بقلم د. خالد الطراولي

ktraouli@yahoo.fr

تتعدد نداءات الاستغاثة من كل حدب وصوب هذه الأيام، حتى يخيل إليك أن تونس سفينة تغوص بركابها وربانها في يوم عاصف وفي بحر لُجّيّ دون مغيث، ترتفع أصوات الغرقى والمستنجدين من هنا وهناك، من وراء الأمواج العاتية وظلمة المحيط، حتى تظن أن الداخل إلى تونس مفقود والخارج منها مولود!!!

المعذّبون في الأرض

أسماء عديدة تبرز في أطراف البلاد رافعة عقيرتها أو ما بقي من صداها، وهي تعبر عن حالة من الضيق والألم ملأت الآفاق والنواحي، حالة من هوان المواطن في وطنه وبين أهله وخلانه، حالة غاب فيها الوطن ومواطنته وظهرت على السطح العربدة والاستخفاف والجور، ظهرت القسوة في أتعس صورها وهي تهيمن على بعض النفوس المريضة وتستوطن بعض الأقوال والأفعال والمواقف…

معذبون في الأرض، منفيون في أوطانهم، جميعهم يريد وطنا، يريد كرامة، يريد أن يكون إنسانا وكفى… رجل والرجال قليل في هذه الأيام، يفقد عينه وهو في الطريق أن يفقد بصره ولا مغيث ولا مغيث! رجل صدق ما عاهد الله عليه، رفْضُُ للركوع وصبرُُ على الجور والبلاء، وعزمُُ على البقاء واقفا ولو على رجل واحدة وبعين واحدة… بصر لعله يغيب وبصيرة سوف تبقى… ذلك هو الأخ الفاضل الحبيب اللوز!

صحفي تعلم في المدارس وبين أحضان أسرته ومجتمعه ان الصحافة قلم حر وصوت حق فتُنُكِّرَ له لما اراد أن يتجاوز مربع الصمت والاستكانة والتذلل والنفاق فحُرِمَ المأوى والمعاش وسُدَّت في وجهه كل الأبواب ولم يبق له من الحرية إلا حرية جسده فتصدق بها من أجل كرامة الوطن وحريته، إضراب عن الأكل والشرب مخاطرة على المجهول ونزال مع الموت، والمشهد يبقى يحفه الظلام والصمت الرهيب من كل ناحية وفي كل حين، والشمعة تشتعل في آخر وقودها..، ذلك هو الأخ العزيز سليم بن خذر!

مواطنون آخرون في عنفوان الشباب وفي عمر الزهور ينزل عليهم ستار حديدي من الجور واللامبالاة بدل آمالهم سوادا وطموحاتهم إحباطا دخلوا السجون من أضيق باب فيها باب الأمل المغشوش والحرية المغتصبة، فأصبحت عناوينهم مفقودة وأسمائهم أرقاما في دفاتر العدم.

القائمة طويلة وعرائض التنديد والاستنكار والمساندة تتوالى وتتعدد من داخل الوطن وخارجه، ونداءات الرحمة والدعوة للاستجابة لمطالب الحيارى والمظلومين تتناثر على المواقع وفي الجمعيات وبين الأفراد… ولكن لا مجيب لا مجيب، لا يتجاوب معها غير الصدى… صحراء جدباء رمداء صماء لا تنبت حبا ولا فاكهة ولا أبّا!!!

عندما ينحبس المطر

لماذا هذا التعنت؟ لماذا هذا التهميش؟ لماذا عدم الإصغاء؟ لعل السلطة أصبحت تعتقد أن ترك الحبل على الغارب منجاة لها وتأكيد على صلوحية ونجاعة منهجها في التعامل مع الاختلاف والتعدد! لعلها أضحت ترى أن اللامبالاة “حربوشة ” للقتل البطيء التي تحبط وتفقد الأمل ثم تترك القوم صرعى..،

لعل السلطة أصبحت تظن أن صمت الجماهير وسكونها هو قبول ورضا ومساندة لمن يحكمها وموافقة على منهجها، لعلها وصلت إلى حقيقة باهتة أن المعارضة ليست إلا مجموعة أفراد معدودين ومعزولين منبتين عن واقعهم ليس لهم تجذر ولا تواصل مع الجمهور، وأنهم قطيع سائب في الصحراء لا تكاد ضوضائهم تتعدى معاقل الانترنت أو المحافل العامة الخارجية المحدودة العدد والعدة!

إن نداءات الاستغاثة المتكررة والمتفاقمة وما يلفها من حركة وأفعال، هي تعبير بواح عن مآسي أفراد ومأساة وطن… إنا نجزم أن هذه الأصوات العالية والحزينة هي صورة صغيرة استطاعت أن تمزق ستار الخوف والجوع، لحالة الاحتقان لمشهد سياسي مبتور ومغشوش…
إن هذه الأصوات هي نداءات غرقى ولا شك، لم يعد لهم ما يستطيعون فعله أمام الصمت الرهيب الذي يلقونه، ولكنه ليس رميا للمنديل ومغادرة الحلبة بل هو وجود وإصرار على التواجد، ولو بصوت حزين، ومن نصف فتحة، ومن وراء الغيوم!

إن ما يحدث اليوم من استخفاف لحالة حيارى ومستضعفين يمكن أن يتطور لما لا يحمد عقباه وإن أي إضراب جوع يمكن إن يؤدي إلى حدوث وفيات ويتبلور إلى مآسي لدى الفرد وأسرته، مما يدفع في نطاق المجموعة إلى التطرف والمغالاة، وإلى بروز جيل جديد يرى المأساة أمام عينيه تتكرر رغم النداءات والاستغاثات والفعل الحضاري والمطالبة السلمية… جيل جديد يمكن أن يُدفع به إلى التعبير عن معارضته بأشكال أخرى، لا نحبها ولا نريدها، وتعتبر تعميقا خطيرا لمأساة الوطن.

أنــوار العتمــة

إن الشعب التونسي الذي تعوّل السلطة على صمته وتراهن على تواصل سكونه ليس بالطرف الثابت والمتحجر والمستقيل عن الفعل والإرادة، فخمود النار لا يعني انطفاءها، وسكون العاصفة لا يعني ضعفها ونهايتها… والجماهير التي ترى عمق المأساة ومدى القسوة التي تحيط بها ستغضب يوما وستندفع للتعبير عن معارضتها، ولن يكون غير الشارع ملاذا ومقرا. إن بداية الخروج عزم، وبداية العزم إرادة، وبداية الإرادة وعي بالذات وثقة بالنفس وفقه بالمرحلة، مما تعنيه من تشكّل عقلية الرفض و شعورالندية وثقافة المواجهة وكنه حجم الخصم وآليات خطابه وفعله. لقد تبين أن المجتمع التونسي، عبر محفل النكات اللاذعة التي أضحت تسود مجالسه وسمره، أصبح يعبر بشكل مستتر أنه دخل مرحلة البحث عن الوعي بذاته، بعدما استبان له حجم الاستصغار والاستخفاف الذي ناله.

إننا نعتقد جازمين أن هذه الأصوات هي تعبير على أن مطلب المواطنة الكاملة لكل تونسي وتونسية ليس فيه مساومة أو تأخير، وأنه يتطلب الكثير من المجاهدة والصبر والثبات وأن لغة الوقوف وعدم الخنوع ولاءات الأمل الثلاث : لا يأس لا إحباط لا موت، مازالت ترفرف في سماء تونس، تذكر القاصي والداني أن حاضر تونس ليس إلا تواصلا مع تاريخها، تاريخ مجد ومقاومة وصبر…وانتصار ولو بعد حين.
ثقتي في الله أولا فهو المعطي وهو المانع وهو الأمل… وثقتي في الإنسان لمّا يتطلّع إلى إنسانيته… يقيني أن في الضفة المقابلة من يسمع النداء ومن يتحسر على عدم الاستجابة، لأني ما آمنت يوما أن السواد يطبق على جميع الجهات ولا يترك انسياب الأنوار..، يقيني أن القلوب وإن تحجّرت فإنها تبقى قلوب بشر!

المصدر:موقع اللقاء الإصلاحي الديمقراطي