المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

لا يوجد شيء إسمه ”تكنولوجيا عفوية“. في إعادة التنصيص على العلاقة المشبوهة التي جمعت مايكروسوفت بنظام بن علي الدكتاتوري، أسعى إلى طرح بسيط لإشكالية أتيقا التكنولوجيا (Technoethics) داخل المجتمع التونسي الحالي. ما أود الدعوة إليه هو ضرورة مراجعة فهمنا لعلاقتنا بالتكنولوجيا و بناء تصور جديد سياسي-ثقافي أولا و شعبي-إجتماعي ثانيا قائم على وعي أكثر استيعابا و نقدا لقدرة و تأثير التكنولوجيا في صياغة ذواتنا و مستقبلنا في تونس مابعد الثورة خاصة في ظل الترويج لمشروع فاشي كالمعرّف الوحيد للمواطن.

في ذكرى السادسة لثورة 14 جانفي المجيدة، يدلنا الرجوع إلى أسباب و حيثيات اندلاعها إلى علاقة معقدة بين السياسية و التكنولوجيا في تونس. من جهة، ركز نظام بن علي و أجهزته في قمعه للمعارضيين الفعليين لدكتاتوريته على أهمية تعميم إستعمال أدوات تكنولوجية متطورة مكنت بنجاعة كبيرة من التحكم فيما ينشر حول استبداد و فساد حكمه. هذا الإستعمال الواسع للتكنولوجيا بهدف إسكات أصوات المعارضة الجادة أدت إلى عمليات قرصنة و حجب وتخريب لمواقع عديدة كنشرية ”تونس نيوز“ أو ”بن علي يزي فك“ 1. يبقى الحدث الأبرز، ولكن في الآن نفسه لم يحظى بإهتمام كبير، هو ثبوت تورط شركة مايكروسفت في الدعم المادي واللوجستي لحكم بن علي في حربه على سياسيين معارضين و ناشطي المجتمع المدني الناقدين لدموية و إستبداد حكمه. فكما اشارت وثائق لويكيلكس2 فقدت اتفقت هذه الشركة مع نظام الدكتاتور السابق على تزويده ببرمجيات لمساعدته على التجسس على المواطنين التونسيين مقابل حصولها على ضمانات من الحكومة بالتخلي عن تبني او تشجيع المصادر المفتوحة. سارعت حينها مايكروسوفت بتكذيب الخبر مشيرة إلى أنها مجرد برامج و تطبيقات عادية و أن الإتفاقية المبرمة كانت بهدف ”خلق فرص شغل“3. هذا طبعا كذب وتضليل فقد نشرت معلومات و تقارير أخرى فيما بعد والتي أكدت تورط هذة الشركة العالمية في تعاون سري مع وكالة الأمن القومي الأمريكي للتجسس على مكالمات سكايب و رسائل البريد الإلكتروني كهوتمايل4 بما يشير إلى إنتهاك مستمر وخرق ممنهج لأبسط قوانين الحرية الشخصية.

من جهة أخرى إيجابية، لعبت وسائل التواصل كمدونات و مواقع أنترنت و أدوات و برامج التشفير الإلكترونية كالبروكسي5 دورا مهما في تكثيف الضغط السياسي والإعلامي على نظام بن علي الدكتاتوري المقيد للحريات، وأدت بشكل مباشر إلى سقوطه خلال فترة اللاعودة بين ديسمبر 2010 و جانفي 2011 من خلال التغطية اليومية الواسعة للحراك الشعبي و دموية القمع البوليسي و تداول فيديوهات مدينة لتورط النظام و همجيته على مواقع يوتوب و فايسبوك وتويتر.

بعيدا عن أي رؤية مانيكية ترى الأمور إما بيضاء أو سوداء، هناك أهمية بالغة في تأكيد العلاقة التماهي بين التكنولوجي و الذاتي – السياسي. في مقال تحليلي لتيم وو نشر في ”ذي نيو يوركر“ بعنوان ”if a time traveller saw a smartphone“ إستدل بأطروحة المسافر العابر للأزمنة ليستنتج بأن التكنولوجيا أحدثت تغييرا جذريا في ادراكنا البشري و ماهيتنا الإنسانية، حيث أكد أن هذا التحول هو عملية متجددة مرتبطة بتقدم الأدوات و الوسائل التكنولوجية. بإختصار، يؤكد وو بأن التقدم البشري الذي نعيشه الأن ومستقبلا لم يعد بتاتا تحولا بيولوجيا (المقترن بجوهرية مبدأ ”ماذا نستطيع“) بل أصبح تطورا تكنولوجيا (قائم على مبدأ ”ماذا نريد“)6.

محورية التكنولوجيا في وعينا بذاتنا و بعالمنا تفرض علينا طرح اشكالية الايتيقا. فما أكد جايمس مور فإن الثورات التكنولوجية المتلاحقة أفرزت مسائل ايتقية شائكة و متشعبة. في هذا المجال، يرتكز قانون مور ( Moor’s Law) على أطروحة أن التكنولوجيا ليست بمعزل عن الإشكاليات الايتقية التي ألمت بالفكر الإنساني منذ البدايات بل أدت كذلك بطريقة مباشرة إلى بروز تعقيدات أكثر حدة و فداحة و التي تستوجب بشكل بالغ الأهمية تحديد مبادئ توجيهية مركزية7. نفس الأطروحة أكدتها دراسات متعددة جمعت في كتاب موسوعي بعنوان ”Handbook of Research on Technoethics“ تحت إشراف لوبشيني روكي (Luppicini Rocci) و ريبيكا أديل (Rebecca Adell) و التي شددت على التأثير الهائل للتكنولوجيا على ماهية الذات و الحرية و الأمان.

المشكلة هنا أنه في تونس مابعد الثورة ظل الوعي الفردي والجماعي بديناميكية التكنولوجيا ساذجا. تبرز هنا إشكاليتان مهمتان تلخص هذا الفهم البدائي المهدد للحريات الذي مازال يربط التونسيين بها و باستعمالاتها. على الجانب الإجتماعي- الشعبي تكمن الحالة الأكثر خطورة في شيوع نشر معلومات شخصية ذات طابع حساس على شبكات التواصل الإجتماعي فالجميع يستعرض معطيات كثيرة كالإسم الكامل وتاريخ الولادة والحالة الإجتماعية و الأنشطة العائلية والإجتماعية بشكل يتنافى مع أبسط قواعد حماية البيانات الشخصية. الأنكى أن الرد التقليدي لدى العديدين بأنه ”ليس لدي ما أخفيه“ ينم عن جهل و تخلي تام عن الحق في التحديد الواعي الطوعي لمتى وكيف أو إلى أي مدى يمكن للمعلومات الخاصة بهم أن يقع استخدامها. رغم وجود قانون لحماية المعطيات الشخصية في تونس، فإن ”النصوص القانونية لا يمكن أن تضمن احترام معطياتنا الشخصية إلا إذا رافقها وعي مواطني بها و بضرورة تطبيقها ضد كل من يتجاوزها من شركات خاصة همها الربح و المتاجرة أحيانا بمعطياتنا“8.

على المستوى السياسي – الثقافي، يشير التعاطي الإعلامي المحدود جدا حول مشروع المعرّف الوحيد للمواطن إلى الغياب الكلي للبعد الإيتقي في تعاملنا مع هذا المقترح السياسي بإمتياز. فكما اشارت ضحى بن يوسف9، تم المضي قدما في تطبيق إنجاز هذا المشروع في ظل تنديد محتشم من بعض نشطاء مدنيين و اقتصار وسائل الإعلام في تعاطيها مع المسألة على مجرد نقل الخبر دون تحليله أو حتى إنارة الرأي العام حول جوانب وتداعيات هذا المشروع. إن إنعدام الحراك الشعبي حول مشروع فاشي كهذا والذي من شأنه أن يجعل الجميع مراقبا بإستمرار و ينفي أي حق دستوري في الخصوصية أو السرية يؤكد قلة إهتمام المواطن التونسي العادي بأهمية الإستقلالية الشخصية و انصرافه عن ما قد يؤدي إلى عودة دولة البوليس.

إن ثورة 14 جانفي ليست ثورة خبز فقط، فالإهتمام بإشكالية إتيقا التكنولوجيا ليس جدلا أو سفسطة برجوازية و انما هي مسألة جوهرية مصيرية ترسخ لمطالب الثورة في الحرية والكرامة. هناك ضرورة ملحة إلى اعادة النظر في المسلمات و البديهيات التي تغلب على علاقتنا بالأشياء المركزية و منها التكنولوجيا.

هوامش