وتعتبر الجبهة الشعبية من بين أهم الإئتلافات التي تعلقت حولها آمال شعبية كبيرة، إلا أنّها أضاعت طريق الوصول إلى ثقة الناخبين لأسباب عديدة أهمها القرارات السياسية المتذبذة والوقوع في شراك التحالفات الظرفية التي كان حزب نداء تونس أهم المستفيدين منها. هذا بالإضافة إلى هشاشة دور القيادي حمة الهمامي وضعف قدرته على تقديم شخصه وحزبه كعنصر فاعل وقادر على التغيير في البلاد.
إثر الصفعة التي تلقّتها خلال انتخابات 2011، حاولت القوى اليسارية إعادة تشكيل كيانها. فإثر فشل تجربة جبهة 14 جانفي التي جمعت عددا من الأحزاب اليسارية والقومية، تم يوم 7 أكتوبر 2012 الإعلان عن تشكيل الجبهة الشعبية التي تضم قوى بعثية وقومية ويسارية وشخصيات سياسية مرموقة لعل أهمها الفقيد شكري بلعيد وحمة الهمامي والمحامي عبد الناصر العويني وأحمد الصديق. الإعلان عن تشكيل الهيئة تم خلال اجتماع شعبي حافل عكس مساندة القواعد الشعبية لمكونات الأحزاب المكونة للجبهة لهذا الإئتلاف. غير أنّ اغتيال بلعيد، إثر قيادته لحملة إعلامية مكثفة من أجل التعريف بمبادئ الجبهة ونجاحه في فضح فشل حكومة الترويكا وتحذيره من الخطر الإرهابي الذي تمثله بعض الأطراف، ساهم في إطفاء جذوة تأثير الجبهة الشعبية وتفكيك لحمتها. وشيئا فشيئا تحولت مواقف الجبهة الشعبية مثيرة للتساؤل خصوصا إثر انخراط بعض قيادييها في معارك سياسية لم تكن جد مقنعة لقواعد أحزاب الجبهة لدرجة أن انتقادات شديدة طالتهم واصفة إياهم ب”الفاشلين” في إنقاذ البلاد وفي تطوير برامجهم أو استقطاب الناخبين.
جبهة ضعيفة وشعبية في تقهقر
استحواذ التحالف الحاكم الذي جمع أحزاب الترويكا إثر الإنتخابات الفارطة على مقاليد السلطة وإقصاؤه التام لبقية مكونات الساحة السياسية عرف في المقابل نجاح نواب الأحزاب المعارضة في المجلس التأسيسي في التكتل وتشكيل كتلة نيابية ذات وزن كانت قادرة على الضغط على الحكومة والتأثير على مجرى نقاشات الدستور. الأخذ والردّ بين مكونات الترويكا وبين ممثلي الأحزاب المعارضة دفع ممثلي القيادات اليسارية إلى التحرك من أجل الحد من سيطرة الترويكا وبناء جبهة يسارية قوية، فكان تأسيس الجبهة الشعبية حدثا هاما حظي بترحيب محللين سياسيين أكدوا آنذاك أن هذا التحالف الجديد قادر إذا نجح في التخطيط الجيد لخطواته السياسية على كسر الإستقطاب الثنائي الذي فرضته حركة النهضة وحزب نداء تونس.
الحرب ضد حركة النهضة وحليفيها كان شكري بعيد رأس الحربة فيه. وقد كلفته تصريحاته النارية واتهاماته الصريحة لبعض قياديي حركة النهضة بالضلوع في الإرهاب حملات تكفير وشيطنة ضده في بعض المساجد وعلى صفحات الفايسبوك. التهديدات التي تعرض لها بلعيد سرعان ما تم تنفيذها وقد مثل اغتياله خلال شهر فيفري 2013 صدمة سياسية أخرجت مئات الآلاف من التونسيين للمشاركة في تأبينه. وكادت جنازة بلعيد أن تتحول إلى انتفاضة شعبية ضد حكم الإسلاميين في تونس خصوصا مع اتهام حركة النهضة بالمشاركة في اغتيال بلعيد من طرف أوساط شعبية واسعة. إلاّ أنّ دعوة حمة الهمامي لأنصار الجبهة وللمتظاهرين الغاضبين بالتهدئة وعدم القيام بأي حراك شعبي حفاظا على وحدة البلاد اعتبرت إعلانا واضحا لنهاية النضال الميداني للأحزاب اليسارية ودخولها في معترك اللعبة السياسية التي تعتمد أساسا على الدفع نحو التوافقات ولم لا القبول بالتنازلات تحت غطاء “العمل من أجل الصالح العام.” دعوة حمة الهمامي إلى نبذ العنف والجنوح نحو التسامح والتصالح على خلفية اغتيال شكري بلعيد، لم يعف الجبهة الشعبية ضربة ثانية كانت قاصمة، فبعد أشهر قليلة من مقتل بلعيد، تمّ اغتيال عضو الجبهة الشعبية بالتأسيسي محمد البراهمي. ومثّلت هذه الحادثة منعرجا خطيرا عرفت تدخلا ناجعا من كل أحزاب المعارضة كحزب نداء تونس والحزب الجمهوري مما ساهم في تعطيل أشغال المجلس التأسيسي وإسقاط حكومة حركة النهضة وتشكيل حكومة تكنوقراط بدفع من الإتحاد العام التونسي للشغل عبر ما يسمى ب”جبهة الإنقاذ”. هذا الإنجاز الذي تم إثر تعبئة شعبية دعت إليها أحزاب الجبهة، أعاد لهذا التحالف الذي يجمع أحزابا يسارية وزنه وتأثيره في الساحة السياسية، إن أحسنت استغلاله، غير أنها لم تفعل، ودخلت الجبهة الشعبية في المقابل في صراعات داخلية نتجت عن اتخاذ بعض قيادييها لقرارات غير صائبة أثارت غضب قواعدها.
عرفت الجبهة عديد الإنسحابات حيث غادرها عدد من الأحزاب كحزب الخضر بقيادة عبد القادر الزيتوني والحزب الوطني الإشتراكي. كما لم تؤخذ البدائل والبرامج التي اقترحتها بعين الإعتبار ووضعت على الرف. كما أن وصول المهدي جمعة وحكومة التكنوقراط إلى الحكم أغلق الباب أمام مقترحات الجبهة الشعبية على المستوى الإقتصادي، حيث لم يحظ مشروع الميزانية المتأخر الذي تم تقديمه من طرفها للمجلس التأسيسي بالقبول أو الإهتمام. وحفاظ حمة الهمامي على الخطاب اليساري القديم القائم على التنظير لأفكار وبرامج اقتصادية مختلفة لم يعد مقنعا للقواعد الشعبية في ظل الظروف الإقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد والتي تحتاج حلولا واقعية. يضاف إلى كل هذا تقاطع مصالح الجبهة الشعبية مع مصالح حزب نداء تونس (الذي يصفه البعض بالتجمعي) ساهم في إشعال حملة مضادة ضد الجبهة واتهامها بالنفاق واللحاق بركب الأحزاب الموالية لحزب النداء طمعا في تحصيل مصالح حزبية ضيقة.
بين مطرقة النهضة وسندان النداء: الجبهة في المرتبة الثالثة
احتلت الجبهة الشعبية في أغلب تقارير سبر الآراء حول نوايا التصويت المرتبة الثالثة بعد حزب نداء تونس وحركة النهضة. غير أن الملفت في هذه التقارير هو عمق الفارق في نسب نوايا التصويت بين الجبهة الشعبية وسابقيها، ففي حين يحصل الحزبين المذكورين على نسب تتجاوز الخمسة والعشرين بالمائة، لا تتجاوز الجبهة الشعبية في أغلب التقارير المقدّمة نسبة ال9 بالمائة.
حصول الجبهة الشعبية على المرتبة الثالثة يدل على قدرة هذا التحالف على الوصول بشكل أو بآخر إلى عقل المواطن التونسي خصوصا مع استعمال ممثلي ال 12 حزبا المكون لهذه الجبهة لخطاب قريب من متطلبات التونسي من خلال طرحه لمسائل ثورية ومن بينها ضرورة تطبيق العدالة الأجتماعية والحد من تغوّل الرأسمالية والتقليص من الفوارق الإجتماعية. غير أنّ مجرّد طرح هذه المسائل جعل من الجبهة محل تشكيك ومساءلة من طرف المنتمين لتيارات دينية متشددة. ففي فترات عديدة قام ناشطون على موقع الفايسبوك بشن حملة تكفير شديدة اللهجة ضد ممثلي الجبهة الشعبية ونعتهم ب”الماركسيين الكفرة”، ووصل الأمر إلى حد اتهامهم بمحاربة الإسلام والمسلمين. هذه السياسة التي اعتمدتها أيضا حركة النهضة من خلال بعض قيادييها (الحبيب اللوز مثالا) ساهمت في تقليص شعبية الجبهة وانتشارها بسبب تخوف أوساط شعبية واسعة من مسألة إمكانية إساءة المنتمين للجبهة الشعبية للدّين الإسلامي.
من جهة أخرى عرفت الجبهة الشعبية خلافات حادة بخصوص موضوع التحالفات السياسية خصوصا مع حزب نداء تونس نظرا للخلاف القائم بين الطرفين حول مسألة ضم نداء تونس لعناصر انتمت سابقا لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي. غير انه وإثر اغتيال القيادي شكري بلعيد وجدت الجبهة الشعبية بقيادة حمة الهمامي تقاطعا هاما مع حزب نداء تونس تمثل في العمل على إسقاط حكومة الترويكا، الأمر الذي تم فعلا، وقد قام حزب النداء باستثماره وتقديم نفسه كمنقذ للبلاد في حين فشلت الجبهة الشعبية من جديد في تصدر الصفوف الأمامية وبقيت مجرد وسيلة ضغط شعبي في حين فشلت في الأخذ بزمام الأمور في ما يتعلق بمغازلة القوى الخارجية وإمساك خيوط اللعبة داخليا.
وفي المقابل اعتبر قبول الجبهة الشعبية الإنضمام إلى “جبهة الإنقاذ” التي ضمت حزب نداء تونس وعددا من الأحزاب ” الدستورية” عدا عن أغلب مكونات الساحة السياسية، نوعا من التحالف مع “الدساترة” و”التجمعيين” . هذا الأمر كلّف حمة الهمامي، الذي ظهر في أكثر من مناسبة في انسجام تام مع الباجي قايد السبسي، غضبا في صفوف قواعد الجبهة الشعبية التي كانت قد أعلنت في أكثر من مناسبة عن عداءها لحزب النداء والأحزاب الدستورية خصوصا أن أنصار الجبهة قد دخلوا في أكثر من مناسبة في مواجهات خفيفة مع أنصار النداء وتراشق بالتهم والشتائم.
وفي حين حاول حمة الهمامي في أكثر من مناسبة تبرير تقرّبه من حزب نداء تونس ومحاولاته المتكررة إبعاد شبهة التجمع الدستوري عنه، فاجأ قايد السبسي حلفاءه الجدد بلقائه الشهير مع زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي في اجتماع سري بباريس أسقط كل الحسابات ووضع الجبهة الشعبية في موضع “التسلل” خصوصا وأن هذا اللقاء تم في فترة احتدم فيها الصراع بين ممثلي حركة النهضة وممثلي الجبهة الشعبية وخصوصا النائب بالمجلس التأسيسي المنجي الرحوي الذي تلقى تهديدا بالقتل من طرف إسلاميين في أكثر من مناسبة.
رغم أن التصور اليساري يعتبر مكونا أساسيا للمشهد السياسي التونسي حيث نجح في أكثر من مناسبة في قلب موازين القوى، إلا أن الجبهة الشعبية أكبر ائتلاف يساري في تونس بقيت مجرد رقم في المعادلة حيث يسهل الضغط عليها وحصرها في الزاوية من طرف حركة النهضة بفضل خطابها الديني المؤثر على شريحة شعبية واسعة. كما يسهل على حزب نداء تونس وبقية الاحزاب التقدمية التأثير عليها ودفعها للصفوف الأمامية حين يتطلب الامر ضغطا شعبيا، لتترك فيما بعد جانبا على اعتبار أنها بالنسبة لهم ورقة خاسرة إذا تعلق الأمر بإنشاء جبهات تحالفية قوية.
ومع اقتراب الإنتخابات الرّئاسية والتشريعية شرعت أغلب الأحزاب مبكرا في استقطاب الناخبين والإعلان عن الإعداد لحملاتها الإنتخابية والتصريح بأسماء مرشحيها للإنتخابات الرئاسية. غير أن نشاطات الجبهة الشعبية بقيت باهتة ومحدودة، الأمر الذي أثار تساؤل عديد المهتمين بالشأن السياسي خصوصا وأنّ مسألة بحث التونسيين عن بديل سياسي ناجع لازال قائما وكان سببا أساسيا في عزوف التونسيين عن التسجيل في الإنتخابات.
الجبهة الشعبية والإنتخابات: بديل سياسي منشود أم طرف ثالث؟ هكذا! آمل ألا يكون سؤالكم جديا فالجبهة الشعبية لا تمثل بديلا سياسيا محترما ولا يمكن أيضا أن تكون طرفا ثلثا في أية عملية سياسية. هذا الكائن السياسي الشمولي الذي لا يزال يعيش في حقبة لنين ليس سوى مسخ لحزب سياسي متطرّف وانتهازي يبوس أيادي التجمّعيين والدساترة من أجل بعض الفتات لا غير! وهضاكهو