fmi-ugtt

شعار “الوحدة الوطنية” الذي استندت إليه حكومة يوسف الشاهد لم يُفلح في طمس التوجهات والأهداف المتعارضة للموقعين الكبار على اتفاق قرطاج. وقد دشّن خطاب منح الثقة لحظة قطيعة هادئة بين الحكومة الجديدة والاتحاد العام التونسي للشغل، إذ لم يستسغ هذا الأخير سياسة التلويح بإجراءات التقشف وتسريح العمال واعتماد الحل الأمني في فض الاعتصامات.

رغم تحفظاته الكبيرة على خطاب يوسف الشاهد، فقد أبدى الاتحاد تمسّكه بوثيقة قرطاج بوصفها إطارا مرجعيا لتنظيم علاقته بالحكومة الجديدة. ولئن اتسمت الوثيقة المذكورة بصبغة عامة سمَحت بالاستيعاب النظري لمختلف التوجهات، فإن علاقة الاتحاد بحكومة الشاهد ستنتظم مستقبلا داخل الواقع العملي للسياسية، الذي قد يؤدي فيه تعارض المصالح إلى التصادم والمواجهة. ولعل المقارنة بين الأهداف المُعلنة لحكومة الشاهد وارتباطها البنيوي بالدوائر العالمية وبين الخيارات والتوجهات التي يدافع عنها الاتحاد تسمح ببناء ملامح أوّلية للعلاقة المستقبلية بين منظمة الشغالين والحكومة الجديدة.

الاتحاد يعارض سياسة التقشف

لم يستبعد رئيس الحكومة الجديد إمكانية اضطرار الدولة إلى اتباع سياسة التقشف، من خلال اتخاذ جملة من الإجراءات، من بينها: تجميد الاستثمار العمومي في التنمية والبنية التحتية، رفع قيمة الضرائب للمواطنين والشركات، تسريح آلاف الموظفين، التقليص في مصاريف الدولة في الصحة والضمان الاجتماعي. ولعل هذا الإعلان يعكس التزام الدولة بتنفيذ جزء من تعهداتها الدولية، إذ مَثّل التحكم في كتلة الأجور ونفقات التسيير والتصرّف العموميّة واحدا من أبرز الشروط التي التزمت بها تونس مقابل الحصول على القرض الأخير من صندوق النقد الدولي. وفي هذا الاتجاه أعلنت الحكومة السابقة تجميد الانتداب في الوظيفة العمومية باستثناء وزارتي الداخلية والدفاع. وربما يؤدي المضي في الإجراءات التقشفية إلى تعطيل اتفاقات اجتماعية سابقة على غرار الزيادة في الأجور.

اصطدمت المقاربة الحكومية بمعارضة سريعة من طرف الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي اجتمع مكتبه التنفيذي بُعيد يوم من منح الثقة لحكومة الشاهد، ليتلوه اجتماع الهيئة الإدارية الوطنية يوم الثلاثاء الفارط. وقد طغت النبرة التحذيرية على البيانات الصادرة عن هذين الاجتماعين، إذ ورد في بيان المكتب التنفيذي “لن يقبل (الاتحاد) أن يتحمل الأجراء وعامة الشعب تبعات وأعباء إخفاقات السياسات المتبعة لعقود والتي كان الشعب دوما ضحيتها والخاسر الأكبر من انتهاجها”. ولم يخف اتحاد الشغل قلقه من إمكانية تراجع الحكومة الجديدة عن الالتزامات الاجتماعية السابقة، وهو ما انعكس في بيان الهيئة الإدارية الأخيرة، الذي ورد فيه “ندعو الحكومة الجديدة إلى الالتزام بتطبيق التعهدات والاتفاقيات والعمل سريعا على حل كل الملفات القطاعية والجهوية العالقة تأكيدا على استمرارية الدولة وضمانا للحقوق ودفعا للاستقرار الاجتماعي”.

انسجاما مع مواقفه الرافضة لوقف الانتدابات، خصوصا في قطاعي الصحة والتعليم، شرع الاتحاد في الضغط على الحكومة الجديدة. إذ لجأت النقابة العامة للتعليم الثانوي إلى تعليق المفاوضات مع وزارة التربية يوم الاثنين الفارط مُطالبة الحكومة بتوضيح موقفها من الانتدابات العمومية. وقد كانت هذه المسألة أحد محاور الاجتماع الذي جَمع يوم الأربعاء الفارط رئيس الحكومة يوسف الشاهد بالأمين العام لاتحاد الشغل حسين العباسي. وفي هذا السياق أكد العباسي أن رئيس الحكومة الجديدة اقتنع بضرورة الانتداب في القطاعات الحساسة على غرار الصحة والتعليم.

ملفات الفسفاط وبيع المؤسسات العمومية: محاور للمواجهة

يقف الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة الجديدة على طرفي نقيض في بعض الملفات الأخرى من بينها ملف الحوض المنجمي. كشف الخطاب البرلماني ليوسف الشاهد عن محافظة الحكومة الجديدة  على منهج سابقاتها في التعاطي مع هذه القضية، إذ رَبط رئيس الحكومة الجديد حل أزمة الفسفاط باستئناف الإنتاج وتطويق حركة الاحتجاج، ولم يستبعد اللجوء للحلول الأمنية. وبالمقابل يعتبر اتحاد الشغل أن حلحلة ملف الحوض المنجمي يبدأ بفتح حوار اجتماعي مع الأهالي ومختلف الأطراف وتقديم بدائل تنموية ناجعة وقابلة للإنجاز، علاوة على هذا –وعلى عكس الحكومة- لا يُرجِع الاتحاد أزمة الفسفاط للحركة الاحتجاجية بل يتّهم أطراف أخرى بالوقوف وراءها، إذ وَرد في بيان المكتب التنفيذي الأخير “أزمة الفسفاط مفتعلة تقف وراءها لوبيات الفساد التي يجب مواجهتها بالأساس”.

يشكّل أيضا التعاطي مع ملف الشركات العمومية وشبه العمومية –خصوصا التي تشكو من العجز- أحد أبرز نقاط الاختلاف بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومات السابقة. وعلى الأرجح فإن حكومة الشاهد ستمضي في خيار التفويت والخوصصة، الذي سيُمثّل تسريح الآلاف من العمال أحد أبرز ارتداداته، وهو ما عبّر عنه صراحة رئيس الحكومة الجديد. ومن الأمثلة على هذه المنشآت التي تخضع للتفويت، الشركة التونسية لصناعة الإطارات المطاطية “ستيب”، التي تعطّل فيها الإنتاج منذ 19 أفريل 2016 بسبب رفض البنوك العمومية تمويلها، علاوة على تفويت الشركة التونسية للبنك في أسهمها للخواص، وقد أدى هذا الخيار بأكثر من 800 عامل إلى العطالة المؤقتة الأمر الذي اضطرهم إلى الاعتصام بمقر الشركة بمساكن منذ حوالي شهر ونصف. ولعل هذا المصير لا يختلف كثيرا عن مصير عمال الشركة التونسية لصناعة الحديد “الفولاذ” الذين يبلغ عددهم 1260، وهم يواجهون التسريح والإحالة المبكّرة على التقاعد بسبب دوّامة العجز التي دخلت فيها الشركة منذ سنة 2012.

وفي الوقت الذي تتجه فيه السياسات الحكومية نحو الخوصصة ورفع اليد عن المنشآت العمومية وشبه العمومية فإن اتحاد الشغل يدعو إلى ضرورة إلى حفاظ الدولة على هذه المؤسسات، وهو ما نص عليه مؤخرا بيان المكتب التنفيذي “”يؤكّد المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد العام التونسي للشغل تمسّكه بالمؤسّسات والمنشآت العمومية، ويحذّر من المساس بدورها وبوظيفتها الاقتصادية والاجتماعية.”

يعتبر أيضا ملف شركة “بتروفاك” قرقنة أحد النقاط الخلافية بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة السابقة، حيث عارض الاتحاد السياسة الأمنية التي انتهجتها حكومة الحبيب الصيد في أفريل 2016. ويلوح أن حكومة الشاهد مازالت محافظة على الرهان الأمني كمدخل لحل المسألة، حيث طُرح هذا الملف مؤخرا في مجلس الأمن القومي الذي التأم أمس الخميس بقصر قرطاج، عوضا أن يتم فتحه  بالتشاور مع الأطراف الاجتماعية والأهالي. ومن هذا المنطلق فإن الدفع مجددا بالحل الأمني بقرقنة قد يضطر الاتحاد إلى لعب دور المعارضة ومساندة الحراك الاحتجاجي.