عندما بادرت محسن بسؤالي لم تكد تمضي سوى 24 ساعة على العمل بالزيادة في تعريفات النقل العمومي غير المنتظم بنسبة 13%، والتّي شملت النقل العمومي غير المنتظم كالتاكسي الفردي والتاكسي الجماعي والتاكسي السياحي وسيّارات الأجرة للنقل بين المدن (اللواج) والنقل الريفي. وتأتي هذه الزيادة أيّاما بعد الترفيع في أسعار المحروقات ب75 مليما للمرّة الثاثة خلال هذه السنة  .بعد أن عدّل جلسته، نظر إليّ محسن محاولا انتقاء ألفاظه بعناية وهو يعلم صفتي المهنيّة ليجيب قائلا؛ “هل تظنّ أنّ مشاكل قطاع سيّارات الأجرة ستنتهي بهذه الملّيمات القليلة التّي ستُضاف إلى العدّادات؟ وهل تتصوّر أنّ معاناتنا تقتصر على زيادة تعريفة نقل الحقائب أو الإنتظار؟” أسئلة لم ينتظر منّي هذا الشّاب الثلاثينيّ لأجيبه عنها، بل أشار إلى سيّارته المتهالكة التّي توقّفت بنا أكثر من مرّة في الطريق، ليستطرد قائلا؛ “لقد أصبح مدخولي اليوميّ موجّها في معظمه للبنزين أو للميكانيكيّ، ولك أن تتصوّر ما أحرم نفسي منه يوميّا كي تظلّ هذه السيّارة تجوب الشوارع. فنحن يا صديقي إن لم نعمل لأي سبب أو لأيّ ظرف فلن نعود إلى بيوتنا سوى بجيوب خاوية آخر النهار.”

الدجاجة لم تعد تبيض ذهبا

لم يحدث وأن ركبت سيّارة أجرة لم يبادرني سائقها بتلك العبارة الشهيرة؛ “سأترك هذه المهنة”. لم أعرها من قبل اهتماما وربّما ظننتها أحيانا نوعا من تشتيت الأنظار. لكنّ هذه المرّة، وما إن نطقها محسن حتّى تلقفته مستنكرا، فما أعرفه انّ هذه المهنة تحقّق مداخيل جيّدة، بدليل العدد الهائل لسيّارات الأجرة التّي تجوب الشوارع. بدا محدّثي مستعدّا جيّدا لمثل هذا التعليق. ينزع نظّارته الشمسيّة ليحدّق إليّ مباشرة قائلا؛ “دعنا نكن عمليّين ولنضع العواطف جانبا، فلن أحدّثك عن مخاطر الطريق وعمليات السلب والعنف التّي يتعرّض إليها سائقو سيّارات الأجرة دون أن تتوفّر لديهم أدنى وسائل الحماية، وسأتجاهل مسألة الساعات الطوال التّي نقضيها في الطريق في كلّ الظروف الأمنيّة والمناخيّة والتّي تكون نتائجها عادة أمراضا مزمنة على غرار التهاب المفاصل أو آلام الظهر والسكرّي. سأقتصر على ما يتكبّده أهل القطاع من خسائر ماديّة تتراكم منذ سنوات دون أن تجد لها سلطة الإشراف أو نقاباتنا حلاّ.” ليضيف محسن مشيرا إلى الشارع الذّي غصّ بعشرات سيّارات الأجرة؛ “بإمكاني أن أؤكّد لك وأنا الذّي قضيت 18 سنة وراء المقود، هي تقريبا نصف عمري، أنّ أغلب سيّارات التاكسي التّي تراها ترزح تحت ديون ثقيلة تتوزّع بين البنك والميكانيكيّ وتجّار قطع الغيار. ليستطرد: “مهنة التاكسي كانت مربحة فيما مضى، وتضمن لمزاولها العيش الكريم، بل إن العديد من النّاس اختاروا ترك اختصاصهم والعمل في هذا المجال. لكن الوضع اليوم اختلف كثيرا عن الأيّام الخوالي.”

لم أنبس ببنت شفة، محفّزا إيّاه على الاسترسال في الحديث، وهو ما التقطه محدّثي الذّي واصل موضّحا؛ “لقد أصبحت أسعار قطع الغيار خياليّة مع تواصل تدنّي قيمة الدينار التونسيّ حتّى بلغت ثلاث أضعاف ما كانت عليه منذ سبع سنوات، بل وصرت أصاب بالذعر كلّما أصاب السيّارة عطل، فهي رأسمالي الوحيد.” كان كلامه منطقيّا في ظلّ واقع إقتصاديّ لم يسلم منه ايّ قطاع، خصوصا وأنّ مصاريف الصيانة لسيّارات الأجرة تتضاعف ثلاث وأربع مرّات مقارنة بمعدّل مصاريف السيّارات الخاصّة. صمتي كان محفّزا لمحسن الذّي بدا متحمّسا للفرصة التّي أتيحت لينفّس عن حنقه ليواصل قائلا؛ “حتّى أسعار السيّارات ارتفعت بشكل جنونيّ، فسيّارتي التي اقتنيتها منذ ثماني سنوات ب17 الف دينار، صارت نظيرتها اليوم ب28 الفا. ليس هذا فحسب، بل أنّ غلب السيّارات المورَّدة لا تخلو من العيوب، ليكون المستفيد الدائم هم المورّدون وتجار قطع الغيار والخاسر الوحيد هم المهنيّون من سائقي سيّارات النقل العموميّ.”  يسحب هذا الأخير قنّينة من تحت مقعده ليستأنف بعد أن ارتشف بعض الماء؛ “طبعا لم أتطرّق بعد لمصاريف التأمين التّي تبلغ أربعة اضعاف قيمة التأمين على السيّارات الخاصّة أو ضريبة الغاز أو الغازوال أو المبالغ التّي ندفعها لتمرير سيّاراتنا أثناء عمليات الفحص الفنيّ.” يبتسم منتشيا ربّما بأسلوبه في الدفاع عن وجهة نظره ليبادرني متسائلا؛ “بعد كلّ ما سمعته، هل ما زلت تظنّ أنّني أبالغ حين اتمنّى ترك هذه المهنة؟”

الطريق لم يكن يوما معبّدا…

مُحاولا أن أفسد عليه نشوته، أشرت إلى أنّ أزمة الغلاء وتدهور الوضع الإقتصاديّ لم تقتصر ارتداداتها على قطاع أو فئة دون غيرها. فالمعاناة شاملة وإن اختلفت أوجهها. يتململ جليسي قبل أن يبادر بابتسامة خفيفة بدت على مضض لأحد أعوان شرطة المرور سرعان ما زالت ما إن تجاوزناه ليعقّب قائلا؛ “لكن باقي القطاعات لا تجد نفسها مجبرة يوميّا على الوقوف عشرات المرّات عند كلّ دوريّة للتثبّت من الوثائق الشخصيّة وأوراق السيّارة”. يشير محسن إلى محفظة قريبة منه في صندوق السيّارة الداخليّ، ليؤكّد انّ المضايقات التّي يتعرّض لها من قبل دوريات الأمن أصبحت جزء من تفاصيل يومه. حيث يتوقّف لمرّات أين يعمد العون إلى التفتيش الدقيق لجميع وثائقه الشخصيّة ورخص السيّارة ووصولات خلاص التأمين والفحص الفنّي والجولان بحثاعن هفوة واحدة. يضيف محدّثي بنبرة ضيق واحتجاج؛ “عندما يتفطّن أحد الأعوان إلى خطأ ما تبدأ مرحلة جديدة من المساومات، فبالنسبة له أنت الآن لقمة سائغة وفي المقابل تجد نفسك مسكونا بهاجس مخالفات إضافيّة قد تصل إلى حجز السيّارة. وهو ما يعني حرفيّا شبح البطالة والجوع.”

فجأة، يشير محسن إلى أحد سيّارات النقل الجماعي التّي تجاوزتنا بسرعة جنونيّة على طريق المرسى، قبل أن تتوقّف أمام أحد المحطّات التّي غادرتها للتوّ سيّارة خاصّة استغلّها صاحبها لنقل الأشخاص دون ترخيص. “وكأنّ كلّ ما ذكرته لا يكفي، حتى تنضاف لمعاناتنا هؤلاء الدخلاء الذّين يكنسون الطريق أمامنا”. يسترسل محسن قائلا؛ “الحكومة تتغاضى عن الفوضى التي تسود قطاع النقل الخاصّ هربا من صداع المطالب الاجتماعيّة وكحلّ وقتيّ لتسكين الاحتقان وتوفير موارد رزق للشباب دون أدنى مراعاة لعوامل الخبرة والتكوين الجيّد الذّين يتطلّبهما هذا القطاع.” يسحب محسن صندوقا خشبيّا يستعمله لوضع مدخوله اليوميّ معلّقا؛ “هذه هي نتيجة القرارات الارتجاليّة، جيوب شبه خاوية وتدمير ممنهج لقطاع بأسره.”

ساد الصمت لبعض الوقت، فاختار هو التركيز على القيادة خصوصا وقد بلغنا وقت الذروة والازدحام المروريّ، واغتنمت أنا الفرصة لأنتقل بالحوار إلى مساحات أكثر خصوصيّة. فلم أجد أفضل من موضوع السياسة كفاتحة لفهم ثقافة هذا الشاب الذّي ينحدر من ولاية أريانة وتحديدا من منطقة برج الوزير. بادرته بسؤال عن الانتخابات، رفع سبّابته ضاحكا؛ “بعد ان انطلت عليّ وعود الأحزاب سنة 2011، وانتظرت كغيري في الصفوف لأنتخب، سأقطع هذا الإصبع قبل أن أقدم على تكرار هذه الفعلة.” إجابة لم استغربها بل أكدّت لي شيوع حالة الإحباط التّي لم تقتصر على فئة دون غيرها.

تقدّمت خطوة أخرى نحو حياته الخاصّة لأسأله مرّة أخرى إن كان متزوّجا أو ينوي الزواج. فيقبض محسن بشدّة على عجلة القيادة قائلا؛” سيّارتي هي زوجتي في الوقت الراهن، وهي متطلّبة بشكل يجعلك لا تفكّر إلا في توفير مصاريفها دون غيرها.” ليستطرد بأكثر جديّة؛ “هل تعلم انّني لم أتمكّن من توفير أقساط الضمان الإجتماعيّ منذ سبع سنوات، فما بالك بمصاريف الزواج. لقد قضيت أكثر من 18 سنة أجوب الطرقات وبعت شاحنة والدي التّي ورثتها عنه واخترت مهنة سائق سيّارة الأجرة طواعيّة بعد ان ظننت أنّها ستعبّد لي ما تبقّى من طريق الحياة وها أنا أجد نفسي مجدّدا في مفترق الطرق ابحث عن حلّ آخر بعد أن أعيتني مطبّات هذا القطاع.”