ونحن ندخل منطقة، كانت الحرارة المرتفعة والأرض القاحلة والحمير المحمّلة بالصفائح البلاستيكيّة المخصّصة لتعبئة المياه أوّل الإشارات التي ستمكّننا في ما بعد من فهم المعنى الحقيقيّ لمعضلة العطش ونقص المياه الصالحة للشراب التي يعاني منها أهالي العالية. ولم يطل انتظارنا ليعترضنا الأهالي الغاضبون بلافتاتهم التي حاولوا أن يختصروا عبرها مطالبهم: “لا للتهميش”، “نريد المساواة بين الجهات”، “أنقذونا من العطش والموت”.

أوّل من تحدّث إلينا من الأهالي، كانت السيّدة رابعة العامري التي أصيب إبنها بمرض في الكلى نتيجة شربه المياه الملوثّة بعد استفحال العطش في المنطقة جراء انقطاع مياه الشرب. ويتشارك البشر والدوّاب في شرب مياه وادي مرق الليل الملوثة التي تحوّلت إلى المصدر الوحيد لروي ضمأ اهالي العالية. وقد أخبرتنا محدّثتنا أنّ المنطقة غائبة عن أجندات المسؤولين والسياسيّن، حيث لم يلتفت إلى معاناتهم أحد من سلطة الإشراف، خصوصا أنّ البنى التحتيّة الضروريّة لإيصال المياه الصالحة للشراب موجودة كالقنوات والحنفيات، ولكنّ المياه المقطوعة تبقى لغزا عجزت عن فهمه على حدّ تعبيرها.

الشاب سمير العامري لم يشذّ عن شهادة السيّدة رابعة، حيث نقل إلينا يأسه من السلطات التي أغرقتهم بالوعود في كلّ مرةّ يطرقون فيها أبواب المسؤولين الحكوميّين، ولكنّ هذه الوعود ما تلبث أن تتبخرّ لتستمرّ معاناة الأهالي لا من العطش فقط، بل من الأمراض والأوبئة الناتجة عن استعمال المياه الملوثّة.

kairouan-haffouz-eau-sonede-tunisie-big
تصوير كالوم فرنسيس، نواة

السيّد محسن الكلبوسي من المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة، أفاد نواة أنّ الإشكال يتمثّل في قطع الكهرباء عن محرّكات ضخّ المياه ومجامع التنمية الفلاحيّة لأسباب مختلفة، وهو ما ينتج عنه توقّف تزويد المنطقة بالماء الصالح للشراب. ولا تنحصر المعضلة على منطقة العاليّة فقط، بل تشمل عديد القرى والمعتمديات كالحاجب وحفّوز وغيرها.

وتمتدّ مشكلة التزوّد بالماء الصالح للشراب لتؤثّر على التنمية البشريّة والتعليم في المنطقة، فحسب الإحصائيّات الرسميّة، فإنّ 175 مدرسة من جملة 312 لا تصلها المياه العذبة وهو ما يمثّل كابوسا حقيقيّا للتلاميذ والمدرسّين على حدّ سواء.

في هذا السياق، يتدخّل السيّد عبد الرزّاق السقني، متفقّد التعليم الثانوي، ليؤكّد حجم المشكلة التي يعاني منها القطاع التربويّ في المنطقة. حيث يعاني التلاميذ من العطش والجوع. وحتّى المياه التّي يتمّ يجلبها تكون ملوّثة وراكدة، وهو ما عاينه بنفسه في ماجل تُزوّد منه أحد المدارس بالمياه.

ويتدخّل حارس المدرسة هنا ليتحدّث عن الصعوبات الأخرى التي يواجهها في عمله الروتينيّ في المدرسة، حيث يلاقي مشاكل عديدة في القيام بعمليّة التنظيف الدوريّ للأقسام وساحة المدرسة، بل حتّى على مستوى النظافة الشخصيّة، فإنّ انعكاسات انقطاع الماء المستمرّ منذ أكثر من 6 اشهر تشمل دورات المياه والحمّامات التي تراكمت فيها الأوساخ بشكل يهدّد صحّة الإطار التربويّ والتلاميذ.

وعندما حاول السيّد عبد الرزّاق التدخّل لاقتراح بعض الحلول، لم يستطع هذا الأخير أن يتمالك نفسه عن البكاء وهو يحاول استحضار معاناة طفل يحاصره العطش من جهة والأمراض الناتجة عن تلوّث العيون والصهاريج الصدئة من جهة أخرى.