” إن الاستبداد داء أشد وطأة من الوباء، أكثر هولا من الحريق، أعظم تخريبا من السيل، أذل للنفوس من السؤال” هكذا تكلم الكواكبي يوما فأوجز وأوعىّ، ولم يعد الحديث عن الاستبداد في حاضرنا غريبا عن ديارنا، فقد تملك ماضينا وسوّد العديد من أطرافه وساهم في نكسة حضارية لم نستطع إلى يوم الناس هذا تجاوزها، بل التحق مستبد اليوم بمستبد الأمس وفاقت النسخة الأصل وتجاوز الأحفاد “مناقب بعض الأجداد” وأصبحت دولة الاستبداد جزءا من يومنا وليلنا.

لدولة الحق حقوق لمواطنيها وواجبات، جعلت منها أساس عدلها وتحضرها، والعدل أساس العمران واحترام حقوق الرعية نمو سليم للبنيان…”وإن الله لينصر الدولة العادلة ولو كانت ظالمة ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة ” فكان بناء الحضارات الصالحة والمزدهرة يتأسس على عدل بين الأقوام واحترام نسبي لحقوق الإنسان. ولم تتخلف الحضارة الإسلامية عن هذا “القانون”، حيث شهدت أيام عزها محطات مضيئة، سبقها تنظير تأسس على فهم تحرري للإسلام، فغلبت أقوال الإنصاف وممارسات العدل واحترام حقوق الفرد والرعية. ثم انتكست الأعلام تدريحيا، فغزا التوريث منصة الحكم، وتعلق الخوف والتهيب بعقلية الفقيه والعالم، وانسحبت الرعية نحو متاريس الجهل والتقوقع، فغلب الاستبداد ورضيت الرعية بحقوق مسلوبة أو مغشوشة، وكانت المرأة أول ضحايا دولة الاستبداد ومؤشر السقوط الحضاري بعد سنوات المجد…

هل يمكن أن نؤرخ لدولة الحقوق في تاريخنا ولدولة الاستبداد؟ أم أن دولة الحقوق كانت أمنية وآمالا عايشت مواطن المشاعر والوجدان ولم يُرَ لها أثرا على الأرض؟ لن يخطأ مؤرخ عادل وقارئ منصف لتاريخنا، إلا أن يلاحظ أن دولة الحقوق قد شهدها أمسنا ولو في زمن قصير وعابر، انسحبت مع انسحاب منظومة القيم التي حملها المقدس القولي والفعلي وهيمنة قراءات التزييف والتركيب والترقيع والترويع… انسحبت الشورى نحو مواقع النصيحة والإخبار والإعلام، فأصبحت مخبرة وليست ملزمة، وخطف المستبد مصطلحات وقيما، وألحقها بنسبه، وجمع المتناقضات داخل بناء اصطلاحي واحد وعجيب، لتبرير ممارسات الغصب والهيمنة، فظهر المستبد العادل كرحمة من السماء لإعطاء دولة الاستبداد طلاء مغشوشا، ظاهره فيه النعمة والخلاص، وفي باطنه العذاب والجور والعدم، وسمح للرعية أن تبقى مشدودة إلى الخواء تنتظر مهديا بدون عناء.

ولقد أبرزت كتب التاريخ رغم أن بعضها كتب تحت أنظار الحاشية وبحضور السلطان، هذا الافتراق ثم الطلاق بين تنظير وممارسة عادلة ومنصفة، غلبت على مشهد سياسي واجتماعي في ما سمي لاحقا بصدر الإسلام، وبين حيف واستعلاء وهضم لحقوق وتعد على مبادئ وثوابت، مثلت “حقوق” دولة الاستبداد. ورغم أن السماء لم تكن قاتمة السواد في هذه المرحلة، حيث تظهر من هنا وهناك ومضات وفلتات، عبّرت عنها شخصيات تاريخية مرموقة أو وقائع مشهودة، غير أن الاتجاه العام كان يسير نحو مناطق الظل والسقوط.

لدولة الاستبداد في تاريخها حقوقا، وفي حاضرها حقوقا لم تتغير ولم يشبها داء الشيخوخة والهرم، ولم يطلها قانون التطور والتحديث، وظل مستبد اليوم في علاقة ودية وتواصل وفيّ مع مستبد الأمس… حتى أن حاكم الأحفاد ظنناه قد تميز في بعض أوصافه عن حاكم الأحفاد، فأكرمنا بمجيئه من غير وراثة وإن كانت مناطق الظل والسواد كثيرة في توليته لهذا المنصب، ثم ما لبث أن ثار على جمهوريته وسلم الحكم للأبنائه فأصبحنا رعايا في جمهورية يحكمها ملك ! فالتحق سواد اليوم بسواد الأمس وتكرم علينا بحقوق دولة الاستبداد.

حق الخوف…

للمواطن أن يخاف، له أن يهاب الليل إذا أسدل ظلمته، والفجر إذا طرق طارق يفزع الجيران وينغص الأحلام… ورغم أن الفوانيس قد عوّضت الشموع فقد بقينا نهمس في الظلام وننظر في الظلام وأطفأنا الشمعة ونسينا الفانوس!
حق الخوف مكتوب على جبيننا كما أعلمنا به حكامنا… ” والذي خاف نجى” هكذا قالت بعض أمثالنا وهكذا تشكلت عقلية بعضنا إن لم تكن جلنا! فسارت ثقافة تمشي في الأسواق وتغض الطرف عن انحرافاته وتصحبنا في الشارع فلا نمشي إلا على أطرافه تاركين الوسط لغير أصحابه، حتى لا نميل ميلة واحدة فينتهي الشارع إلى جبّ والسوق إلى مقبرة… ثقافة الخوف تعايش يومنا وليلنا وتصحبنا إلى بيتنا، فترانا نفرغ ذلنا وهواننا على من هو أتعس حالا منا فترانا خائفين مظللومين خارج الدار مخيفين ظالمين داخله. كان خارج البيت سجنا كبيرا لنا، فجعلنا داخله سجنا ضيقا لامرأتنا، فأصبح الخوف ملازما لكل ركن في بيتنا وأصبح عقيدة في مجتمعنا.

حق ملازمة البيوت

للمواطن البقاء في بيته وترك الشارع للصعاليك والمشاغبين، ومشاركة الأهل أعباء الدار، ففي دولة الاستبداد المرأة عورة والرجل عورة والمساواة التامة والمطلقة في البقاء داخل الأسوار. الخروج عقيدة أظهرت إفلاسها، والخوارج جماعة مقتها تاريخ الأمة وراحت رؤوسهم تتطاير دون أن يثبت لهم قرار… وملك غشوم خير من فتنة تدوم، فلا خروج إلا بإذن ولا دخول إلا بإذن، ومن دخل بيته فهو آمن ومن دخل بيت السلطان فهو آمن، ومن تلكأ وتباطآ وتجرأ على البقاء خارج الأسوار فلا يلومنّ إلا نفسه.

حق الصمت…

والسكوت من ذهب خاصة عند صولة الاستبداد، والساكت على الحق في معجمه عاقل أخرص عرف طريق السلامة فلم يشذّ عنه، شعاره “ابعد عن رأسي واضرب” فلا يكفي الصمت بل من حق المواطن أن يعين الاستبداد على الضرب والتمكين…وكم صمت أفراد عما يحدث بباب الجيران حتى إذا حلت البأساء ببابهم بقوا يعيشون مأساتهم لوحدهم وقد نسوا أنهم أكلوا يوم أكل الثور الأبيض.

حق الجهل…

يمكن للمواطن أن يجهل أو يتجاهل ما يدور حوله، من حقه أن لا يفتح راديو ولا تلفاز، يمكنه أن لا يضيع وقته في الإبحار على أمواج الانترنت العاتية خاصة إذا كان يسبح ضد التيار، يمكنه أن لا يرى إلا بعين واحدة، أن لا ينتمي إلا إلى فرقة واحدة، أن يقرأ صحيفة واحدة أن يعيش ويموت ويحكمه رجل واحد وأسرة واحدة بصوت واحد وأسواط متعددة…

حق التملق…

للمواطن الوفي حق الرشوة والارتشاء، له الحق أن ينبطح إذا خير فقدان الأجنحة وصعود الجبال ومعانقة السماء، فالأرض جعلت مكانا آمنا للزواحف و لا يجب أن ينسى أن الحاجب بالباب ينتظر نصيبه من العطايا والنعم! عليه الانسحاب بهدوء حتى لا يوقظ أهل البيت وتهتز الأركان ويسقط البنيان.

ختاما

هذا غيض من فيض فحقوق دولة الاستبداد لا تحصى وإنما توقفنا عن سردها استحياء من حكامها فقد نهينا أن نمجد ونذكر المحاسن في حضور صاحبه ونحن نعلم أن آذانه كثيرة ويده طويلة حتى لا نقصم ظهره ويتولاه الرياء فيتخلى عن محاسنه وينزعنا هذه الحقوق، فرأفة بحالنا وحياء من حكامنا نتوقف عن هذا السرد ونواصل الانتظار

المصدر: القدس العربي بتاريخ 12 جوان 2006

وموقع اللقاء الإصلاحي الديمقراطي www.liqaa.net