عشت لمدّة وجيزة، في ذهول و تعجّب شديدين من التّطوّرات الأخيرة في تونس. و أعتقد أنّ عددا كبيرا من مواطنيّ كذلك كانوا أو هم أشدّ ذهولا منّي. فقد مرّ علينا يومان غريبان عجيبان: تسرّب الباك على الفايسبوك و صار مشاعا،كاد بل قل أصبح معرض العبدليّة (أو الصّور التّي تقول نقابة التّشكيليّن أنّها إفتراء عليهم) مذبحة للمقدّسات الإسلاميّة القريبة إلى حدّ التماهي و التّمازج مع وجداننا و هويّتنا الجماعيّة ثمّ خرجت الحشود نصرة للرّسول جهادا بالكلمة، أي بمسيرات سلميّة، و أخرى قاطعة للطّرق و الأرزاق، ثمّ رأينا و سمعنا عن بوليس يحرق “نصبة” و سلفيّ يقتل و رجل يضرب… و كأنّ هذان اليومان دهر أنجبا من الأحداث العظام ما لا يحتمله المساير للنّسق العام قبلهما بلحظة.
كنت أردت أن أنزّل كلّ تلك العواطف الجيّاشة ورقتي و لكّني لم أعرف ماذا أقول. أمّا الآن، و ظاهر الأمر أنّ “الفتنة” أدبرت أو هي تكاد و قد بدأت الغيوم تنقشع و سكنت الجهالة، فإنّ تنزيل الوقائع في إطارها العامّ أي إطارها الثّوريّ و تشخيص خطئ القوى المحسوبة على الثّورة، أي نحن، و من ثمّ تقديم البديل المتصوّر هو الأمر المناسب و المستعجل. في ما يلي سأحاول، و التّوفيق على الله، بسط أمّهات الأخطاء المعطّلة للمسار الثّوري ثمّ سأتقدّم بمقترح أرى أنّه كفيل بإحداث نقلة نوعيّة و لا أرى الأمر يستقيم إلّا به أو ما شابهه:
إنّ معطّلات التقدّم الثوريّ التونسيّ يمكن أن تنزّل في ثلاث أبواب كبرى: الأوّل يتعلّق بالمستوى المتدنّي للتنظّم الجماهيري الثّوري إبّان الثّورة. فالجماهير إستكانت مبكّرا و غادرت مواقع الثّوة و ثغورها فور بلوغ خبر هروب بن علي. مكّنت هذه الإستكانة من الإنحراف بالفعل الجماهيري نحو الإستقطاب الثّنائي الإسلامو-علماني.
أمّا الباب الثّاني فهو التوقّف عن التّطهير الشّعبي للمؤسّسات الذّي إتّخذ شكل الدّيقاج و الذّي تمّ تسويفه و استغلال قصر نفسه ذّاتيّ.
أمّا الباب الأخير فهو طابع الحكومة المنتخبة و خصوصا حركة النّهضة في إدارة الشّأن الثّوري و أسلوب الإصلاح النّاعم. يقول المناصرون أنّه توخّ للحذر و الحيطة بينما يراه آخرون براغماتيّة زائدة ولكنّ الثّابت هو أنّ النّهج العامّ يوحي بمسار إصلاحيّ أساسا و ليس ثوريّا بالمعنى المتعارف.
و إنّ هذه النّواقص هي في قلب الإضطرابات التّي تشهدها البلاد من فينة إلى أخرى (و منها الإضطرابات الأخيرة) إمّا بصفة مباشرة أو غير مباشرة. فأعداء الثّورة، و هم المتنفّذون و أصحاب الأموال و رجال الأمن المستفيدون من منوال الدّولة البوليسيّة لم يختفوا و لم توجّه لهم ضربات كافية لتقصم قدرتهم على العبث. أفيصّدق عاقل أنّ من كان يعذّب النّاس في أقبية الدّاخليّة و من كان يتقاضى أجره ثروات طائلة على فساده و من كان يسنتجد به النّاس و يوقّرونه من معتمدين و إداريّين و غيرهم كثير، يكفّون أيديهم عن البلاد و العباد لمجرّد أن فلان أو علّان منهجه “تصالحي”؟لا، بل هم يأسفون و يخافون على مصالحهم أن تهدّد و سيعملون على إفشال كلّ توجّه نحو الحريّة و العدالة و الكرامة: هم قوى الردّة سيعملون على إفشال الثّورة. فكيف لنا أن نجبر مواطن الضّعف في ثورتنا و أن نسدّ عليهم منافذ الإفساد و الفتنة؟ هنا يجب أن يتركّز جهدنا و أن تكون أولويّتنا، للأنّنا لو تركناها (و هو الحاصل نوعا ما الآن) فلن يتركوننا و شأننا و كلّنا رأينا قدرتهم على إفساد كلّ الخطوات الإيجابيّة باختلاق الفتن و إرجاع عقارب النموّ إلى الوراء إن تقدّمت.
إنّ أداة الثّورات الأولى و اللّازمة و المستعجلة هي جهازها التّنفيذيّ الذّي يمكّنها من إنزال برامجها أرض الواقع. أعني بذلك جهازا أمنيّا ثوريّا جديدا. فالوزراء و النّواب حتّى و إن أفرزتهم الصّناديق و الإرادة الشعبية لا يسعهم أن يطبّقوا قراراتهم بأيديهم، بل هم الموظّفون و البوليس خصوصا يفعلون. فكيف بنا أن نترك هذا الجهاز الحيوي على شكل يشبه شكله الدّيكتاتوريّ بتجميلات و تحويرات ثمّ نتصوّر أنّ الأمن متحقّق للثّورة؟ ليس إعفاء أو سجن ضابطين أو حتّى مئتا ضابط بكفيل بجعل الجهاز اللأوّل في نظام بن علي جهازا يؤتمن جانبه على تحقيق إصلاح فساد كان هو أوّل الضّالعين به و حاشى الأمناء على شعبهم من الأمنيّين.
الحلّ إذا هو المواصلة في النّهج الإصلاحيّ مع إنشاء جهاز أمن جديد خاص بالثّورة. جهاز يكون بعض أعضائه من أكفئ أكفّاء نخبة البوليس العادي المؤتمن جانبهم، وسواده الأعضم من الشّباب المنضمّين حديثا إلى أسلاك الأمن المختلفة و اللذّين لم تكن للآلة الفساد عليهم صولة بعد. هذه التّركيبة و المهمّة المنوطة بهم ستمكّن، داخل سلك الأمن نفسه، من تغيير سلس و لكنّه حاسم. فبعد تجهيزه تجهيزا كاملا، يتواصل تطعيمه بالعناصر و إسناد المهامّ إليه تدريجيّا (كالتدخّل مثلا و غيرها). شيئا فشيئا سنتمكّن من عزل الأجهزة الفاسدة التّي ستجد نفسها بعيدة عن المواقع الحسّاسة و يمكن وقتها فقط محاسبة الفاسدين و الحديث عن أمن ضامن للحريّة و الثّورة حقيقة.
جهاز كهذا، سمّه إن شت “درع الثّورة” سيكون خير أداة للإصلاح الجريء و الثّوريّ للأمن كما بيّن و طريقا لتطبيق قانون حقيقي و فعّال للقصاص من النّظام السّابق و أعداء الثّورة خارج سلك الأمن. فرأس جبل الفساد تمّ كشفه، لكنّ كثيرا من أصحاب النّفوذ و المموّلين للردّة و الثّورة المضادّة لا يزالون فاعلين (و هو ما تبرهنه الأحداث كلّ مرّة) و الحكومة نفسها تقرّ بوجود “تسيّس” آثم داخل سلك الأمن.
إنّ تحقيق العدالة الكاملة هو الطّريقة الوحيدة الكفيلة بإعادة كرامة هذا الشّعب و حقوقه و بتحقيق نقلة حقيقيّة و قطع كامل مع أسباب الدّيكتاتوريّة و الفساد السّابقين. و لنا في تاريخ جلّ الثّورات النّاجحة و التّي أفرزت الدّيمقراطيّات العتيّة التّي يستشهد بها أسوة و مثال.
معا من أجل جهاز أمن جديد و ثوريّ. معا من أجل قطع دابر الفساد.
تداعيات المرحلة الحالية
والمبادئ العامة التي تؤسس لدستور ديمقراطي
الثّورة التونسية لم تقم من أجل تغيير المثال المجتمعي، وإنما قامت من أجل الحرية وإصلاح الحياة السياسية.
والحرية نقيض للفوضى، فهي ممارسة مؤسساتية في الدولة العادلة، تقوم على اشتراك الجميع كل من موقعه في خدمة الوطن وفي تقاسم خيراته .الحرية هي حرب على الفقر لان الفقر في الوطن غربة . الحرية حرب على الأمية حتى لا تبقى التنمية عرجاء ……
الحرية هي اشتراك الجميع في محبّة حقيقية للوطن ولعلم الدولة ولهوية الشعب. محبّة تتطلب اليوم وعيا خاصا بأهمية وحقيقة المرحلة التأسيسية التي نعيشها وما تتطلبه من دواعي الحذر والحنكة لإبعاد البلاد عن البلبلة السياسية ومشاكل الاستقطاب…. .
السّاسة اليوم يذكّروننا بالأخطار التي تهدّد الثورة وبأنهم يحتاجون إلى مزيد الصّلاحيات لحمايتنا، ولا عجب أنّ عامّة الشّعب مستعدّون لإعطاء الصلاحيات للحكومة لوضع مقاييس مراقبة تحد بشكل كبير من الحريات كمنع التظاهر هنا أو هناك من اجل احترام حريات أخرى مهددة وفي نفس الوقت مستعدون لمنح المعارضة صلاحية مراقبة هذه المقاييس وصلاحية رفضها . وبدل أن تجعل هذه الوضعية الناس أكثر أمانا يحدث العكس، فيتفاقم الإستيا ء الشعبي، استياء، يُستغلٌ لاكتساب مزيد من النفوذ السياسي… وهكذا يزيد الشعور بالخوف بين الناس، طالما لم يوجد دليل على أن أيا من الحكام أو من المعارضة قادر أن يجعلنا أكثر أمانا، وطالما ضل كل طرف يدافع عن الحالة الجديدة وعن الأخطاء المحدقة بالثورة على أساس افتراضات لا أساس لها من الصحة وملاحظات مغلوطة و مخاطبة التوجهات الديماغوجيية التي تسببها حالة الخوف الجماعية والتي ستكون نتيجتها تآكل الحريات المدنية و تعطيل التنمية وانعدام الثقة في الحكومة وفي الأحزاب وفي منضمات المجتمع وطغيان الخوف بين الحاكم والمحكوم وهو أمر يعزّز من وهن الدولة بدل تقويتها ويساهم في انخفاض الحرية بدل تعزيزها ويدفع إلى العنف بدل الاستقرار…
الجميع يعلم انه على مدار 54 عاما تقاسم بورقيبة وبن علي الهيمنة على الحياة السياسية لذلك يحاكمهما التاريخ اليوم من اجل ذلك ومن اجل إفسادهما لها أما بقية الأسماء التي رافقتهما طوال هذه الحقبة فالتاريخ يكاد لا يذكرها إلا لماما ، على خلاف المرحلة الانتقالية الحالية التي تعج بأسماء كثيرة …. الاستاذة والسّادة ، راشد الغنوشي و منصف المرزوقي و حمادي جبالي ومصطفى بن جعفر وحسين العباسي ووداد بوشماوي وسمير ديلو و الأخوين العريض ونجيب ألشابي ومية جريبي ومحرزية العبيدي وحمة الهمامي واحمد إبراهيم ويسين إبراهيم وفاضل موسى وعبد الفتاح مور و نور الدين البحيري ومحمد عبو وشكري بالعيد وعدنان منصرو عثمان بالحاج و إياد الدهماني.ومحسن مرزوق ونزيهة رجيبة و عماد الدايمي وسليم حمدان..الخ. القائمة طويلة … أسماء لاتجوز مقارنة بعضهم ببعض ،لانّ مسالة التقدير تبقى نسبية ، ولكن للبعض منهم إشعاع يفيض خارج أحزابهم وأنصارهم ومن واجبهم الوطني توظيف ذلك لخدمة الجميع، حتى أولائك الذين يخالفونهم الرأي ،فتونس للجميع وهي أمانة في الأعناق . لذلك فالتاريخ يراقب الأسماء المذكورة ، لكونها شخصيات فاعلة اختارت عن روية الاضطلاع بمهام المرحلة الانتقالية الشرعية، وهي شخصيات تتحمل المسؤولية في مواقعها في الحكومة أو في المعارضة أوفي المجتمع ، وهي الأكثر نفوذا وتأثيرا في الأحداث ، بدرجات متفاوتة ، لذلك لن يستثنيها التاريخ ‘غدا’ من حكمه ، أمّا لصالحها ، لكونها أصلحت الحياة السياسية ، وهدمت الظلم ،وأقامت العدل، وأبطلت الباطل، وأحقت الحق ، فاكتملت بذلك ثورة الشعب . وأما عليها، لكونها أهدرت الوقت، وأدخلت البلاد في بلبلة سياسية وفي مشا كل استقطاب وأوهنت الدولة، وفوتت على الشعب فرصته في اكتمال ثورته… ذلك هو التاريخ وأحكامه. و “إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون”. تونس لم تعد أي بلد في العالم بل هي بلد أول ثورة سلمية معطرة بدماء شهداء أبرار، وعليها أن تنجز تغييرا حقيقيا يعطي الثقة للتونسيين ويحرّك مشاريع البناء . لذلك فإن واجب رئيس الدولة و قادة الحكومة ورؤساء الأحزاب وقيادات المنضمات الوطنية والجمعيات ،خلال المرحلة الانتقالية الحالية –بل وحتى خلال فترة ال5 سنوات الأولى بعد وضع الدستور الدائم-هو تجميع وتوحيد كل المواطنين من أجل عمل وجهد موحد لمجابهة التحديات التي تنتظر تونس . فبلادنا تواجه بطالة عالية وكريهة ،الصناعة مهملة ومهمشة منذ فترة ، الفلاح لاستطيع العيش من عمله ،العلاج والسكن و النقل والغاز والكهرباء ، المدرسة والمستشفى .الموظفون يعانون الخصاصة …..العدالة تفقد دورها وإمكانياتها ..شبابنا مهمّش ومقصى ويستغل أبشع استغلال وعليه أن ينهض ويأخذ مكانته ودوره…المحيط يتدهور من يوم إلى آخر ..العائلة مكبلة بالديون ..المتقاعدون يرزحون تحت المرض وقلة الإمكانيات كل شيء في حالة سيئة أو دون المتوسط ..نعم ففي كل المجالات هناك حاجة ماسّة للإصلاح والتطوير وهذا واجبهم .
إن انعدام الثقة بين السلطة والمعارضة في تجربة الانتقال الديمقراطي الحالية يسقط الجميع في فخ التربص بعضهم ببعض وفي ممارسة لعبة العبث المدمر للوطن ومستقبله وان كنتم تبحثون عن شاهد يؤكد ما سبق فما عليكم سوى استرجاع تفاصيل الأحداث اليومية بالولايات والمعتديات – وسترون أن التربص في ظاهره موجه للحكومة ،او ربما للمعارضة، على اختلاف التحليلات – ولكنه في مضمونه وفي محصلته تربص بماتبقى من هيبة الدولة وسلطاتها وكل ذلك يُبقي الطريق إلى الحرّية وعرا . وعليه فانّه على المعارضة والحكومة ومكونات المجتمع المدني أن يهجروا جميعا خندق التربص وان يتصرفوا كتونسيين غيورين على هذا الوطن وان يكونوا صادقين في توحيد الصفوف لاجتياز ما نحن فيه من تراجع سياسي واقتصادي واجتماعي ، أن يتفّهمُوا بعضهم البعض وأن يتواصلوا فيما بينهم ليتمكنوا من إيجاد نقاط اتفاق مشتركة –وهي كثيرة جدّا- تمكّنهم من فهم و معالجة المرحلة التأسيسّية ومعالجة المشاكل التي تعيشها البلاد و وأن يتّكاتفوا من أجل إنجاح نموذج يحتذي به في بناء تجربة تونسية فريدة وذلك بتثبيت أركان الممارسة الديمقراطية وترسيخ قواعدها وتعزيز آليات استغلالها وبناء دولة المؤسسات والمجتمع الديمقراطي والإسراع بتعبيد الطريق لوضع دستور دائم للبلاد وتحويل تونس إلى ورشات تنموية كبرى و هذا الأمر لا يمكن للحكومة الشرعية أن تحققه بيسر في ظروف تسودها الإعتصامات العشوائية وقطع الطرقات وتعطيل الإنتاج وتعرضها الدائم للّّوم والنقد الاّموضوعي … كما لا يمكن للمعارضة الإسهام فيه في ظروف يسودها الجفاء و تعرضها الدائم بدورها للوم والنقد ألا موضوعي .لذلك فتونس لاتحتاج اليوم إلى سياسيين مدمنين على الانتقاد والمزايدات الطفولية واستغلاال الاخطاء كوقود يشعل فتن الحاضر ويجعل المستقبل في الطرف الأقصى للتنمية العادلة والشاملة . لذلك على السياسيين أن يكونوا أسوياء ، يكرسون النقد والنقد الذاتي للإسهام في بناء ديموقرطية شاملة – دمقرطة المجتمع والأحزاب والدولة أيضا – بما يضمن عدم تكرار الماضي وللإسهام كذلك في وضع الأسس لتنمية مستديمة تكون أهم هدية تنصف الشعب بأكمله ويجني فيها ثمار ما زرعه أبناؤه الأوفياء لقضاياه وتكون في الوقت نفسه صمام الأمان ضد النزاعات المتطرفة وإلا سنخطأ موعدنا مع التاريخ. وقتها لن يحق لأي كان أن يقول أنا بريء مما تمرّ به تونس ألآن من فوضى ولا أن يتذمّر مما سيناله من جرائها ، يستوي في ذلك السياسي والمواطن العادي لأنهما لم يبحثا بجدية عن مخرج آمن للمرحلة الانتقالية.
أنضروا إلى مشهد البلاد فهي كقاطرة يجرّها طرفان ،كلٌ في الاتجاه الذي يسير فيه،، قوّة الجذب بينهما جعلتها تراوح مكانها، تلك هي صورتها التي رسمت لها يوم 9 أفريل 2012،ولتنطلق بأقصى سرعة وبتوازن عليهما أن يجرّاها في اتّجاه سير واحد، كصورتها التي رسمت لها يوم 1 ماي 2012 …. لذلك على النخب أن يكونوا ساسة أسوياء بان يبتعدوا عن جذب البلاد فى اتجاهات سير مختلفة عبر تضخيم السلبيات و إشاعة القنوط …لأنه انحدار للهاوية. على الجميع أن يؤجّل حملته الانتخابية لأنّ الانتخابات هي استحقاق لن ينطلق إلا بعد تعبيد الطريق لوضع الدستور الدائم ، وهو طريق ، محفوف بتحدّيين كبيرين ، الأوّل، يتمثل في كيفية التغلّب على الفصل ما بين الحاكم و الدّولة بمؤسساتها بشكل يخالف ما كان متّبعا و مجسّدا في نظام الحكم في تونس على مدار 54 سنة الماضية، والتي كان الحاكم الفرد، هو الدّستور والقانون و المؤسسات ،والتّحدّي الثّاني يتعلّق بالقوى السّياسية، وذلك بأن يضمن الدّستور الجديد المبادئ والإطار الذي يجعل قيم الدّولة، كمؤسّسات وككيان عام ،أعلى من إيديولوجيات هذه القوى السّياسيّة ،مهما كانت أغلبيتها في المجالس النيابية التي سيقع إقرارها في الدستور و التي ستكون بحكم طبيعتها، متغيرة بالانتخابات، وبالتالي حالة المنافسة فيما بينها على الحكم تكون من خلال هذا الإطار العام لشكل الدّولة ووفق ما سيضبطه دستورنا المرتقب، والّذي ، يستدعي أن نؤسّسه على مبادئ عامة مشتركة ودائمة هي:
أوّلا : لا سيادة لفرد أو مجموعة على الشّعب، الذي يضلّ دائما، هو المصدر الرّئيسي لكلّ السّلطات، يفوّضها، عبر انتخابات دورية، تكون فاعلة وحرّة ونزيهة.
ثانيا : المواطنة هي مصدر الحقوق و الواجبات.
ثالثا: سيطرة حكم القانون والمساواة أمامه، وأن يسود حكم القانون وليس مجرّد الحكم بالقانون.
رابعا: عدم الجمع بين السّلطات التنفيذية أو التّشريعية أو القضائية في يد شخص أو مؤسّسة واحدة والفصل بينها وفق قواعد تنظم ممارستها لنشاطها وللعلاقة بينها وحدود كل سلطة وفق مبدأ فصل السلطات والتوازن بينها.
خامسا: ضمان الحقوق والحرّيات العامّة دستوريّا وقضائيّا، من خلال ضمان فاعلية الأحزاب ونمو المجتمع المدني المستقل عن السلطة. ورفع يد السلطة والأحزاب ومراكز المال عن احتكار وسائل الإعلام وكافة وسائل التعبير وتأكيد حق الدفاع عن الحريات العامّة وبالأخص حريّة التعبير وحريّة التنظيم وضمان حقوق الأقليات والمعارضة في إطار الجماعة الوطنية.
سادسا: التّداول على، السلطة التنفيذية و التشريعية، سلميا، وفق آلية انتخابات حرّة ونزيهة وفعّالة، تحت إشراف قضاء مستقل، يضمن شفافية تَحِدُّ من الفساد والتَّضليل واستغلال النّفوذ في العمليّة الانتخابيّة.
سابعا: إ صلاح المؤسسات العامة للدولة وإعادة هيكلتها وترشيد عملها والرفع من كفاءتها وفعاليتها ، في اتجاه احترام حقوق الإنسان والحرّيّات والمحافظة على سيادة القانون وتحقيق تنمية عادلة وشاملة، في المجال التعليمي وتكوين القدرات البشرية، وفي المجال الصناعي ،و في المجال ألفلاحي ،وفي المجال الثقافي، وفي غيرها من المجالات، بغاية تحقيق احتياجات المجتمع ومتطلبات جميع شرائحه ،عبر الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة وتنميتها .
ثامنا: بناء أمن جمهوري محترف و منضبط وكفؤ ومتخلّق ومحايد، هدفه حماية الأمن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسّياسي و الدّيني، للدّولة، وللمؤسسات العامة والخاصة ، وللمواطنين .
تاسعا: إنشاء هيئة دستورية تتشكل من قضاة وفقهاء قانون وخبراء في الفقه الإسلامي تتولى ممارسة الرقابة على دستورية القوانين والمنازعات المتعلقة بها و يسمح للأشخاص الطعن مباشرة أمامها في دستورية التشريعات العادية التي تصدر عن السلطة التشريعية، أو التشريعات الفرعية التي تصدر عن السلطة التنفيذية.
غير أنه لا بد من القول أن المبادئ والقواعد الدستورية مع كل الضمانات القانونية لتطبيقها تحتاج إلى ضمانات واقعية -غير منضمة- تعزّز دور الضّمانات القانونيّة، التي قد تعجز أحيانا عن توفير الحماية اللازمة للدّستور ولاحترام حقوق الأفراد وحرّياتهم. وتتمثل هذه الضّمانات في رقابة الرّأي العام على أداء حكّامه و نخبه والتّدخل عند اللزوم لإجبارهم على احترام الدستور .وكلّما كانت هذه الرّقابة قويّة، كلما كان التقيّد بالدّستور قويا، وكلما كانت رقابة الرأي العام ضعيفة أو منعدمة كلما ضعف احترام الدستور، وعليه فان الرأي العام لن يستطيع التأثير على تصرفات الحكام ما لم يكن على درجة من النضج والاستنارة و التنظيم تؤهله للقيام بواجب الرقابة وعدم الخضوع لمصالح فئات معينة -سواء كانت من الحكام أو من المعارضة أو من المجتمع نفسه- تسعى لتسخير الإرادة الشعبية والرأي العام لتحقيق أهدافها ومصالحا الخاصة .ومما لاشك فيه أن مختلف الهيئات الشعبية ومؤسسات المجتمع والأحزاب ووسائل الإعلام والحكومة وكل الشخصيات العامة تشترك اليوم في تكوين الرأي العام وتدريبه ممّا يجعلها مسئولة بالضرورة- أدبيا وأخلاقيا -على مستوى النضج والاستنارة الذي سيبلغه غدا، بعد وضع الدستور الدائم ودخول البلاد مرحلة التداول السلمي على السلطة عبر الانتخابات الدورية ، الفاعلة والحرة والنزيهة ، وهي مرحلة ستحتاج فيها البلاد- حتما- إلى رأي عام قوي قادر على مراقبة حكامه ونخبه في إطار الشرعية الدستورية الدائمة . والأكيد أن ما نزرعه خلال هذه المرحلة الانتقالية هو ما سنجنيه، نحن وأبناؤنا، خلال الرحلة الدائمة.. إمّا رأي عام قويّ يشارك في الحياة العامة ويساهم فيها بوعي وإدراك وفاعلية قادر على منع كل محاولة لإعادة إنتاج الماضي بصيغ جديدة وإمّا رأي عام ضعيف تحركه الحسابات الانتخابية و المزايدات السياسية…../.
ماذا لو تشكل وفد من بعض وزراء الحكومة ومن رؤساء الأحزاب وبعض الجمعيات ورؤساء الكتل النيابية و بعض الشخصيات الوطنية وبعض قيادات المنضمة الشّغّيلة و رجال الأعمال لزيارة مختلف ولايات الجمهورية، في مهمة رسمية هدفها تخفيف الاحتقان الشعبي ودعوة المواطنين إلى تفهم المرحلة وإيقاف كل الاعتصامات وقطع الطرق و إلى التصالح والسماح للمشاريع الموعودة أن تنطلق .لن يكلف تنقلهم ميزانية الدولة شيئا ولن ينقص من منزلتهم شيئا ولكنّه سيبعث برسائل هامة ومفيدة للبلاد .وبكل الحسابات ،فإن ذلك في صالح الحكومة وفي صالح المعارضة على حدّ سواء فالشعب يريد أن يكون العمل من جنس القول ويحبّ أن يرى هؤلاء جميعا يعملون من أجله ولصالح الوطن متّحدين
قال تعالى في محكم التّنزيل: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون، إنّ الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفّا كأنهم بنيان مرصوص .(سورة الصّفّ ،الآية 2 و3 و4 )
ليس من الضّروري أن يكون كلامي مقبولا ولكن من الضروري أن يكون كلامي صادقا.
وحفظ الله تونس وأهلها.
لو إكتفيت بالرّابط أو بفقرة منه لكان أقرب إلى الأخلاق و مبعدا عنك شبهة إرادة نشر مقالك كيما اتّفق
[…] لا تقتلنا الردّة، و ما أسهلها (راجع مقال حتّى لا تقتلنا الردّة على نواة) أكرّر و لن أسأم من التّذكير. يجب تكوين حرس […]