لم تكن آمال التونسيين معلّقة كثيرا على المشيشي وحكومته في حل الأزمات المتعددة التي تمر بها البلاد، ولكن لم يكن من المتوقع أيضا أن يدخل المشيشي مبكّرا في معركة مع رئيس الجمهورية تشلّ حكومته وتحيلها إلى وضع الإنعاش.

يوم 5 جانفي الماضي، أقدم المشيشي بإيعاز من حزامه السياسي وخاصة حركة النهضة على إقالة وزير الداخلية توفيق شرف الدين المقرّب من رئيس الجمهورية قيس سعيد وتولّي مهام تسيير وزارة الداخلية بنفسه. ليجري بعد أقل من أسبوعين تحويرا وزاريا يشمل 12 حقيبة وزارية، تحوير اعتُبر تحدّ ومواجهة للرئيس قيس سعيد الذي قرر عدم استقبال الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية. لكن المشيشي وعملا بنصيحة الحزام الذي يدعمه أقال خمسة وزراء، وضم حقائبهم إلى وزراء آخرين بالنيابة. ومنذ ذلك الوقت دخلت الحكومة في شبه شلل، ودخلت معها البلاد أزمة سياسية خانقة تعمّقت مع تزامن أزمات صحية واقتصادية واجتماعية.

صراع الغنوشي/سعيّد

لا أحد من الفاعلين السياسيين، حكما ومعارضة، حكومة ورئاسة، يبحث عن مخرج للأزمة التي لم تشهدها البلاد منذ استقلالها عن فرنسا سنة 1956. حركة النهضة، باعتبارها أكبر الداعمين للحكومة، لا تفوّت أي فرصة لدفع المشيشي إلى مواصلة سياسة الهروب إلى الإمام، بل أن راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة يتصرّف وكأنه هو رئيس الحكومة الفعلي. فبعد أن أعلن نور الدين الطبوبي الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل أن رئيس الجمهورية يشترط استقالة المشيشي لبدء أي حوار وطني من أجل التوصل إلى اتفاق يخرج البلاد من أزمتها، أجاب راشد الغنوشي أن المشيشي لن يستقيل. وقال: “نحن ضدّ أي مطلب يمكن أن يحدث فراغا خاصة أنّ البلاد تعيش الكثير من المشاكل، فلا ينبغي تعميقها أكثر من ذلك، نحن تحتاج إلى تماسك السلطة وليس فكها”. وردد المشيشي على إثر ذلك أنه لن يستقيل.

ويخفي الخلاف بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، صراعا حقيقيا بين راشد الغنوشي وقيس سعيد. ومنذ حكومة إلياس الفخفاخ التي شاركت فيها النهضة بستة وزراء، بدأ صراع خفي بين الرجلين، أخرجه قيس سعيد إلى العلن حين عبر عن امتعاضه من زيارة الغنوشي إلى تركيا ولقائه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، واتخاذه لموقف منحاز من الصراع الليبي بدعمه لحكومة طرابلس بالرغم من أنه لا يمثل حزبه فقط بل والبرلمان التونسي كذلك بما أنه يترأسّه. وتتالت بعدها المحاكمات السياسية بين الرئاستين ليصل الوضع لما هو عليه اليوم.

موسي تستثمر في الألم

وفي الوقت الذي تعيش فيه البلاد مأزق دستوري حاد بسبب التنازع بين رأسي السلطة التنفيذية، وفي ظل غياب المحكمة الدستورية التي فشلت الأحزاب الأغلبية في البرلمان في إرسائها. تحاول حركة النهضة دفع الاستقطاب الثنائي إلى نهايته من خلال استعمال الشارع في ما تسميه “الدفاع عن المؤسسات”، في المقابل، تسعى عبير موسي إلى استغلال عملية الاستقطاب بين النهضة ومعارضيها لتستفيد منها انتخابيا. وبدت عبير موسي وحزبها وكأنها في حملة انتخابية لا تتوقف. وفي الوقت الذي تتخبّط في البلاد في الأزمات، الصحية بسبب تأخّر تلاقيح وباء كوفيد، والأزمة الاقتصادية الخانقة وتوجه الدولة نحو الإفلاس، تجوب عبير موسي البلاد منذ أسابيع شرقا وغربا، في حملة انتخابية سابقة لأوانها، مستغلة في ذلك آلام الناس ومآسيهم وغضبهم وحقدهم على الحكومة وحركة النهضة التي تدعمها.

أفق ضبابي

في مقابل ذلك، تغط، من تسمى نفسها بالأحزاب الديمقراطية واليسارية في نوم عميق. فيما عدى بعض التحركات المحتشمة، يغيب النقاش العميق والحقيقي وسط هذه النخب حول أزماتها الخاصة وأزمات البلاد ومراجعة سياساتها والقيام بنقدها الذاتي حول فشلها وترك البلاد ضحية استقطاب التطرف والاستبداد. أما الاحتجاجات الشبابية التي حاولت تحريك المياه الراكدة فقد واجهها رئيس الحكومة ووزير الداخلية بالنيابة بقبضة من حديد، واعتقلت قوات البوليس أكثر من 1500 محتج ومحتجة منذ بداية التحركات، وتعرض العديد منهم إلى التعذيب. بالمقابل، يبدو أن الشارع التونسي بدأ يتعايش مع الأزمة وطبّع معها.

في الأثناء، هنالك حالة يأس من الإصلاح، وخيبة أمل من كل السياسيين دون استثناء. وقد بدأ عموم المواطنين يتعايشون مع الأزمة، وفي البال حلم لا تحققه سوى معجزة، يتم بموجبها، وبشكل مستعجل، تجميع كل الأحزاب السياسية وقيادات الدولة والمنظمات الوطنية في حوار دون شروط وملزم في أجل محدد بإعداد خارطة للخروج من الهاوية. خارطة تتضمن اتفاقا بين الحكومة والمنظمات والأحزاب على برنامج إصلاح اقتصادي وسياسي واضح ومحدد ودقيق، والاتفاق حول فريق حكومي لتنفيذ برنامج إنقاذ وذلك لأجل محدد. وتتفق هذه الأطراف أيضا على تشكيل المحكمة الدستورية، وتنقيح القانون الانتخابي وتحديد موعد لانتخابات سابقة لأوانها، وإعادة الأمانة لأصحابها ليعيدوا تفويضها لمن يرونه صالحا في مناخ تشريعي وديمقراطي ملائم.