الغموض والشكوك

نظّم الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة بالشراكة مع وزارة الصناعة والطاقة والمناجم في 23 أفريل 2014، طاولة مستديرة حول الطاقة كامتداد للحوار الوطني حول هذا القطاع. وقد كانت هذه المناسبة فرصة لرجال الأعمال في منظّمة الأعراف لطرح أسئلتهم وتوصياتهم ونقدهم أمام الحكومة حول السياسات العامّة في قطاع الطاقة.

بعد الاستماع بعناية إلى مختلف المسئولين في الوزارة، شكّك عدد من المشاركين في الأرقام التي قدّمتها الحكومة، معبرين عن استحالة شرح أو تبرير الزيادة الكبيرة في ميزانية دعم الطاقة في مثل هذا الوقت القصير. وقد عبّر آخرون عن عدم رضاهم إزاء ارتفاع أسعار الكهرباء الموردة من قبل الشركة التونسية للكهرباء والغاز ( STEG )، والتي ترجع إلى سوء إدارة المؤسسات العموميّة العاملة في مجال الطاقة. بل وحثّ البعض السلطات على التحيقّق في صحة الأرقام التي تقدّمها منذ عشرات الأشهر.

الفساد في قطاع الطاقة: القضيّة المحظورة

منذ فترة، أصبح الفساد موضوعا لا يتجزء من النقاش العامّ حول قطاع الطاقة، عدى هذه المرّة، حيث لم يتمحور الخطاب مطلقا حول مكافحة الفساد.
واستغلّت رئيسة منظّمة الأعراف الفرصة لتضع النقاط على الحروف، على طريقتها الخاصة. فبعد أن سخرت من اعتبار المجلس الوطني التأسيسي لمكافحة الفساد واحدة من أولويّاته، توجّهت إلى وزير الصناعة والطاقة والمناجم لتدعوه علنا إلى تكثيف خطابه لإنهاء النقاش الدائر حاليّا حول هذا الموضوع ، قائلة بالحرف الواحد؛ “لقد سئمنا “.

رئيسة المنظّمة استنكرت إدراج مسألة الفساد في النقاش الوطني حول الإقتصاد. فقد شملت الخطة التي قدمها الإتحاد العام التونسي للشغل بخصوص الحوار حول السياسة الاقتصادية عددا من ورشات العمل التي تتناول موضوع مكافحة الفساد. ولقد علّقت السيّدة وداد بوشمّاوي خلال الجلسات الأولى للحوار على هذه المسألة قائلة؛ أنّه إذا استمرّ استعمال هذا الخطاب، فإنّ الجميع سينتهي بهم الأمر إلى السجن! فهل كان هذا تهديدا ؟ أم أنّها تحوّلت للعب دور المبتزّ لإسدال الستار حول حقل “مزران” النفطيّ والذي نشرت نواة حوله تحقيقا في بداية هذه السنة؟

وانتهت بوشمّاوي إلى الطلب من وزير الصناعة أن يشرح للناس كيف أنّ رجال الأعمال لا علاقة لهم بالفساد أو التهرب الضريبي، مضيفة، أن شركات النفط تدفع الضرائب المستحقة عليهم حتى قبل صرف فوائد أنشطتها…
وفي استجابة لطلب السيّدة بوشمّاوي، أعلن السيّد كمال بالناصر أنّ حكومة مهدي جمعة تتّجه نحو تجديد السياسة الإعلاميّة وأساليب التواصل.

إنكار الفساد…

حتى هذه اللحظة، اثبتت تقارير رسميّة، الأوّل للجنة التحقيق الوطنيّة حول الفساد والإختلاس، والثاني للجنة التدقيق، أن الفساد هو الظاهرة التي تنخر قطاع الطاقة في تونس. و قد خصص التقرير الأوّل فصلا كاملا لقطاع الطاقة والنفط مؤكدا وجود مافيا تستفيد من الموارد الطاقيّة على حساب المصلحة العامة.

“و قد أظهرت التحقيقات التي أجرتها اللجنة استنادا إلى وثائق عُثر عليها في مكتب رئيس الجمهورية المخلوع، وجود شبكة من الأشخاص المتورطين في ممارسات مشبوهة في علاقة بالمؤسسات العموميّة التي تعمل في قطاع الطاقة، وهذا بالتواطئ مع مقيمين في الخارج…”

على الرغم من أن التقرير اقتصر على صفحتين فقط لتناول مسألة الفساد في قطاع الطاقة ، إلاّ أنّه ذكر أدّلة دامغة على مدى استفحال هذه الآفة.

من خلال التجسّس على الهويّات الالكترونيّة، وجدت اللجنة ملفّا تضمّن متابعة لمبالغ ماليّة تمّ تحويلها من مكتب وزارة الداخلية و رئاسة الجمهورية. من خلال هذا الملفّ ومن التحقيقات للجنة، يمكننا أن نسنتنتج تورط شبكة كبيرة من المسئولين في الشركات التونسية والأجنبية.
تقرير اللجنة الوطنية للتحقيق حول الفساد و الاختلاس

من السخف إذن أن يتمّ إنكار حجم الفساد في هذا القطاع. كما ذكرنا سابقا، وبالإضافة إلى تقرير اللجنة الوطنيّة للتحقيق حول الفساد و الاختلاس، نشرت دائرة المحاسبات في ديسمبر 2012 تقريرا عن سوء الإدارة في قطاع الطاقة. هذه المرة تضمّنت الوثيقة المنشورة على الموقع الرسمي لدائرة المحاسبات أكثر من 40 صفحة. وقد مكّنت عمليات المراقبة التي تقوم بها الدائرة من تحديد العديد من أوجه القصور في قطاع الغاز. بالإضافة إلى ذلك، تمّ الاستماع إلى مستشاري دائرة المحاسبات في بداية أفريل 2013 من قبل لجنة الطاقة و القطاعات الإنتاجية في المجلس الوطني التأسيسي، وقد شهدوا بفداحة الممارسات في هذا القطاع.
وبفضل مساعدتهم هذه، تمكّن النوّاب من الحسم في مسألة تجديد امتياز حقل “زارات”، التي تحصّلت حاليا عليها شركة “PA resources” والتي كانت تتمتّع بها سابقا شركة “بوشمّاوي“.

على الرغم من كل هذا، لم يتردّد كمال بالناصر، الذّي عُيّن مؤخرا على رأس وزارة الصناعة والطاقة والمناجم بعد أن أمضى مسيرته المهنيّة في الخارج في شركة “Schlumberger” ، في عدّة مناسبات على دحض أهمية حجم الفساد و سوء الإدارة في القطاع النفطي قائلا أمام نوّاب المجلس الوطني التأسيسي خلال جلسة الاستماع في 12 فيفري الفارط.؛ ” 99 ٪ من الفساد الذّي نتحدث عنه هو من محض الخيال “.

هذا الأسبوع ، وخلال جلسة الحوار الوطني حول الطاقة ، انتهز هذا الأخير الفرصة للتشكيك في النتائج التي توصلت إليها دائرة المحاسبات حول وضع الإدارة في قطاع الغاز. وحسب رأيه دائما، لم تؤخذ ملاحظات الوزارة بعين الاعتبار. ووجب التذكير أنّه وبعد كتابة تلك الملاحظات التي سُجّلت بعد أشهر من التحقيقات، منحت دائرة المحاسبات المؤسّسات المعنيّة فرصة لإعطاء رأيها حول الموضوع. وهذا ما حدث تماما مع الفصل المتعلّق بقطاع الغاز في التقرير رقم 27.

rapport-complet-cour-des-comptes-680
إضغط على الصورة لتكبيرها

والنتيجة هي أن نسخة التقرير الذي نشر على الانترنت من قبل دائرة المحاسبات لم تتضمّن سوى 15 صفحة. و في نهاية الصفحة الخامسة عشرة وجدنا ما يلي:

بالإضافة إلى الإيضاحات والتفسيرات التي تمّ إدراجها في التقرير المقدم من الأطراف المعنية بملاحظات دائرة المحاسبات، قدمت وزارة الطاقة سلسلة من المعلومات التكميليّة، وشدّدت على أنّ التوجّهات الإستراتيجية القائمة على إعادة الهيكلة التنظيميّة والقانونيّة يجب أن تكون ملائمة للوضع الاقتصاديّ الحاليّ للبلاد.

التقرير رقم 27 لدائرة المحاسبات

لقد تضمّن التقرير في نسخته الأصليّة 125 صفحة، ولذلك فمن الواضح أن دائرة المحاسبات أخذت في الاعتبار ردود الأطراف المشاركة في عملية المراجعة. إذن، لماذا يستمرّ كمال بالناصر في ترديد العكس؟ ولم يكن الوزير وحده في هذا السياق، إذ اعتبر حسين بوجدي، عضو المكتب التنفيذي لمنظّمة الأعراف أنّ الأرقام الواردة في تقرير دائرة المحاسبات “شعبويّة”.

وقبل أسابيع قليلة ، في اجتماع لجنة الطاقة، اتّهم النائب في المجلس الوطني التأسيسي وممثّل حزب نداء تونس، عبد العزيز القطّي، مستشاري الدائرة بتشويه سمعة مؤسسات الدولة والتأثير في قرار النوّاب. هذه الاتهامات لم ترق لهؤلاء المستشارين ولم ترق للنوّاب الآخرين.
“لا شيء سيكون كما مضى”، هكذا وعد عبد الفتّاح بن عمر، الرئيس السابق للجنة الوطنيّة للتحقيق حول الفساد والاختلاس، خلال حوار مع ” “New African” “في بداية سنة 2012… مضيفا؛ “ولكن من الضروري مواصلة النضال.