أعدّت الحكومة العدة جيّدا لاستقبال اليوم العالمي لحرية الصحافة، وذلك عبر جملة من التعيينات السياسية على رأس مؤسسات إعلامية ومصادرة، بالإضافة إلى اقتحام قوات الشرطة لمقر وكالة تونس افريقيا للأنباء والاعتداء على الصحفيين والعاملين في الوكالة بهدف فرض تنصيب رئيس مدير عام جديد، والذي يعتبر يوما أسودا في تاريخ الصحافة التونسية، إضافة إلى خطوة سابقة تتمثل في سحب مشروع الحكومة لقانون السمعي البصري من البرلمان وذلك لفسح المجال أمام التعديلات التي قدمتها كتلة ائتلاف الكرامة من أجل الترخيص للقنوت غير القانونية والسيطرة الحزبية على هيئة الاتصال السمعي البصري.

بعد ما سبق ذكره، ولا يسمح المجال هنا بذكر جميع القرارات والإجراءات، تراجعت تونس في تصنيف منظمة مراسلون بلا حدود السنوي حول حالة حرية الصحافة، واحتلت تونس المركز 73 بعد أن كانت في المركز 72 في السنوات القليلة الماضية.

بعض من أسباب التراجع

كثيرة هي أسباب تراجع تونس في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، إذ يعتبر صهيب الخياطي، رئيس مكتب مراسلون بلا حدود في شمال أفريقيا، أن هذا التراجع هو بمثابة الإشعار بوجود محاولات للمس من هذا المكسب الذي ناله الإعلام بتونس. وأضاف الخياطي أن

من بين الأسباب الأخرى لهذا التراجع هو تأخر البرلمان بسبع سنوات كاملة في مسار استكمال الإطار التشريعي لضمان حرية الإعلام والصحافة والسعي نحو السيطرة على هيئة الاتصال السمعي البصري ومجاهرة عدد من الجهات السياسية بعدائها للإعلاميين.

من جهتها، تعتبر خولة شبح، منسقة وحدة رصد الانتهاكات ضد الصحفيين، أن

السنة الماضية شهدت انتكاسة على مستوى الحريات الصحفية، وتضاعف خطاب التحريض على العنف ضد الصحفيين وتحولت هذه الحملات إلى أعمال عنف في حق الصحفيين بالإضافة إلى ارتفاع عدد الاعتداءات الأمنية وازدياد خطورتها.

وقد سجلت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في تقريرها السنوي لواقع حرية الصحافة في تونس، الذي تم تقديمه الاثنين 3 ماي 2021، 206 اعتداء خلال الفترة الممتدة بين 1 ماي 2020 و30 أفريل 2021. وهي أعلى نسبة سجلت على مدى السنوات الثلاث الأخيرة.

وعبرت خولة شبح عن مخاوفها “من انخراط البرلمان في محاولات التراجع عن المكتسبات التشريعية بعد الثورة عبر مشاريع تعديلات وقوانين تسعى لوضع اليد على الإعلام وتقليص منسوب الحريات الصحفية”. وأضافت أن الدولة واصلت سياسة التعتيم على المعلومة من خلال إصدار المناشير الداخلية في الإدارة التونسية التي تستهدف مبادئ الشفافية واحترام حرية العمل الصحفي والحق في الحصول على المعلومة، في ظل غياب الإرادة السياسية في احترام طبيعة العمل الصحفي وحرية الصحافة وغياب الإدانة العلنية للاعتداءات، حسب قولها.

الفساد السياسي يجتاح المشهد الإعلامي

يعتبر البرلمان في تونس مركز العملية الديمقراطية، لكنه أصبح بمرور الوقت عبئا ثقيلا على الدولة في عديد المجالات خاصة وأنه تحول في هذه الدورة البرلمانية إلى مسرح للصراعات والخصومات والعراك بين الكتل النيابية وخاصة بين ائتلاف الكرامة (والنهضة بأقل حدة) من جهة والدستوري الحر من جهة أخرى.

هذه الصراعات العقيمة أبعدت البرلمان عن دوره الأساسي وهو التشريع والمصادقة على القوانين، ومن بين هذه القوانين نجد قانون السمعي البصري الذي كان على البرلمان المصادقة عليه منذ الدورة الماضية (2014-2019) إلا أنه لم يتم المصادقة عليه لليوم بل تم التلاعب به من قبل الأغلبية الحكومية وسحب المشروع من قبل حكومة المشيشي من أجل السماح لائتلاف الكرامة بتمرير تعديلات على المرسوم 116 تسمح له بالسيطرة على الهايكا وإعطاء الغطاء لوجود القنوات التلفزية والاذاعية غير القانونية (مثل قناة نسمة والزيتونة وإذاعة القرآن الكريم لصاحبها سعيد الجزيري).

المشهد الإعلامي الذي نعيشه اليوم يتميز بالفوضى وغياب الأطر التشريعية والمؤسساتية لحماية حرية الصحافة والتعبير واستقلالية المؤسسات الإعلامية العمومية، ففي هذا المشهد نجد قنوات إذاعية وتلفزية خارجة عن القانون لكنها تبث بصفة عادية رغم قرارات حجز المعدات ووقف البث الصادرة عن هيئة الاتصال السمعي البصري. ونفس هذه القنوات تتحول إلى أبواق دعاية لفائدة أحزاب بعينها بل إن أحزابا وُجدت بفضل هذه القنوات الإذاعية والتلفزية (مثال قناة نسمة وحزب قلب تونس وحزب الرحمة الذي تحصل على مقاعد في البرلمان فقط في المناطق التي تبث منها إذاعته غير القانونية) وتمكنت من دخول البرلمان لتشكل جبهة دفاع عن نفسها وعن مموليها وأجنداتهم.

نحن إذن أمام ضرب فاضح لكل مقومات نزاهة الانتخابات وإلغاء لجوهر العملية الديمقراطية القائمة على الشفافية والنزاهة والعدالة والإنصاف بين الجميع. فبأي معنى تُجري تونس انتخابات عامة تجد فيها مرشحا يسخر إذاعته غير القانونية للدعاية لنفسه تحت غطاء القرآن الكريم في مقابل مرشح آخر لا يملك غير بعض المطويات ودقائق قليلة في الإعلام العمومي يقول فيها كلمته للناخبين؟