بعد أشهر من الشد والجذب والحشد والحشد المضاد والمفاوضات الماراطونية، تم لاختيار على وزير الصناعة في حكومة علي العريض ليعوض هذا الأخير و ليبادر إلى تشكيل حكومة جديدة سترث تركة ثقيلة وعدداً مهولاً من الملفات الحارقة..وقد تضاربت ردود الفعل وتناقضت المواقف بعد هذا ألإختيار الذي جاء مخالفاً لكل التوقعات ولم يحظى بمباركة أهم أطياف المعارضة التي امتنعت عن التصويت بعد عجزها عن فرض مرشحيها..أشهر عديدة تراوح فيها الخطاب بين الليونة والشدة واتسم خلالها سقف المطالب بالإرتفاع حيناً والنزول أحياناً أخرى..وان اعتبرنا أن المعارضة خرجت بخفي حنين بالنظر إلى السقف العالي للمطالب التي كانت تمني النفس بتحقيقها، خاصةً بعد تشكيل جبهة الإنقاذ وتنظيم إعتصام الرحيل بباردو وانسحاب نوابها من المجلس التأسيسي…
وقد تقتضي الظرفية اليوم أن نقوم بنبشٍ في تفاصيل هذا الحوار للوقوف حول أهم حيثياته وان نتناول من زوايا عديدة العوامل المساهمة في الوصول إلى هذه النتيجة..
1- الحيادية المفرطة للرباعي الراعي للحوار
بدى للكثيرين أن مراحل سير “الحوار الوطني” المتعثرة دوما، كانت تدل على أن الرباعي الراعي له، لم يراعي سياقه التاريخي ولم يعي دورة الحيوي في إيقاف نزيف الإغتيالات وتزايد المد الإرهابي والإنحدار المخيف والمفزع للإقتصاد التونسي..إذ تحولت هذه الألفاظ إلى مجرد عبارات محنطة افرغت من مضامينها وأصبحت تلوكها ألسن أطراف الحوار في المنابر الإعلامية والندوات الصحفية مع عجزٍ واضح على تسمية الأسماء بمسمياتها وتحميل المسؤولية للحكومة أو لأطراف أخرى..وتبعاً لذلك، واجه الإتحاد العام التونسي للشغل، وهو أثقل رعاة الحوار وزناً وتأثيراً، سيلاً من التهم لقيادته وخاصةً في شخص حسين العباسي الذي شبهه البعض بكبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات المعروف بمفاوضاته العقيمة والغير مجدية مع ممثلي الكيان الصهيوني..وأعتبر العديد من المتابعين أن الإتحاد قد أعاد للأذهان تلك الصورة السلبية التي تكونت عنه في عهد “عبد السلام جراد” كهيكل بيروقراطي وسند إجتماعي للبرجوازية وأنه بجل دوره السياسي على أدواره الإجتماعية الدقيقة وتهاون مع ملفات حساسة كالمناولة والخوصصة وارتفاع نسب التضخم وتدهور القدرة الشرائية وتزايد غضب قطاعات واسعة من الشعب إنتظرت نتائج ملموسة لهذا الحوار تنعكس على وضعياتها الهشة ، بعد المواقف الغير حازمة للإتحاد والمهل المتتالية المعطاة لحركة النهضة والتهديدات بفضح المتسببين في تعطيل الحوار التي كان يطلقها العباسي وشركائه ولاينفذونها..
الإتحاد مر بجانب الحدث وتناسى قياديوه أن طابع الثورة كان إجتماعياً بالأساس..ويبدو أن الحملات التشكيكية العنيفة التي شنتها النهضة عليه قد أثرت فيه وجعلته يكتفي برد التهم وبحث وفاق مستحيل معها..وحاول العباسي الظهور كطرف يقف على نفس المسافة من جميع الأحزاب والتيارات، ولمسنا نيةً لتأجيل أو إلغاء المساعي الرامية إلى الكشف عن نتائج التحقيق في أحداث 4 ديسمبر 2012 بساحة محمد علي وتخفيفاً لحدة الخطاب تجاه الحكومة قابلها تغزل نهضوي مفضوح بالإتحاد أتى على لسان نور الدين البحيري..
2- جبهة الإنقاذ:التحالف الذي ولد ميتاً
عجزت جبهة الإنقاذ منذ تأسيسها عن المحافظة على الزخم الجماهيري، الذي اعقب إغتيال البراهمي، والمطالب بإسقاط كامل منظومة 23 أكتوبر..واتهمت من طرف عديد النقاد بلعب دور رجل المطافئ الذي إستثمر غضب الجماهير المنتفضة في الشوارع لأغراضه السياسوية دون أن يراكم لتحقيق مطالب الثائرين خاصة وأن هذه الجبهة انخرطت في مفاوضات روتينية مع حكومة متسببة ومتورطة في إغتيال الشهيدين البراهمي وبلعيد والجنود والأمنيين، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، جبهة الإنقاذ لم تحقق هدفاً واحداً من الأهداف التي انشئت من أجل تحقيقها وتراكمت أصفارها وتعددت خيباتها بدءًا بفشل إعتصام الرحيل الذي حولته إلى مجرد مهرجان يغلب عليه التابع الفلكلوري والخطابات الجوفاء، ومكاناً للتجمعات التي حشدت كل الإمكانيات لإنجاحها ولكنها فشلت في استثمارها كورقة ضغط مناسباتية لإسقاط الحكومة والمجلس التأسيسي ..لتتراجع حدة خطابها شيئاً فشيئاً ولينزل سقف مطالبها..كما أن التناقضات الداخلية لهذه الجبهة ساهمت في غياب اللحمة وفقدان الثقة بين أطرافها..
وحام الشك حول نداء تونس بعد لقاءات الباجي قائد السبسي العديدة مع سفير الولايات المتحدة وسفراء الدول الأروبية المتنفذة في تونس والرئيس الجزائري بوتفليقة..إضافة إلى لقاءاته براشد الغنوشي والتي جعلت التوجس من عقد تحالفات أو صفقات سرية يهيمن على الأجواء رغم بعض التطمينات من هنا وهناك..وقد ساهم غياب تكتيك واضح لجبهة الإنقاذ وعدم وضوح الرؤية في تصدع اركانها وإمتدت الإنشقاقات إلى إلى داخل الأحزاب المكونة لها والتي ضجرت قواعدها من الإقصاء والتغييب والتفرد بالقرار..فتواترت الإستقالات في نداء تونس والذي يسعى رئيسه جاهداً إلى إرتداء ثوب بورقيبة والمتاجرة بشخصه وارثه..أما الجبهة الشعبية فقد أصبحت في موقف لاتحسد عليه، خاصة وأن جزءًا كبيراً من قواعدها لم يستسغ الإلتقاء مع مايعتبرونه جلاد الأمس الذي وضع تجريم التعامل معه لديهم في باب حتميات التاريخ..كما أن الجبهة الشعبية كانت تمثل أملاً لدى جزء هام من الشعب التونسي لكسر الإستقطاب الثنائي وتعديل موازين القوى وتفعيل المسار الثوري..إلا أنها عجزت عن الإمساك بمفاتيح اللعبة وظهرت في جلسات الحوار كالطرف الأضعف في فرض مقترحاته و المتذيل لإتحاد الشغل
ماجعل البعض ينزلها في خانة المتفرج السلبي الفاقد لميكانيزمات التغيير وتوجيه الأحداث ، والمفعول به الذي ظل حضوره صورياً إلى آخر اجلسات الحوار..كما أن مجلس أمناء الجبهة الشعبية اتهم بالاستفراد بالرأي وتهميش القواعد والإرتجال في أخذ القرارات وإختزال الجبهة في مجلس امنائها ما ادى إلى تفككها الداخلي واضعاف هياكلها القاعدية.. وأعيب على قادتها ترديد خطاب ثوري حماسي ذو سقف مرتفع لاينسجم مع ممارسة انبطاحية متذيلة وعاجزة عن أخذ المبادرة مع عدم الإلتفات للنقد والإمتناع عن القيام بمراجعات جذرية لهيكلتها الداخلية ومواقفها السياسية..
3- تعنت حركة النهضة
تعاملت حركة النهضة بخبث كبير مع الغضب والسخط الشعبي الكبير الذي اعقب فاجعة إغتيال البراهمي والجنود التسعة، فعملت على إمتصاص هذا الإنفجار والظهور تارة بمظهر الطرف الذي لاناقة له ولاجمل في ماحصل مستنفذةً كل مخزونها الكبير في المناورة واستعراض الخطب الشعبوية والترديد المستمر لاسطوانة نظرية المؤامرة ولعب دور الضحية من خلالها، وطوراً بحشد مناصريها وإستعراض عضلاتها تماشيا مع نظرية التدافع الإجتماعي لراشد الغنوشي..وقد لعبت النهضة على شق صفوف المعارضة وتصدير أزمتها وعزلتها إليها مستغلةً تناقضاتها الداخلية وارتباكها وانتهازية العديد من أحزابها ورموزها أو عدم قدرة البعض الآخر على الانغراس الشعبي والتأثير في الرأي العام..ونجحت الحركة في ربح الكثير من الوقت الذي استغلته في مزيد إختراق هياكل الدولة الحيوية ومهدت للخروج بأخف الأضرار من الحكومة مع إستغلال هيمنتها على المجلس التأسيسي لمنع أي محاكمة لوزرائها وخاصة علي العريض ولإطالة الفترة الإنتقالية وصياغة دستور على مقاسها..
كما أن الترويكا وحلفائها عملوا طيلة فترة الحوار على إبتداع مشاكل جانبية لإلهاء الشعب عن مواصلة مساره الثوري وتشتيت جهوده فعمد حزب “المؤتمر” إلى مقاطعة الحوار بتعلات واهية واصدر المرزوقي كتابه الأسود الذي أثار عاصفة من ردود الأفعال وإعتبر نوعاً من التشهير المرفوض ومكرساً للعدالة الانتقائية والانتقامية ومساهماً في تعكير الأجواء ونوعاً من المساومة الرخيصة.. إضافة إلى أن تزامن العمليات الإرهابية مع تعطل وتعثر الحوار وعزلة حركة النهضة السياسية دفع الكثيرين إلى اتهامها بالوقوف وراحة لمقايضة التونسيين بامنهم مقابل الخضوع والطاعة
4- التدخل الخارجي
كان من الواضح وجود مطبخ خلفي للحوار تصاغ فيه التحالفات وتعقد بين جدرانه الصفقات بمباركة السفير الأمريكي بتونس الذي شبه البعض بالمقيم العام الفرنسي زمن الإحتلال والذي قام بعدت لقاءات مع عد من الأحزاب التونسية وخاصة مع نداء تونس وحركة النهضة ولم يعد الدور الذي تلعبه سفارات الدول الغربية خافياً في توجيه الأحداث والضغط على الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي وهذا مانتبينه في المقال الصادر في جريدة لوموند الفرنسية التي ابرزت أن إختيار المهدي جمعة كوزير أول حدث بضغوط أمريكية وأوروبية..وهذا مايجعل كلماتٍ مثل “الكرامة الوطنية”و”السيادة الوطنية”و”استقلالية القرار الوطني” تعيش إغتراباً في الواقع التونسي..
قد تكون أبرز المكاسب التي خرجت بها تونس من الحوار الوطني هي أن هذا الأخير أتاح الفرصة لعموم الشعب للقيام بالفرز الحزبي ولمعرفة عيوب واخطاء الممارسة السياسية وجعل عديد الشباب خاصةً، يمرون من مرحلة الفرجة إلى مرحلة تقديم البدائل والحلول والبحث عن أشكال جديدة للتنظم وللتعبير عن آرائهم ومواقفهم بعيداً عن منطق الوصاية وثقافة القطيع الذي تحاول تكريسه أغلب الأشكال التنظيمية التقليدية المنتهية تاريخياً ، ..وان اعتبرت أهم الأطراف السياسية مبدأ دعمها لحكومة المهدي جمعة مشروطةً بتنفيذ بنود الحوار فإن غالبية الشعب التونسي ضجرت بالوعود والكلام المنمق وفي إنتظار أن تنبلج الرؤية أكثر في قادم الأيام، قد تنجح الحكومة الجديدة في إمتصاص الإحتقان والخروج بسلام من المرحلة الإنتقالية وقد تفشل في مهامها لتفتح الباب على مصراعيه لتفجر الحراك الشعبي ودخول البلاد في متاهات جديدة..
[…] الحوار الوطني الذي يقوده الإتحاد العام التونسي للشغل وعدد من […]