يعلق صحفيون ليبيون اختاروا تونس منفى لهم آمالهم على استقرار وضع الحريات في منفاهم حتى يتمكنوا من مواصلة عملهم دون خوف، ويسير أغلبهم بخطى حذرة نحو الانطلاق من جديد بعد أن دمرت المحن التي عاشوها قسطا كبيرا من حماسهم، آملين أن يعيشوا سالمين في منفى يشبه وطنهم ويخفف من غربتهم الإجبارية.

البحث عن الأمان

في عام 2019، غادر الصحفي “س.ح” بلاده، نحو تونس التي استقر بها طيلة سنة وسبعة أشهر، قبل أن يتحصل على لجوء في دولة أخرى، بعد أن اعتقلته ميليشيا مسلحة، وتنقل بين سجونها، حتى ظنت عائلته أنه قُتل. يحرص “س.ح” على إخفاء هويته خوفا على حياة عائلته، ويقول

خرجت من بلدي بعد تجربة مريرة في السجون السرية التابعة لميليشيا مسلحة، ذقت خلالها  كل أنواع التعذيب، وبقيت مختفيا عن العالم، إلى أن تكفل فاعل خير أجنبي بتبيلغ رسالة إلى عائلتي وهي تسجيل صوتي، برهان بقائي على قيد الحياة.

تنقل “س.ح” من سجن إلى آخر بأسماء مزيفة حتى لا يتم كشف مكانه، قبل أن يقف الحظ معه مرة أخرى وتلعب حكومة السراج إحدى ورقاتها السياسية فأطلق سراحه. لم تعد ليبيا بلدا آمنا بالنسبة ل”س.ج” خاصة أن التهمة الموجهة له هي إحدى التهم المعتادة التي توجهها الجهات الحكومية والمليشيات على حد السواء للصحفيين، وهي الإلحاد والتخابر مع جهات أجنبية. يضيف “س.ح” في تصريحه لموقع “نواة” :

اتخذت قرارا بمغادرة بلدي لأني كنت أمام خيارين، إما الصمت والامتناع عن ممارسة عملي أو السجن، كان من العسير علي البقاء صامتا تجاه أي تجاوز. في المقابل، كان من واجبي احترام خوف والدتي علي بعد معاناتها خلال فترة اختفائي، لذلك قررت القدوم إلى تونس لأنها المكان الأكثر أمنا في المنطقة ولأنها مركز مقرات الهيئات الأممية التي تعنى بالملف الليبي ووجهة لجان التحقيق الدولية الخاصة بليبيا.

لا تختلف قصة “س.ح” عن محنة عاشها الصحفي الليبي “ف.ف” الذي خبر السجون النظامية في 2021، وقبلها سجون تنظيم “أنصار الشريعة” في 2014، ويصف الصحفي الليبي الذي استقر بتونس منذ منتصف العام الماضي، وضع الصحفيين الليبيين في بلدهم بالمقلق ويقول “ف.ف” خلال مقابلته مع “نواة” :

يعاني الصحفيون الليبيون من مشاكل كثيرة، اعتقل منهم كثيرون، لذلك ساعدت في تهريب عدد كبير منهم إلى تونس. جئت إلى تونس منذ أكثر من عام هربا من الاعتقال، بعد أن خبرت معتقلات تنظيم أنصار الشريعة وسجون الحكومة، كنت ممنوعا من السفر لذلك عقدت صفقات مع جهات أمنية من أجل السماح لي بالسفر بتعلة العلاج.

تعرض الصحفي “ف.ف” إلى الاختطاف ست مرات في ظرف خمس سنوات تقريبا، وفي كل مرة كان يعتقد أن نهايته قد قربت، وفي نهاية المطاف قرر الابتعاد عن العمل الصحفي بعد أن طالت التهديدات القنوات التلفزية التي عمل لصالحها، ويقول إنه منذ استقراره في تونس، ساعد في تهريب ستة صحفيين عن طريق الحدود تركوا كل شيء وراءهم وجاؤوا  إلى المجهول. ويروي “ف. ف” قصة زميله الذي اعتقل بسبب تقرير عن موت غامض لمهاجرين غير نظاميين، تعرض  بسببه لعنف شديد من قبل ميليشيا مسلحة، واعتقل ثم أخلي سبيله بعد وساطة من أهل العشيرة مع المسلحين، ويضيف :

هرب زميلي من ليبيا إلى تونس دون مال كاف واستقر صحبة عائلته معي، ولكنه لم يستطع مقاومة غلاء المعيشة في تونس فقرر الذهاب صحبة عائلته إلى مصر، وأعتقد أنه سيعود إلى تونس لأنه لا يوجد مكان آمن يمكن أن يأويه سوى تونس.

يحصي مكتب شمال إفريقيا  لمنظمة “مراسلون بلا حدود” هروب 83 صحفيا ليبيا منذ 2014، وتقول رانيا الشابي مسؤولة التحرير في المنظمة لموقع “نواة” إن تونس شهدت بين العامين 2016 و2017، تدفقا كبيرا للصحفيين الليبيين. وترجع “مراسلون بلا حدود” تأزم وضع الصحفيين في ليبيا إلى منتصف 2014، بعد أن شهدت البلاد اندلاع أكبر عمليتين عسكريتين منذ 2011: هما عملية “فجر ليبيا” التي شهدتها طرابلس في  13جويلية 2014، وعملية “الكرامة” التي قادها اللواء خليفة حفتر في 16ماي 2015 ببنغازي.

صحفيون دون إمضاء

شهدت ليبيا منذ انطلاق العملية العسكرية المعروفة باسم “فجر ليبيا” وضعا أمنيا متأزما استتبعه توسع رقعة الخطر على الصحفيين، فمنذ ذلك العام، أجبر الصحفيون على الهروب الجماعي بسبب الخوف من عمليات انتقامية على خلفية  تقاريرهم، فبين 2014 و2016، وثقت منظمة مراسلون بلا حدود 133 حالة اعتقال لصحفيين ومقتل 26 آخرين، وهو ما جعل ليبيا تصبح من أخطر الأماكن بالنسبة للصحفيين المحليين والأجانب على حد السواء، حيث تبوأت في 2021، المرتبة 165، وهو ما يعني أنها منطقة سوداء بالنسبة للعمل الصحفي المهني والحر.

يقول الصحفي الليبي “ف.ف” ل”نواة” إن القوات النظامية  تتعامل مع الصحفيين باعتبارهم إرهابيين، حيث يتم اعتقالهم والحكم عليهم سنوات طويلة بتهم غريبة غالبا ما تكون التخابر أو الإلحاد، وواجهت الصحفية “ج.ه” تلك التهم بعد أن شاركت في تحرير جزء من كتاب “شمس على نوافذ مغلقة” الذي أثار ضجة، وأهدر دم أكثر من عشرة كتاب شاركوا في تأليفه. تخشى “ج.ه” كشف هويتها خوفا على حياتها وحياة زملائها وعائلتها، وتقول :

هربت من ليبيا نحو تونس بعد إهدار دمي صحبة مجموعة من الكتاب الذين شاركوا في تأليف الكتاب المذكور. كانت فترة مرعبة عاشها جميع الكتاب، فالبعض واجه عنف السلطة وعنف الأهل، والبعض الآخر اختار الهروب وخرج من ليبيا دون أي مليم . احترفت صحافة البيانات وهي أكثر نوع من الصحافة الذي تكرهه الحكومات في ليبيا، فالبيانات يعني الحصول على أرقام والبحث والكشف عن حقائق من ورائها. أنا أتكتم على هويتي لأن أمن الصحفيين وسلامتهم غير مضمونين في ليبيا أو في خارجها، ووضع الصحفيين في ليبيا هو الأسوأ في العالم، ولأن الوصول إلي وإلى أي صحفي غادر ليبيا متاح حتى خارج ليبيا، لذلك أحرص على عدم إفشاء أية تفاصيل خاصة مثل مكان إقامتي لأن يد الأجهزة الأمنية ستطالني، ومن الممكن أن تستدعيني الجهات الرسمية الليبية في البلد الذي أقيم فيه للتحقيق معي بخصوص طبيعة عملي.

وتصف الصحفية “ج.ه” اضطرار الصحفي إخفاء هويته بالأمر العسير، لأن إمضاء مقالاته وتقاريره هي الحلقة الأساس لتثمين جهودهم كما أنها قرينة في ملفاتهم لإثبات هويتهم الصحفية في حال قدموا طلبات لجوء للمنظمات الدولية، لكنهم في الغالب يختارون الحياة على المغامرة.

تقول الصحفية “ج.ه” إنه منذ 2014، عاشت ليبيا تقلبات سياسية تغيرت خلالها الحكومات ولكنها لم تقدم أية ضمانات لممارسة العمل الصحفي بحرية، وتضيف :

جميع الحكومات تصنف الصحفيين على أساس أنهم من المحتم عليهم الاصطفاف إلى جانب جهة ما، ويصل الأمر إلى حد سؤال الصحفية الأنثى عن نسبها وعن عائلتها وعن السبب الذي يجعلها تعمل دون أن يرافقها رجل.

لا تعلق الصحفية “ج.ه” أية أمال على تحرك المنظمات الأممية المتمركزة في تونس لتقديم ضمانات لحماية للصحفيين الليبين، والتي اكتفت بتوثيق شكاويهم وتقول

أما عن تونس، فقد قدمت أهم ضمان للصحفيين المنفيين وهو حرية التعبير.

في المقابل، توثق المنظمات الدولية تجاوزات في حق الصحفيين التونسيين، وقد تراجع ترتيب تونس في مؤشر حرية الصحافة في العالم هذا العام، بواحد عشرين نقطة، بسبب التضييق على النفاذ إلى المعلومة ومقاضاة صحفيين دون الاستناد إلى المرسوم عدد 115 المتعلق بالصحافة والنشر، كما وثقت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في تقريرهاالسنوي، 214 اعتداء بين ماي 2021 وماي 2022.