غادر رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي المستشفى العسكريّ عشيّة يوم الإثنين 01 جويلية عائدا إلى مقّر إقامته في قرطاج بعد أن أثارت وعكته الصحيّة الأخيرة حالة من البلبلة السياسيّة تزامنا مع انتشار خبر وفاته في بعض وسائل الإعلام الأجنبيّة ومواقع التواصل الإجتماعيّ. إلاّ أنّ هذه الأزمة، وبالإضافة إلى كشفها فداحة غياب المحكمة الدستوريّة وتأثير ذلك على سلاسة انتقال السلطة واستمراريّة مؤسّسات الدولة، فقد سلّطت الضوء على أداء مؤسّسة رئاسة الجمهوريّة، الذّي بدا ضعيفا وكارثيّا خلال الأزمات. بدءا من الصمت المطبق طيلة ساعات وغياب ردّ رسميّ على شائعة وفاة الرئيس وحقيقة وضعه الصحيّ، وصولا إلى “الشطحات” المنفردة لبعض مستشاريه والتّي لم تعكس سوى قلّة المهنيّة وانعدام الإحساس بالمسؤوليّة، كانت جلّها ممارسات لا يمكن أن يُسمح بها على هذا المستوى، خصوصا أنّ هذه المؤسّسة الممثّلة في رئيسها هي رمز الدولة والضامن لحسن سيرها واستمراريّتها بحسب الفصل 72 من دستور البلاد.

رئاسة الجمهوريّة: المجسّم الحيّ للدولة

لا تقتصر رئاسة الجمهوريّة على منصب فرديّ أو هيكل متواضع محدود التأثير أو الصلاحيّات كما هو شائع، بل تعتبر هذه المؤسّسة مجسّما مصغّرا للدولة، وتتفرّع عنها إدارات ومصالح مدنيّة وأمنية. حيث تشرف رئاسة الجمهوريّة مباشرة على المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية، مصالح الموفق الإداري، الهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية، شركة الخدمات الوطنية والإقامات والهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية. أمّا على مستوى تأمين الحماية، فتضطلع بهذا الدور كلّ من الإدارة العامة لأمن رئيس الدولة والشخصيات الرسمية والإدارة العامّة للمصالح المشتركة.

داخل قصر قرطاج، يحيط الرئيس نفسه بعدد من المستشارين والمساعدين ضمن هيكل يسمّى الديوان الرئاسي، وهو إن صحّ التعبير القلب النابض لمؤسّسة رئاسة الجمهوريّة وعقلها السياسيّ. وفي عهد الباجي قائد السبسي، يتكوّن مكتب الرئيس من 24 فردا يتوزّعون بين مستشارين في مختلف الإختصاصات وملحقين برئاسة الجمهوريّة على رأسهم مدير الديوان الرئاسي الذّي يشغله نبيل عجرود منذ 15 جوان 2019. وقد خُصّص لهذه المؤسّسة التّي تشغّل 3067 عونا في موفى سنة 2018، ما يناهز 123.9 مليون دينار، بزيادة تقدّر ب15 مليون دينار عن سنة 2018. هذا وتطوّرت ميزانيّة رئاسة الجمهوريّة منذ وصول الباجي قائد السبسي إلى قرطاج بنسبة 32.9% خلال السنوات الخمس الأخيرة. لكنّ مكتب الرئيس، ورغم ضخامة الموارد البشريّة والماديّة المرصودة لهم، لم يتمكنّ من التعامل مع الأزمة الأخيرة خصوصا على الصعيد الإتصاليّ. أداء تأثّر بالتجاذبات السياسيّة خارج أسوار قرطاج والتغييرات المتواصلة صلب ديوان الرئاسة، والذّي حوّل هذه المؤسّسة إلى ساحة أخرى للصراعات السياسيّة إلى جانب قبّة باردو وقصر القصبة.

مكتب الرئيس: فناء خلفيّ للرسكلة و والترضيات والعقاب

بعد نجاح نداء تونس في الانتخابات الرئاسيّة سنة 2014، كان لا بدّ أن تُوزّع المكافآت على الحلقة القريبة من مؤسّس الحزب، ليذهب قسم منهم إلى القصبة ويرافق الآخرون الرئيس إلى قرطاج. من هنا بدأ القصر يتخّذ دورا آخر كجائزة ينال حظّا منها من يرضى عنهم السبسي الأب ونجله الذّي بدأت مساعيه لوضع اليد على تركة والده الحزبيّة. دور أحال محسن مرزوق الذّي تمّ تعيينه في 1 جانفي 2015، كمستشار خاصّ لدى رئيس الجمهوريّة مكلّف بالشؤون السياسيّة إلى خارج أسوار القصر في غرّة جويليّة من نفس السنة بتعلّة تسليمه أمانة الحزب. خطوة اكتشف مرزوق لاحقا أنّها لم تكن سوى غطاء لإبعاده عن الرئيس وعن نداء تونس لاحقا. أمّا رفيقه رضا بالحاج الذّي تولّى منصب مدير الديوان الرئاسي في نفس التاريخ، فلم يسلم من ارتدادات الخلاف داخل الحزب، ورغم أنّه اصطف إلى جانب حافظ قائد السبسي في حربه لإزاحة الحرس القديم، إلاّ أنّه وجد نفسه مشمولا بعدم الرضا ومسار تصفية جيل المؤسّسين من القصبة وقرطاج في 01 فيفري 2016.

إثر مؤتمر سوسة في 10 جانفي 2016، واستتباب الأمر لنجل الرئيس، تمّ تعيين سليم عزّابي، المنسّق التنفيذي للحملة الانتخابيّة للباجي قائد السبسي، مديرا للديوان الرئاسي. منذ ذلك التاريخ وحتّى منتصف سنة 2018، بدأت حلقة أخرى في سلسلة تبادل المواقع بين عدد من رجالات القصبة وقرطاج ممن نأوْ بأنفسهم عن التصادم مع طموحات حافظ قائد السبسي. لتتحوّل التعيينات على رؤوس الوزارات أو في ديوان رئيس الجمهوريّة إلى عمليّة رسكلة لعبت فيها مؤسّسة الرئاسة حينا دور المحضنة لإعداد الوزراء الجدد أو ملاذا للوزراء المُقالين في عمليّات التحوير الوزاري. لعلّ أبرز الوجوه التّي انتقلت بين القصريْن؛ رضا شلغوم، المستشار الاقتصادي السابق للرئيس ووزير الماليّة الحالي منذ 06 سبتمبر 2017، وناجي جلول، وزير التربية السابق والرئيس الحاليّ للمعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية منذ 12 سبتمبر 2017 عوضا عن حاتم بن سالم الذّي خلفه في الوزارة بالإضافة إلى رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد الذّي حظي بعد إزاحته من القصبة في 30 جويليّة 2016، بترضية عبر تعيينه مستشارا لرئس الجمهوريّة مكلّفا بالشؤون السياسيّة في 06 أوت 2018.

هدوء الصراعات نسبيّا صلب نداء تونس خلال السنتين اللاحقتين، خصوصا مع تعيين ما ظنّه الباجي قائد السبسي رجُله في القصبة، سرعان ما انقلب إلى حرب شرسة بين حافظ قائد السبسي ويوسف الشاهد. معركة امتدّت ارتداداتها إلى قصر قرطاج مرّة أخرى ليكتشف رئيس الجمهوريّة رجالا لرئيس الحكومة حوله، عندما قرّر مدير ديوانه، سليم العزّابي الإستقالة في 13 أكتوبر 2018 الذّي تولّى لاحقا الأمانة العامّة لحزب تحيا تونس.

حتّى اللحظات الأخيرة من المدّة الرئاسيّة الراهنة، ظلّت الإضطرابات داخل حزب نداء تونس تلقي بظلّها على مؤسّسة الرئاسة. فبعد أن وقع اختيار رئيس الجمهوريّة على سلمى اللومي، وزيرة السياحة السابق وأمينة مال نداء تونس قبل الاندماج مع الاتحاد الوطني الحرّ، لتكون مديرة الديوان الرئاسي الثالثة منذ سنة 2014 في 01 نوفمبر 2018. إلاّ أنّ تواصل الإنقسامات داخل الحزب، وظهور ما يعرف بشقّ الحمامات الذّي يترأسه سفيان طوبال، وشقّ المنستير التابع لحافظ قائد السبسي، انعكس مباشرة على مكتب الرئيس، لتقدّم اللومي استقالتها من منصبها في 15 ماي 2019، بعد أنحيازها لشقّ سفيان طوبال قبل أن تعلن لاحقا انشقاقها التّام عن الحزب.