بقلم صلاح الدين الجورشي

فجأة، وجد النظام التونسي نفسه مدفوعا لإثبات أصالته الإسلامية، وعدم معاداته للدين وقيّـمه وطقوسه. فقد نشرت معظم الصحف المحلية خلال الأيام الأخيرة، مقالات غير ممضاة تبرز أهم ما قامت به السلطة في مجال حماية الإسلام والمساجد، والتذكير بالطبعة الأنيقة والمتميزة للمصحف الشريف على رواية قالون، التي أذن بها الرئيس بن علي شخصيا.

أما الحدث الذي وضع السلطة في حالة دفاع عن نفسها، فهو بيان أصدره فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بولاية بنزرت يوم 1 يونيو الجاري، وورد فيه أن المساجين الموجودين بسجن برج الرومي، الواقع في مدينة بنزرت “يتعرضون لممارسات خطيرة جدا تمسّ من معتقداتهم، دون أن تتخذ السلطات الإجراءات اللازمة لوضع حدّ لها، رغم علمها بالموضوع”.

وأضاف البيان أن “عائلات المساجين اتصلوا بالرابطة وقدّمت معلومات مفادُها أن السجين أيمن بن بلقاسم الدريدي، المحال بمقتضى قانون مكافحة الإرهاب، تعرّض يوم الخميس 04 مايو 2006 لتعذيب فظيع بالضرب بالفلقة والدهس بالأرجل والضرب على كامل أنحاء الجسم، وذلك من طرف مجموعة من الأعوان بإذن من مدير السجن المدعو عماد العجيمي”، وأن نفس السجين، بعد أن تقدم بشكوى ضدّ المعتدين عليه “تعرض لاعتداء جديد من طرف نفس المدير وأعوانه، الذي زيادة على الاعتداء الجسدي، “قام بضربه بمصحف ثم ركل المصحف عند سقوطه أرضا”، مثلما جاء في نص البيان.

ضجة كبيرة

لقد أحدث هذا البيان رجّـة قوية في مختلف الأوساط، خاصة بعد أن أبرزته قناة الجزيرة الفضائية بإحدى نشراتها الإخبارية، وهو ما دفع بالحكومة التونسية إلى إيقاف أربعة أعضاء من هيئة فرع الرابطة، لتكتّـفي بعد ذلك بإحالة السيد علي بن سالم، رئيس الفرع على القضاء مع تركه في حالة سراح، نتيجة السن (حيث تجاوز عمره السبعين) ووضعه الصحي الحرج.

بقطع النظر عن مدى صحة عملية “تدنيس المصحف” من قبل مدير هذا السجن، حيث يتمسك محامي السجين صاحب الدعوى، إلى جانب الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وعدد من أحزاب المعارضة والجمعيات الحقوقية، بضرورة فتح تحقيق في المسألة، فإن الضجة التي قامت، جاءت في سياق ملتبس، حيث بدا وكأن هناك من يدفع في اتجاه إعادة أجواء مطلع التسعينات في البلاد حيث سعى يومها البعض إلى “تجفيف منابع التديّـن بحجة مقاومة الأصولية الدينية”.

فما حدث قبل أيام من حرمان عدد من طالبات كلية الحقوق والعلوم السياسية بالعاصمة التونسية من اجتياز الامتحان، واحتجازهن في مكتب أحد المسؤولين الإداريين بسبب حملهن الخمار، أدهش الجميع، ودفع بالنقابة الأساسية لكليتي العلوم الاقتصادية والحقوق إلى إصدار بيان أدانت فيه “هذا التصرف الغريب وغير القانوني”.

وبالرغم من أن أغلبية المؤسسات الجامعية التونسية لم تشهد أحداثا شبيهة، كما أن الآلاف من حاملات الخمار يتجوّلن في الشوارع بكل حرية، إلا تلك الحادثة المعزولة، أعادت إلى الأذهان مـا سبق أن صرّح به وزير الشؤون الدينية في شهر ديسمبر الماضي حول ما يوصف عادة بـ “الزي الطائفي”.

والمؤكّـد أن مثل هذه التجاوزات قد خلقت انطباعا ساد في الفترة الأخيرة، وجعل الكثيرين في البلاد العربية والإسلامية تتضخّـم عندهم الصورة، وتجعلهم يعتقدون بأن هناك حربا شعواء ضد التديّـن في تونس، وذهب بهم الظن إلى حدّ تصديق قصّـة خيالية تناقلتها مواقع افتراضية وصحف عربية كثيرة، حول استعمال بطاقة مغناطيسية لتحديد هوية رواد المساجد في البلاد، وقد نُـشر هذا الخبر في مئات من المواقع الإلكترونية.

“تدنيس المصحف”

كشفت المقالات والافتتاحيات، التي كُـتبت حول مسألة “تدنيس المصحف” عن وجود مخاوف حقيقية. فالخبر تناقلته بكثافة مواقع على الإنترنت، معروفة بتشدّدها، وبعضها قد يكون قريبا من تنظيم القاعدة والجماعات المقاتلة في العراق، ولا يعود ذلك فقط إلى الطابع الديني للحدث، وإنما أيضا لارتباطه بنوعية جديدة من المساجين الذين التحقوا مؤخرا بعالم السجون التونسية، وتتّـهمهم السلطات بتُـهم لها صلة بالإرهاب.

وإلى أن تثبت تلك التّـهم في ظل محاكمات عادلة وشفافة، فإن عددا من هؤلاء المساجين قد أظهروا نوعا من الجُـرأة والتحدي، جعلت بعض السجانين يخشون من أن يؤدي ذلك إلى كسر القواعد التي ترسّـخت منذ سنوات داخل السجون التونسية.

ومهما يكن من أمر، فإن الحديث عن انتهاكات ذات طابع عقائدي، قد يؤدي، حسب اعتقاد البعض، إلى تعريض أمن تونس للخطر والتهديد، خاصة مع انطلاقة واعدة للموسم السياحي، وهي مسألة يُـفترض أن تُـؤخذ بعين الاعتبار من قبل جميع الأطراف السياسية والمدنية، بما في ذلك المشرفين على المصالح السجنية أو الذين يظنون بأنهم يملكون العلاج الحاسم لمواجهة ظاهرة الغلو والتطرف، التي بدأت تكتسح بعض قطاعات المجتمع التونسي خلال السنوات القليلة الماضية.

نفس الأوساط تخشى أيضا أن تقلّـص الأخبار المتناقلة والمتعلقة بحرية التديّـن، من فرص تدفق الرأسمال العربي، والخليجي بالخصوص، على تونس.

صورة تونس في الخارج

لقد تعدّدت المؤشرات في الفترة الأخيرة على عودة المستثمرين الخليجيين للاهتمام بالساحة التونسية، وتجلى ذلك في حرص إحدى الشركات الإماراتية على شراء 30 بالمائة من رأس مال شركة اتصالات تونس، فسحبت ذلك البساط من تحت أقدام بقية المنافسين الغربيين، وخاصة منهم الفرنسيين، كما تتجه نية شركة إماراتية أخرى لبناء مشروع سياحي برأسمال ضخم.

“تحتاج صورة تونس في الخارج إلى إنقاذ وترميم”، هذا ما يعتقده الكثيرون، بما في ذلك أطراف قريبة من السلطة. وكما قال أحد وزراء الخارجية السابقين، فإن الدبلوماسية، مهما كانت نشطة، فإنها تكتفي بتنظيف “الفترينة” (أي الواجهة)، أما السياسة الداخلية، فمـوكول إليها العناية بما يوجد في “الفترينة”.

ولعل هذا الشعور هو الذي دفع ببعض الصحف إلى الترحيب بالتعديل الذي أدخله الرئيس بن علي يوم 5 يونيو على الجهاز الأمني، في وقت يتهم فيه معارضون السلطة باللجوء المكثف خلال الأشهر الأخيرة إلى رجال الأمن لمعالجة ملفات ذات طابع سياسي، وذهبت صحيفة “الصباح” إلى حدّ التلميح بأن تغيير المدير العام للأمن الوطني إلى جانب آمر الحرس الوطني، قد يندرج ضمن “مرحلة جديدة”.

كما أن مصادر أخرى تحدّثت عن لقاء جمَـع مسؤولا مكلّـفا بملف الإعلام بمديري الصحف، أشعرهم خلاله بأهمية الانفتاح الإعلامي “الموزون” في المرحلة القادمة.

إعادة بناء العلاقة بين الأمن والسياسة

في خط مواز، تتواصل عمليات تسوية ملفات عدد من الإسلاميين المغتربين، بتمكين زوجاتهم وأبنائهم من جوازات السفر، وفتح المجال أمامهم للعودة إلى أرض الوطن، دون التعرض لأية مضايقات أمنية، وهو ملف أصبح يثير قلق قيادة حركة النهضة، خاصة وأن بعض المستفيدين كانوا، إلى وقت قريب، من بين الكوادر الهامة في التنظيم. وقد أصدر بعض هؤلاء، قبل أسابيع قليلة، بيانا ردّوا فيه على محاولات إثارة الشكوك حول قبولهم صيغة تسوية أوضاعهم بمعزل عن ملف الحركة.

وبقطع النظر عن الجدل الدائر حول هذه المسألة، فإن ما يحدث يدل على نية التخفيف من حدّة ما يُـعانيه المئات من الإسلاميين في خارج البلاد. لكن مع ذلك، هناك من يعمل في الاتجاه المعاكس، حيث لا يزال آخرون يواجهون حرمانا متواصلا من حقوق كثيرة، رغم كل المراجعات والنوايا الحسنة التي أعلنوها.

يعتقد عديد التونسيين اليوم بأن الحياة السياسية في حاجة إلى “دفعة قوية تخرجها من حالة المراوحة” وتجنبها ما وصفه أحدهم بـ “الدوران في عالم الأزقـة الحـــادة”. كما أن أصحاب هذا الرأي يؤكدون على أن تونس “لا تتحمل عنف الخلايا النائمة”، ويشيرون إلى أنه لن يستفيد أحد من أية “هيجة دينية” غير محسوبة العواقب، لكنهم في المقابل، يلحون على القول بأنهم ينتظرون “وقفة لاستشراف المستقبل”، ويطالبـون بـ “قرارات علوية ترفع الحواجز وتطلق العنان لحوارات وطنية تعيد الحيوية للمجتمع والنخبة والمؤسسات”.

بل إن أحدهم ذهب إلى أكثر من ذلك عندما اعتبر أن تونس تنتظر “تغييرات واسعة تشمل الوجوه والأولويات والمشهد الإعلامي والسياسي”. أما الذين قرأوا التحوير الأخير قراءة إيجابية، فأكدوا بأن التجارب الســابقــة تفـرض “إعادة بناء العلاقة بين الأمن والسياسة”، وأن الحاجة أصبحت اليوم مؤكدة لتأسيس صورة خارجية جديدة تخرج تونس من وضعية “الاستثناء”، وتحول دون أن يصدق الآخرون كل ما يروج عنها بما في ذلك الإشاعات الأقرب إلى الخيال والأكثر بعدا عن الواقع المعاش.


صلاح الدين الجورشي – تونس

المصدر : موقع سويس أنفو