غالبا ما يتحدث المسؤولون في الدولة عن تشعب مسالك التوزيع الذي يتسبب في المضاربة بالمنتج الغذائي، وهي عملية بيع وشراء يبتغي منها المضاربون الاستفادة من تقلب الأسعار لتحقيق ربح، متسببين في خلل على مستوى الكميات المعروضة للبيع حتى يضمنوا تقلب الأسعار. غير أنه لا يمكن أن تكون مسالك التوزيع الوحش الوحيد الذي ينفخ ناره ليُلهب السوق. فالدّولة تعجزعن توفير عدد مناسب من المراقبين، كما أنّ منظمة الدفاع عن المستهلك، أكبر المنظمات التي تمثل إسنادا للدولة، تعطلت مهامها بسبب شحّ مواردها المالية ووقف الدّعم العمومي لها. فيما يواجه التونسيون ككل عام، دخول شهر رمضان بهواجس كبيرة عن مفاجآت الأسواق والمتاجر التي غالبا ما تكون كالآتي: نقص في أحد المواد الأساسية، مقابل محاولات الدولة بعث تطمينات عن توفرها في السوق، وارتفاع حاد في أسعار مستلزمات أطباق التونسيين في رمضان، فتكون النتائج حزمة من الشكاوى تقابلها بلاغات من وزارة التجارة عن ملاحقة المخالفين وأرقام عن حجم المخالفات.


 

المسار الإداري لتلقّي الشكاوى

 
في الطابق الثاني بمبنى وزارة التجارة، يجلس ثلاثة موظفين في مكتب صغير هو عبارة عن مركز تجمع الشكاوى، أحدهما موظف يتلقى مكالمات من المستهلكين والتجار الّذين يشتكون من مخالفات يُودعها باعة المواد الغذائية. يقول أحد الموظّفين لموقع “نواة” إنّ الوزارة تلقت 452 شكوى في النصف الأول من رمضان، أي بمعدّل 35 شكوى في اليوم، وهو رقم مرتفع خاصة أن ما يُسمّى بمركز رصد المخالفات هو مجرد إسناد لفرق المراقبة. ويضيف أنّ أغلب الشكاوى تتعلق إما بالامتناع عن البيع أو الترفيع في الأسعار أو البيع المشروط خاصة بالنسبة للموادّ الأساسية.

“تبدأ عملية متابعة المخالفات بتلقي الشكاوى عبر الخط الأخضر، وتتحرك الوزارة وفق خطورة الشكوى ” حسب قول عبد القادر التيمومي، وهو مدير في الوزارة يشرف على مكتب تلقي الشكاوى، في انتظار أن تستجيب الوزارة بين يوم وثلاثة أيام، عبر معاينة المخالفات التي تمّ التبليغ عنها حين تكون الشكوى متعلقة بالتخزين والامتناع عن البيع، وذلك عن طريق مراقبين يعملون بالتنسيق مع مكتب رصد المخالفات.

يمثّل مركز تلقي الشكاوى في وزارة التجارة إسنادا لعمليات المراقبة اليومية التي تستهدف التثبت من احترام الحد قانوني للأسعار، ولما يُسمّى بالمراقبة النوعية للأسواق ولمحلات بيع الموادّ الغذائية والتي تخضع لبرنامج خاصّ. ويعمل المراقبون التابعون للوزارة ضمن فرق مشتركة متكونة من مراقبَيْن اثنين من وزارة التجارة ومراقب من وزارة الصحة إذا تعلق الإشكال بمعاينة إمكانية وجود مخالفات تتعلق بحفظ الصحة، مصحوبين بأعوان الشرطة البلدية.

يتم التنسيق مع الإدارة الجهوية للتجارة، حيث تخرج فرقة مراقبين على الأقل وتكون العقوبة إما إدارية مثال غلق المحل أو منع من التزود أو تقليص كمية التزود، أو عقوبة جزائية مثل الخطايا والعقوبات السجنية، ويتكفل بها القضاء.

أمّا “قاعة العمليات” فلها مهمّتان: الأولى تلقي الشكاوى من المواطنين والثانية إسناد فرق المراقبة عن طريق معلومات أو طلب معاضدة أمنية، ويحدد المدير الجهوي للتجارة طبيعة عملية المراقبة لتكون إما استعجالية أو عادية.
 

 300 مراقب في مواجهة عشرات الآلاف من التجار

 
تبدو الصورة مطَمْئنة وتبدو الدولة متجندة لحماية المستهلك، الّذي يعجز، من ناحية أخرى، عن فهم سبب ارتفاع الأسعار أو الاحتكار أو بيع مواد غذائية لا تحترم المعايير الصحية. ويبطل التعجب من ذلك بفهم نتيجة معادلة بسيطة وهي مقارنة بين عدد المراقبين الذين يعملون بوزارة التجارة وعدد الأسواق والتجار في كل البلاد.

يبلغ العدد الجملي للمراقبين التابعين لوزارة التجارة 600 مراقبا. وإذا تمّ استثناء أعوان وزارة الصحّة والشرطة البلديّة من فرق الرّقابة، فإن العدد الفعلي للمراقبين هو 300 مكلّفون بمتابعة دوريّة لأكثر من 800 سوقا من ضمنها 300 سوقا أسبوعية و275 سوقا بلدية يومية، إضافة إلى 180 مسلخ لحوم حمراء، دون اعتبار نقاط البيع العشوائية التي لا تملك الوزارة إحصائيات عنها أو عن عدد تجّار الخضر الموسميّين الذين يعرضون سلعهم في الفضاءات المراقبة.

تتمثل مهامّ المراقبين التابعين لوزارة التجارة في متابعة 33 ألف تاجر خضر وغلال وأسماك ولحوم، و83 تاجر مواد غذائية بالجملة والتفصيل. لذلك تبدو عملية المراقبة مهمة مستحيلة، ويبدو معدل المخالفات اليومية التي تسجلها الوزارة والذي يصل إلى 600 محضر مخالفة بسبب غياب الشفافية والترفيع في الأسعار والاحتكار، رقما ضعيفا باعتبار أنه لا يغطي سوى نسبة ضعيفة جدا من الأسواق والمحلات التي تملك وزارة التجارة بيانات عنها، دون اعتبار تجّار وباعة المواد الغذائية الذين يمارسون نشاطهم خارج المسالك القانونية.
 

منظمة الدفاع عن المستهلك: اليد المبتورة

 
في الأسبوع الثاني من شهر رمضان، مزّق مجهولون ثلاثة عشر لافتة توعوية علقتها منظمة الدفاع عن المستهلك بسيدي بوزيد، وسط المدينة وأمام المغازة العامة ومداخل السوق ونقاط بيع الخضر والغلال. ويقول محمد صالح البكاري، رئيس المكتب الجهوي بالمنظمة، إنّ تلك اللافتات التي تكفل بإعدادها من ماله الخاص، كانت تحمل رسائل توعية للمستهلك من أجل مقاطعة البضائع والمنتوجات الغذائية التي لا تحترم الأسعار القانونية. ويضيف البكاري في تصريح لموقع “نواة”: “تمّ تمزيق كل اللافتات وحصل الأمر ذاته في منوبة”.

منذ العام 2019، تعجز منظمة الدفاع عن المستهلك التي تأسست عام 1989 عن تسديد معلوم كراء مقرّاتها الجهوية المتمركزة في الأربع والعشرين ولاية، وأصبح نشاطها باهتا بعد أن كانت تعاضد وزارة التجارة في التبليغ عن تجاوزات ضحيتها المستهلك، وفي الوساطة من أجل استرجاع حقوق المستهلكين الذي وقعوا ضحايا التجار أو مراكز البيع التجارية، خاصة أولئك الذين يفزعون من طول إجراءات التقاضي.

يقول عمار ضية رئيس المنظمة في تصريح لـ”نواة” إن المنظمة تعمل دون أي موارد بعد أن قطعت الدولة الدعم الذي كانت تتلقاه والذي كان مصدر تمويل ميزانيتها بالكامل. فبعد سقوط نظام بن علي، تقلصت ميزانية المنظمة إلى النصف، لتتوقف الدولة كلّيا منذ ثلاث سنوات عن تمويلها”. ويضيف: “نعمل منذ ثلاث سنوات من موارد الأعضاء الخاصة ونحن عاجزون الآن عن تسديد فاتورة الإنارة، ومهددون بقطع الكهرباء ولم يتلقَّ ثلاثة أعوان في المقر الرئيسي أجورهم منذ جانفي الماضي. أصبح نشاطنا مقتصرا على المهام التقليدية البسيطة التي تضطلع بها المنظمة مثل التواصل مع الجهة الخصم التي تضرر منها المستهلك. لم ننتج أي محتوى رقمي أو مطبوع، حيث كان من المفترض أن ننفّذ برنامجا رقميا يمكّن من مقارنة أسعار الخدمات والسلع في كل الولايات”.

تبلغ ميزانية منظمة الدفاع عن المستهلك قرابة 1500 دينار وهي مدخول الاشتراكات التي يدفعها المنخرطون، وينشط أغلبهم بصفتهم متطوعين. يقول محمد صالح البكاري رئيس فرع المنظمة في سيدي بوزيد “نتنقل بواسطة سيارة أحد المتطوعين وأدفع ثمن اللافتات التوعوية بواسطة مالي الخاص، ولا أعلم إلى متى سنصمد”.
 

عقوبات زجرية للمخالفين وهياكل رسمية متورّطة

 
يُسلّط المُشرّع عقوبات زجريّة تتراوح بين الخطايا الماليّة والعقوبات السّجنية على كلّ من يُعرقل تحديد الأسعار حسب قاعدة العرض والطّلب، أو كلّ من يمارس سيطرة حاسمة على نشاط مؤسّسة أو يدعم وضعيّة هيمنة على السوق الداخليّة، طبقا لمقتضيات القانون الصادر سنة 2015 والمتعلّق بإعادة تنظيم المنافسة والأسعار. وتصل عقوبة عدم إشهار الأسعار أو الإشهار المنقوص بخطية بين 50 دينار و2000 دينار. تعزز هذا القانون
بالمرسوم عدد 14 لسنة 2022 المتعلق بالمضاربة غير المشروعة، والذي ينص في الفقرة الثانية من الفصل 17 على عقوبة بالسجن مدّة عشرين سنة وبخطية مالية قدرها مائتا ألف دينار إذا كانت المضاربة غير المشروعة تتعلق بمواد مدعمة من ميزانية الدولة أو بالأدوية وسائر المواد الصيدلية”.

ويتمّ تشديد العقوبة لتصل إلى ثلاثين سنة سجنا وخطيّة ماليّة قدرها 500 ألف دينار كلّ من يمارس أيّ أفعال تدخل تحت طائلة المضاربة غير المشروعة أو من يحدث عروضا في السوق بغرض إحداث اضطراب في التزويد وغير ذلك من الأفعال المجرّمة بالمرسوم.

يبدو هذا المرسوم مطمئنا للمستهلك ورادعا قويا للمحتكرين. غير أنّ عدد المراقبين التابعين لوزارة التجارة، وهم المكلفون أساسا بتحرير المحاضر ورصد المخالفات، ضعيف جدا مقارنة بعدد التجار الذين يمتهنون بيع كل المواد الغذائية، إضافة إلى الفساد الذي يتورط فيه المسؤولون أنفسهم.

فعلى سبيل المثال، نصّ تقرير الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد للعام 2017 على إحالة خمسة ملفّات فساد تتعلق بإسناد لزمات استغلال أسواق اسبوعية دون وجه قانوني، وهو ما يعني احتكار أشخاص بعينهم للتحكم بتلك الأسواق في بلديات المنستير ومدنين وعين دراهم وسبيطلة والملاسين. كما أحالت الهيئة أيضا حسب التقرير ملفّ فساد يتعلق بسوق الجملة ببئر القصعة، والذي تديره الشركة الوطنية لأسواق الجملة ببير القصعة، التي تورّط فيها مديران عامان للشركة ومراقب الدولة وعضو بمجلس إدارة الشركة، التي يملك الخواص أسهما فيها، وممثل وزارة أملاك الدولة ووزارة المالية. وتتعلق التهم بإضافة دينار على سعر كل علبة موز في السوق المذكورة واقتسام الفائدة المضافة بين الشركة وتعاضدية عمال سوق الجملة ببئر القصعة دون وجه قانوني.

وحسب التقرير ذاته، تورط مسؤولون في الشركة وفي وزارة التجارة على خلفيّة عدم قيامهم بالرقابة الاقتصادية على “بيع الغلال المستوردة وعدم خضوعه للضريبة المستوجبة قانونا بالنظر إلى أهمية حجم المبادلات.” كما أن “معاليم الكراء السنوي في استغلال المواقع داخل أجنحة السوق غير مضبوطة بصفة قانونية على غرار عدم احترام التراتيب المنظمة لاستغلال الفضاءات والتي من المفروض أن يتم فيها اعتماد نظام الترخيص للاشتغال الوقتي للملك العمومي”.

يواجه التونسيون مواسم أخرى للاستهلاك والشراء بعد انقضاء شهر رمضان، وهي مواسم مرتبطة بعيدي الفطر والإضحى تليهما العودة المدرسية، في الوقت الذي تعيش فيه تونس تضخما بنسبة 7.2 بالمائة. في المقابل، قد يلجأ التونسيون إلى احتساب السعرات الحرارية كى يواجهوا ارتفاع الأسعار في المواد الغذائية، وهي نصيحة مريم كشك أخصائية في التغذية بالمعهد الوطني للتغذية في نشرة أخبار الثامنة على الوطنية الأولى.