذه الغايات النبيلة يا صاحب الفضيلة؟

المتهم : سيدي لقد لاحظت الفقر والجوع والاحتياج، متفشّ في حيّنا البائس وكان أهالي هذا الحي الطيبين، قد دقّوا أبواب كل المسؤولين بحثا عن عمل يوفر قوت اليوم، وانتظروا كل الانتخابت البلدية والبرلمانية والرئاسية والشعبوية، واستمعوا إلى اطنان من الخطب والوعود، ولا شيء ضمّد جوعهم، فالتجأوا إليّ سيدي فعزمت أن أجد لهم حلاّ، مستذكرا أنه اذا جاع مسلما فلا مال لأحد، وقررّت أن آخذ من أموال الأغنياء صدقة أعطيها للفقراء، ذلك لأن أغنياؤنا لا يعطون الصدقة الاّ للحكومة، إما طمعا او إكرها أو ضغطا، كما أن مساعدي القضاء لا يدفعون صدقة لصندوق التضامن الوطني، لولا جدية وحزم السيد الوكيل في جمعها، إذ يكلمهم فردا فردا ويضغط عليهم فيدفع الجميع، فكيف لي أن أجمع مالا بالحسنى ولم يعد في الناس رحمة، ثم أن جمع المال جريمة خطيرة ، يعاقب عليها القانون ما لم تكن برخصة من الحكومة، عقوبتها الايقاف فورا وعدم التخفيف، وفيها تعليمات وتوصيات وإشارات وحزم، وعقوبتها صارمة، فلم يكن أمامي من حل لانجاز مشروعي الخيري الاّ هذه الطريقة..

وعموما فلا يهم الشكل سيدي ما دامت الغاية نبيلة، إنه عبارة عن صندوق مثل كل الصناديق، وطبعا لا أعني هنا صناديق الانتخاب أو صناديق الاقتراع أو صناديق الأموات، فهذه قصص أخرى وأحوال أخرى، بل صندوق إنساني أجمع فيه المؤونة من الأغنياء لأوزعها على الفقراء، فهل أصنّف سيدي مجرما، وأنا أقتدي بفلسفة التغيير لأنجز تغييرا في نمط عيش أهل الحي، أو إن شئت أ تصعلك من أجل فعل الخير، لاطعام جائع وإدخال البسمة إلى شفتي طفل فقير، واغاثة العجاز والمساكين، كما فعل عروة ابن الورد والعديد من الشعراء الصعاليك..

بهت الرئيس من كلام المتهم، فظنّ الأخير علامة إعجاب بفلسفته فأضاف :
أنا تلميذكم سيدي ..

القاضي : اسكت يا هذا ..تلميذي …؟؟ هل علمتك التحيل ..؟؟

المتهم : سيدي أنا أتحيل لفائدة الفقراء، وهناك من يتحيلون لنهب البؤساء، ونهب الأوطان ونهب التاريخ، ونهب العرض ونهب الانسان، وأكثر من ذلك هناك من يتحيلون لنهب الأموات…

القاضي اغرب عن وجهي وتمتم ( يظن نفسه أمير المؤمنين)…

المتهم يهمّ بالمغادرة، فيصيح الرئيس انتظر ما زالت لك قضية أخرى،أنت متهم فيها بايهام الناس أنّك أحد أقارب جهات عليا في الدولة، وأنك تقضى كل الشؤون الإدارية، مهما كانت معقّدة، وتأخذ منهم أموالهم لقاء خدمات لا تنجز، بل وصل بك الأمر ادعاء التوسّط لدى القضاة في فصل المنازعات،

المتهم : ألم أقل لك سيدي أني لا أتوسط الاّ في الخير، وأني رجل خّير فغايتي هنا أيضا فعل الخير، وتسهيل قضاء حاجات الناس، فكما تعلمون سيدي أن الشؤون الادارية والمعاملات اليومية وحاجيات المواطن، لا تحل إلا عبر الوساطات والوسائل الخفية، وكثيرا ما تنجح وساطاتي ولا يخيبني قضاتي، ولكن الذي اشتكى بي هنا، كانت قضية قريبه أكبر بكثير من كل القضايا العادية،

القاضي : ما هي قضيته ؟

المتهم : لا أستطيع أن أقولها علنا، أخاف

القاضي : لا تخف أنت في حضرة القضاء قل ما شئت…

المتهم : لا سيدي، الأمر خطير جدا، أكبر من القضاء نفسه ..

القاضي : تعالى وقلها لي على انفراد إذن..

تقدّم المتهم مسرعا من هيأة المحكمة، سار وراءه أحد أعوان البوليس بعض الخطوات أملا في استراق السمع ..

أسر له الرئيس معدّدا قائمة القضايا الممنوعة من التدخلات ومتسائلا : توزيع مناشير؟ عقد اجتمعات غير مرخصة ؟انتماء الى جمعية غير مرخصة ؟ نشر أخبار زائفة ؟ المس من هيبة المحكمة ؟ وفي كل مرّة كان المتهم يجيب : أكبر سيدي أكبر ثم أردف، لو كانت كذلك ما تدخلت ولا أخذت أمواله، فأنا أعرف سابقا هاته الأمور، ولكن هاته القضية من نوع جديد لا أعرفه سابقا، توقعته هينا وسهلا ، ولكن “فيه تأبيده كما يقول المصري” …

الرئيس : ماذا اذن ..تكلم ؟؟

المتهم : ( همس وبصوت خافت جدا لم يتمكن من فك رموزه غير الرئيس نفسه ) سيدي لقد كان ينوى الذهاب الى العراق، وقرأ بعض الممنوعات على صفحات الانترنات فكشفته المخابرات…

لم أستطع أن أتدخل لفائدته، وكلما تطرّقت إلى الأمر مع أصدقائي هنا، إلاّ وأشاروا عليّ بأن لا أعيد هذا الموضوع ثانية، والاّ اتهمت بربط علاقات مع مجموعة ارهابية ، ويكون مصيرك الدفن بالحياة وفي سراديب يشمئزّ منها الموت والعذاب…

إنه فعلا خطير جدا، مسكين قريبه لم يغفر له صغر سنّه فقد تجاوز الحداثة بقليل، فحكم بثلاثين سنة سجنا جريمة تجاوزت الانتماء…

وجم الرئيس قليلا ، تذكر نصوص قانون الارهاب الرهيبة، طال سكوته نسبيا وكأنما يقف دقيقة صمت، ترحما على المحاكمات العادلة وعن ضمانات المتهم وعن السر المهنى والسر البنكي، وغيرها من ضحايا ذلك القانون، وقال في نفسه لو كان القضاء فعلا مستقلا لترك هذا القانون خارج التطبيق، لعدم دستوريته ولأضحى مهجورا ولرفع سيفه عن رقاب الأبرياء…واستفاق الرئيس فجأة من غفوته مذعورا، كأنما شكّ أن أحدا ما دوّن ما دار بخلده…من يدري ربما وظفوا بعضا من الجن لتدوين ما يختلج في الصدور…

فانتفض الرئيس من مكانه، وأحدث حركة توحى للحاضرين بأنه ما زال على قيد الحياة، ما زال يرأس الجلسة ونهر المتهم قائلا : عد لمكانك، ولتكن اجابتك بقدر السؤال ..

فأضاف المتهم : حاضر سيدي ..

الرئيس : وماذا عن بقية الشكاوى ؟

المتهم : سيدي بقية الشكاوى المتعلقة بعدم نجاعتي في قضاء بعض الحاجات الادارية للمشتكين ، فإني قد رأيت أن الواحد منهم، إن لم يكن له قرابة أو صلة يظل لأبسط الأمور معطلا ينتظر أبام وأسبيع وأعوام وشهور …فبحثت عن أحد المقربي،ن ودفعت له من أموال أولائك المساكين، ولكنه بعد أن جمعها كلها غادر ولم يترك عنوانا ولا دليل، وتركني فريسة للأقاويل والظنون، وتحت وخزات نظرات المتضررين …

القاضي : إذن تدّعي أنك ضحية لكبار المتحيلين.

المتهم : نعم سيدي، اتضح أنه متحيل من صنف عالي، حظي سيىء جدا، هناك متحيلون أبناء حلال لم يصادفوني في حياتي،

القاضي : ستقضي السجن، اذهب وعد بعد أسبوع لسماع الحكم…

وخرج الرجل الأنيق مبتسما غير مبال…