عند التاسعة صباحا ببهو الكنيسة، نفذ الشاب التونسي عملية طعن راح ضحيتها؛ امرأة مسنة فارقت الحياة بعد قطع رأسها، خادم الكنيسة (55 عاماً) وامرأة أخرى (44 عاما) توفيا نتيجة الطعنات. لا تعتبر هذه الحادثة الإرهابية الأولى من نوعها، ففي مدينة نيس بالذات، في 14 جويلية 2016، قام تونسي بدهس حشد من الناس ليقتل 84 شخصا عدى الجرحى. لكن الجديد هنا هو أن الإرهابي في نفس الوقت مهاجر غير نظامي حديث العهد. والسؤال المطروح هنا، هل من علاقة بين الهجرة غير النظامية والإرهاب؟

الظروف التي غذّت هجرة العيساوي

قبل حوالي سنة من ولادته، اختارت عائلة إبراهيم عيساوي منفذ عملية كاتدرائية نيس، النزوح من معتمدية سيدي عمر بوحجلة من ولاية القيروان (32,7% نسبة الفقر في 2020)[1] إلى حي النصر من معتمدية طينة بولاية صفاقس، التي تعتبر ثاني أهم مدينة اقتصاديا وديمغرافيا بعد العاصمة تونس. في حضرة هذا الحي الهامشي وعلى بعد 8 كيلومترات عن وسط الولاية، ولد إبراهيم العيساوي في 29 مارس 1999. وسط عائلة ممتدة، تتكون من 7 بنات وثلاث شبان إلى جانب الوالدين، حسب ما جاء في تقرير لوكالة فرانس برس نشره موقع فرانس 24.

ولا تعتبر عائلة إبراهيم استثناء في الحي، فأغلب العائلات بهذه الأحياء تكون نازحةً من المناطق الداخلية التي تناستها مخططات التنمية، للمناطق السياحية والمدن الكبرى بحثاً عن حياة أفضل. وذكرت إحدى القاطنات بتلك المنطقة، أن أغلب العائلات النازحة يتمركزون في أحياء متاخمة لهذه المدن، وتكون عادةً قريبة من المناطق الصناعية. وبما أن هذه الأحياء تكبر وتتمدد في غياب تام لمؤسسات للدولة، ما عدا مراكز الأمن والمدرسة، وخارج مخططات التهيئة العمرانية، تجدها تشتكي من مشاكل جمة على مستوى البنية التحتية. ويعتبر حي النصر نموذج حياً عن هاته الأحياء. بين أنهجه، قضى إبراهيم طفولته وكون علاقته الأولى، وشهد توسعه والنزوح المتواصل للعائلات الباحثة عن الأمل، التي تصطف في منازل صغيرة وبالية جنب منزلهم.

عند بلوغه السنة السابعة من التعليم الابتدائي، اختار إبراهيم الانقطاع عن الدراسة، وهي ظاهرة آخذة في الانتشار بين شباب هذه الأحياء، حيث لم يعد للمدرسة ذلك الدور باعتبارها مصعدا اجتماعيا، بل بالعكس أصبحت منتجة للبطالة. وهو ما يدفع مرتاديها إلى الانقطاع عنها، والبحث عن طريق آخر يضمن لهم المستقبل قبل فوات الأوان. ومن هناك يرتمي هؤلاء في أحضان المجهول، في ظل عائلات ممتدة يصعب فيها على ربّ العائلة تلبية احتياجات الجميع وتأطير جميع أفرادها، في حي شعبي هامشي يخلق ظروفا ملائمة للانحراف.

في سن مبكرة، انخرط إبراهيم في شق طريقه والبحث عن بديل لمسار التعليم. هناك حيث الغياب شبه الكلي للدولة، لا يوجد غير الاقتصاد الهامشي، كأن تشتغل موسميا في معصرة زيتون مقابل بعض الدينارات، أو تشتغل عاملا يوميا أو في محل ميكانيكي أو إصلاح الدرجات، دون إغفال آلاف العاملين في الاقتصاد الموازي. وقد مر إبراهيم بكل هاته المراحل لينتهي به الأمر بتاجر للبنزين المهرب مثلما أوضح أخوه لراديو ديوان أف أم. لكن تبقى عائدات هاته الأنشطة هامشية و موسمية، لا تضمن استقرارا مادياً و نفسيا. كما لا تمكن الناشطين فيها من الانخراط في الاقتصاد المنظم والرسمي الذي يميز المدينة التي يعيشون على تخومها. وبالتالي تساهم في تكريس الهشاشة والإقصاء المادي والاجتماعي.

ومهما بلغت عائدات هذه الأنشطة فإنها لا تحقق الارتقاء الاجتماعي ولا المكانة المرموقة.

لم يتجاوز سن إبراهيم عند حدوث ثورة 2011، 12 سنة، ليعيش السنوات العشر التي تليها منتظرا حدوث التغيير. هذا التغيير الذي لم يأتي مع انتخابات المجلس التأسيسي في 2011 ولا مجلس نواب الشعب ورئاسيات 2014 و2019. و لم يحققه رئيس بلديتهم المنتخب حديثا لتكريس اللامركزية. ولم تكن الثورة في حيهم إلا فرصةً لبيع البنزين المهرب وليقوم بزيارتهم عدد من السياسيين في الانتخابات بحثاً عن الأصوات. أما الأمل الذي سمع به في سن الثانية عشر فلم يأتي، و تأخر إلى حدود الغياب الذي يعانق الموت. ولم يبقى له إلا أزقة ذلك الحي الهامشي أين تعلم استهلاك المخدرات والانسياق إلى الجريمة، حيث قضى عقوبات سجنية في الإصلاحية ب5 أشهر سنة 2016، في حادثة طعن بسكين في الحي. 

كل هذه الظروف تحولت إلى دوافع إلى البحث عن طريق الخلاص من هذا الوضع، وبالتالي تحول إبراهيم عيساوي إلى مشروع مهاجر غير نظامي يسعى بشتى الطرق إلى مغادرة الفضاء الهامشي الذي يعيش فيه، سعياً للذهاب إلى فضاء يمكن أن يكون أرحب. وبالفعل حاول إبراهيم مرارا مغادرة البلاد بطريقة غير نظامية، بحسب شهادة شقيقه، لينجح أخيرا في تحقيق هدفه ويصل التراب الأوروبي في 20 سبتمبر 2020، بقارب رسي على شواطئ جزيرة لمبادوزة، مرفوقا بـ40 شخص، وهو واحد من 26 قاربا وصلوا الجزيرة في تلك الليلة، حسب  ما أفاد به النائب عن الجالية التونسية في إيطاليا مجدي كرباعي. 

الهجرة والإرهاب: نفس الأسباب تؤدي لنفس النتائج

إن كانت كل الأسباب التي عددناها تؤدي إلى الهجرة غير النظامية، وهذا ما حدث فعلا، ما الذي دفع إذا إبراهيم عويساوي للقيام بعمليته الإرهابية؟ هذا السؤال مهم لمعرفة إن كانت هناك علاقة بين الإرهاب والهجرة غير النظامية.

يقف الباحث في العلوم الاجتماعية، جهاد الحاج سالم، في دراسته “الشباب الجهادي في دوار هيشر: دراسة حالة اثنوغرافية”، على أن “نسبة عالية من الشباب الجهادي في دوار هيشر ينحدرون من شريحة اجتماعية معينة تعيش وضع عطوبة اجتماعية.” وللإشارة، فإن حي دوار هيشر مشابه لحي النصر مسقط رأس إبراهيم عويساوي. ويشير الباحث إلى أن “وضع العطوبة الاجتماعية يشكله انفتاق الروابط الإجتماعية من 4 جهات ممكنة”. الأولى من جهة الإندماج الإقتصادي؛ كالبطالة أو الأعمال الموسمية الهشة، تماما كتلك الأعمال التي مارسها إبراهيم عيساوي، و هي العمل في معصرة زيتون، العمل في محل إصلاح الدراجات و بيع البنزين المهرب. ثانيا؛ من جهة الإندماج العلائقي: وهو ما تجسده شبكة الروابط التي يعيش داخلها إبراهيم، أولها عائلة ممتدة و كثيرة العدد نازحة من منطقة داخلية وحديثة الإقامة بالحي. ثانيها علاقات الأتراب والجوار التي تتقاسم جلها نفس المسار الاجتماعي ونفس المشاكل. كما أن نظام تبادل الخبرات في ظل هذا النسيج العلائقي “شحيح وهابط القيمة من خلال الموارد التي  قد يوفرها”. ثالثاً؛ من جهة الانقطاع المدرسي، والتي يعبر عنها هجر إبراهيم لمقعد الدراسة في سن مبكرة. و أخيرا؛ حالة الإنكار الاجتماعي، أو حالة الوصم والحقرة التي يعيشها سكان هذه الأحياء عموما، والمنتسبون ل الشرائح الفقيرة خصوصا.

مما سبق يمكن الوقوف على استنتاجين مهمين، أولهما عند توفر الشروط الأربعة يمكن للفرد أن يتحول، في سياقات تاريخية معينة، إلى مشروع إرهابي بسهولة. ثانيهما، هو أن كل الشروط المذكورة والمسببة للعطوبة الإجتماعية، تتطابق مع الظروف الاجتماعية التي تجعل من الفرد مشروع مهاجر غير نظامي. بمعنى آخر يشترك الإرهاب والهجرة غير النظامية في جانب كبير من الأسباب والدوافع الاجتماعية. و يمكن للفرد الذي نشأ في خضم هذه العوامل الإجتماعية، أن يكون مهاجراً غير نظامي أو إرهابيا، باختلاف بعض المتغيرات الاجتماعية والسياقات التاريخية و السياسية.

وبالعودة إلى حالة إبراهيم عويساوي، منفذ العملية الإرهابية بمدينة نيس الفرنسية، نلاحظ أن الأسباب المشتركة بين الهجرة غير النظامية والإرهاب كلها متوفرة. فإن كانت تلك الأسباب حملته إلى الهجرة غير النظامية في مرحلة أولى، لكنها لم تزل بوصوله شاطئ لامبيدوزا، بل بقيت ساكنه فيه ومحددة لمختلف سلوكياته وتوجهاته، إضافة للسياق الدولي العام المتعلق بنشر الكاريكاتيرات “المسيئة للرسول”.