في ظل هذين الإتجاهين، تصدر مجموعة من المناضلين و الديمقراطيين التونسييين مبادرة جديدة تسبح على عكس التيار، و تدعو بالخصوص إلى مقاطعة نشيطة لانتخابات أكتوبر 2004، معددة أسباب هذه الدعوة و مستندة على أفق تاريخي معاصر و على تطورات ميدا نية حا لية. تثبت لنا بوضوح مقومات و أسس هذا النداء الموا طني. و قبل الوقوف على بعض النقاط التي تضمنتها هذه المبادرة. و تمحيصها لبيان مدى سلامتها. يجدر بنا قبل كل شيء، التعريج إلى ما وصلت إليه “المبادرة الديمقراطية” لاستنباط حدودها و نقائصها و “طوبويتها”.
لقد قام نظام 7 نوفمبر، منذ نشأته على وعود بحياة سياسية متطورة، قاطعا مع الممارسات اللاديمقراطية لسلفه، و التي جلبت الفوضى و الإضطراب للبلاد. و كان من الضروري على الرئيس الجديد، بأن يقوم بالتقرب إلى الحساسيات السياسية الموجودة حينها. و تلطيف العلاقة المتوترة مع المعارضة. و قد إستغل لتحقيق ذلك التناقض الحاصل بين أطراف المعارضة و إنتهازية بعض الشخصيات الوطنية. و لكن، بمرور الوقت، تأكد جليا للجميع، بأن النظام اليافع، لا يحمل سوى أكاذيب و أراجيف أكدتها السياسة الدموية التي إعتمدتها السلطة للتخلص من جميع معارضيها.
هذا، و لئن راهن نظام بن علي، على مسك الأجهزة السياسية بيد من حديد، و تفريخ عشرات الآلاف من البوليس و المراقبين لبث حالة عارضة من الخوف و الرهبة و لتحييد الشعب من أي تحرك قد يزعج السلطة. فإنها بقيت منزعجة و متوترة من بعض الضغوطات التي قد تأتي من حلفائها الرئييسيين. و محاولة منها للإلتفاف على هذه الإشكالية و لتلميع صورتها في الداخل و الخارج، أخرج لنا نظام بن علي، مسابقات إنتخابية، تحرك من خلالها أجهزة وزارة الداخلية دمى متحركة تلبس رداء الديمقراطية و المعارضة. و تستدعى وقت الطلب، ترضى بالفتات التي يقدم إليها، مهللة مكبرة متمعشة من بركات السلطة. و لتأكيد حقيقة إدعائنا هذا، نورد بإختصارأهم المحطات الإنتخابية منذ تولي بن علي سدة الحكم.
إنتخابات |
إنتخابات |
إنتخابات |
|
|||
تشريعية
|
رئاسية |
تشريعية |
رئاسية |
تشريعية |
رئاسية |
|
80%
148 منعقد |
|
97.73%
144 منعقد |
|
80.84%
141 منعقد |
|
الحزب |
20% منة من السلطة.
34 منعقد |
|
2%
19 منعقد |
|
19.16%
(تحصل الأسلاميون في بعض الدوائر على |
|
المعارضة |
بين هذه الأرقام، كيفية سير العملية الانتخابية في تونس حيث:
يستحوذ الحزب الحاكم على نسبة المطلقة في الإنتخابات. فهو الحزب الجماهيري الكبير، الذي ليس بمقدور أحد مزاحمته. وهو ما يعيد إلى أذهاننا النظام السياسي الستاليني الذي تحول إلى مزبلة التاريخ.
معارضة ضعيفة ليست لها القدرة على التأ ثير و الفعل و الوقوف للند أمام الحزب – الدولة. وهو ما يجعلها تستعطف رضا السلطة و تلين مواقفها، و تساهم برغبة منها أو بغفلة عنها في تعفن النظام السياسي في تونس.
و على هذه الشاكلة، لا تختلف الديمقراطية في بلادنا، عن الأوليغارشية الزبائنية Les oligarchies clientélistes لدكتاتوريات أمريكا اللاتينية. أين تتحكم المافيا السياسية و العائلات النافذة في خيوط اللعبة و تنسج العلاقات داخل السلطة و خارجها قائمة على الولاء لهذا الجناح أو ذاك و على درجة الطاعة و الولاء، مع السماح لبعض الموالين و الأقرباء بإنشاء أحزاب سياسية تستعمل كواجهة لديمقراطية خاوية و كوسيلة للضغط و المزايدة. و لعل قضية عبد الرحمان التليلي ما تزال حاضرة في الأذهان.
إستحقاقات 2004 و الأوهام المعلقة عليها.
حيث أن الجرد السريع لأهم الإستحقاقات الإنتخابية سابقة الذكر، كانت قاصرة عن التطرق للظروف السياسية و الإقتصادية التي حفت بها. فإن أهم مانستنتجه هو وهم الإعتماد على نظام بن علي،و فشله في جميع هذه الإمتحانات. بطريقة تتحول السلطتين التنفيذية و التشريعية من محك إختبار و مسائلة جماهرية حقيقية إلى موعد لاستبلاه الشعب و الإستخفاف به. و كيف لا تكون هذه الحال بهذه الكيفية، و الأموات عندنا ينتخبون.
إن ما يطرحه المتحمسون للمشاركة في إنتخابات الخريف المقبل، نذكر منهم من إجتمع حول ما يسمى بالمبادرة الديمقراطية: من أتباع حركة التجديد و تيار الشيوعيين الديمقراطيين و عناصر قلة مستقلة، رأوا بأنهم أمام فرصة تاريخية لإستغلال ثغرة قانونية لترشيح عضو عن التجديد تتوفر فيه الشروط الموضوعة في هذا الصدد، و توجيه نذاء للحركة الديمقراطية لكي تلتف وراء هذا المرشح “الفرصة” و إستثمار هذا الموعد “لكسب معركة الوجود و إثبات الهوية أمام الرأي العام التونسي الواسع” (1) من دون الإنزلاق في نقاش بيزنطي لتحديد مفهوم “الرأي العام التونسي” الخرافي، و من دون التقارع حول توقيت “الفرص” هل هي نابعة من ذاتنا و وفقا لبرنامجنا، أم هي لحظة تسمح لنا السلطة بها من حين لآخر. و من دون فائدة تذكر للغوص في ماضي حركة التجديد، المنقلب و المتمايل مع الريح، أو إلى إنتهازية و لا مبدئية تيار ا لشيوعيين الديمقراطيين. و لكن من الملح و الواجب – لإن التاريخ لا يرحم – بيان الخيط الأبيض من الأسود في ما جادت علينا به قريحة واضعي هذه المبادرة.
أولا:
إن الحديث عن الثغرة القانونية التي تناساها المشرع التونسي، و وجب إستغلالها لتسجيل بعض النقاط أمام السلطة هو في الحقيقة إفتراء و ضحك على الذقون. فكلنا نعلم، أنه ليس من السذج و الغباء بمكان، أن يسمح نظام بن علي لمن قد يقلق راحته أو يترك له الفرصة لإفشال أو إرباك برامجه. فهل من المنطقي – وهو الذي أحكم السيطرة على الوضع في البلاد – أن يترك مجالا لمعارض “راديكالي” بأن ينزل للشارع و يخاطب المواطنين وهو الذي لم يرض و لو بهامش صغير من حرية التعبير و التظاهر؟ أو – و تساؤلي بريء – لماذا هذه الإزدواجية في التعامل ما بين الأحزاب المستقلة FDTL, PCOT, PDP)) و الأحزاب المنخرطة في مسار الإنتخابات (التجديد و الشيوعيين الديمقراطيين.) ؟
من المؤكد بأن السلطة تتعامل بذكاء و حنكة لتجاوز موعد أكتوبر 2004 عن طريق:
1- إستغلال تحمس ا لتجديديين و أتباعهم للمشاركة في هذه الإنتخابات و تقديمهم لمرشح يختلف في خطابه عن السلطة. و يجمع إلى جانبه الكثير من المشاكسين و الناقمين و ما يستتبع ذاك من جر أكثر ما يمكن من المواطنين للتوجه نحو صناديق الإقتراع، خاصة بعد أن أحست السلطة درجة خطورة تغيب الجماهير عن المشاركة في الإنتخابات.
2- لم يعد يخفى على أحد شدة الضغوط الخارجية التي أصبح يتعرض لها نظام بن علي من أجل توسيع هامش الحرية في البلاد و فسح المجال أمام المعارضة للتحرك بهدوء. و ليست، من هنا، الإنتخابات القادمة سوى شهادة رضا من قبل البلدان المتقدمة و الدوائر المالية قد تسلم إليه فكيف سيكون موقف المتمترسين وراء هذه المبادرة، بعد أن يتمكنوا من تحسين صورة دكتاتورية بن علي أمام أسياده في الخارج؟
ثانيا:
جميل أن تدعو المبادرة، الحركة الديمقراطية التقدمية إلى “بلورة مهامها السياسية و شعاراتها بالتوافق مع واقعنا الموضوعي و قدراتنا الذاتية” (2). و لكن، الأجمل منه، لو وضعت الاصبع على الداء و عددت أسباب عجز الأحزاب الوطنية و اليسارية منها بالخصوص. و هي التي تعرف مدى قدمها و إنغراسها في التاريخ السياسي لتونس المعاصرة. و ما فائدة الحديث عن الإشتراكية و رفض الملكية الخاصة و العدالة الإجتماعية في حين تعرف هذه الأحزاب فقرا جماهيريا و تصحرا شعبيا؟ ثم لماذا ينحصر العمل الجبهوي و العمل الجماعي في المواعيد الانتخابية و يكاد ينعدم في مواعيد و محطات و مطالب أخرى؟
أسئلة حارقة تنتظر إجابات قد لا تأتي. و لكن بعيدا عن المغالطات و الإفتراءا ت التي أفحمتها بها المبادرة، يتأكد اليوم إنعدام الظروف المناسبة للمشاركة في الإنتخابات، و تتأكد بأن الآمال التي ستعلق على بن علي و فريقه في امكانية التغيير هي أوهام يتمسك بها الكثير من الغارقين في وحل الاندثار و الاضمحلال. و قد ننعت بالعداوة للديمقراطية و الاستخفاف بالشعب التونسي، و لكن لن ننعت باللاوطنية و الإنتهازية و الديماغوجية التي تسند ذراع النظام المنهارة لا محال.
لكن لماذا نقاطع؟
تتفق جميع الأحزاب السياسية و هيئات المجتمع المدني بجميع أشكالها على سقوط ورقة التوت عن نظام بن علي. و لا أحد – حتى من المقربين – بمقدوره البرهنة الحقيقية على وجود نظام سياسي ديمقراطي في تونس.
ثم إن جميع الظروف الموضوعة و الذاتية المتداخلة و المؤثرة في الشأن السياسي تنبث بوضوح عدم جدوى المشاركة في الإنتخابات القادمة. و الأنكل من هذا، إفتقار البلاد لأحزاب سياسية معارضة متجذرة و لها إمتدادات جماهيرية بمقدرتها قيادة شعب و وطن بأكمله، أحزاب عجزت حتى عن إدارة توجهات و مواقف حزبية متبا ينة، فما بالك بملايين من المواطنين؟
إن التوافق مع واقعنا الموضوعي و قدراتنا الذاتية، مثلما دعت إليه المبادرة الديمقراطية، يدفعنا إلى مقاطعة الإنتخابات المهزلة، و فضح إنتهاكاتها و مؤامراتها. فلا إمكانيات لدينا تسمح بمقارعة و معاندة الند للند حزب متغول، و لا وجود لرأي عام بمقدوره التزول إلى الشارع و إعلان عصيان مدني لفرض ممثليه و مرشحيه.
..خلاصنا في المقاطعة.
أولا:
إن الدعوة إلى “مقاطعة نشيطة” تستدعي ضرورة الإحتكاك الفعلي مع النظام و بوليسه، و ما قد ينجر عنه من ممارسات قمعية و إستفزازية عودنا بها دائما، و هي فرصة أخرى لتذكير التونسيين و العالم من حولنا، بأن سياسة بن علي داخليا لم تتجاوز مرحلة الإستبداد و القهر و التسلط. و ليس حديثه عن الديمقراطية سوى ذر الرماد على العيون.
ثانيا:
فضح العلاقة العضوية بين الدكتاتورية السياسية و الإستبداد الإقتصادي و هو حسب رأيي، عين الصواب. فجوهر النظام التونسي هو كما ذكرنا سابقا لا يتعدى لعب دور الواجهة و الحلي لنفوذ و إمتيازات بعض الفئات الإجتماعية القليلة التي سمحت لها الظروف و إعتمادا عن الطرق الملتوية و نمط التفكير المافياوي بتحقيق ثروات ضخمة تثير الإندهاش و التعجب في بلد مثل تونس، لا يتجاوز فيها معدل الأجور شهريا بين 400 و 600 د. فمعظم الإجراءات الإقتصادية و السياسات المتبعة في هذا االشأن تحمل هاجسا واحدا أوحد و المتمثل في البحث عن أوفر السبل لتكديس أكثر من أموال في جيوب المستكرشين و المستفيدين من السلطة. و يقتصر دور السلطة و الهياكل التابعة لها حماية مصالحهم و الذو د عنهم و قمع أي صوت يدعو إلى محاسبتهم و سؤالهم من أين لكم هذا؟”
لعل في أخذنا لأمثلة إضرابات الجوع المتتالية لعمال وقع طردهم من مراكز عملهم أولحاملي شهادات عليا أو صدت جميع الأبواب في وجوههم و إنهارت جميع أحلامهم و تطلعاتهم في برك أوهام صندوق 21-21 و بنك التضامن… خير تعبير و أحسن دليل على صدى البرامج اللاإجتماعية للسلطة في دولة “المعجزة الإقتصادية”.
من هنا نتوصل إلى إستنتاج يتبادر إلينا بعد فحص هاتين المبادرتين، مساندة نظام بن علي الجائر و شرعنته و تقديم العون له ليقدر على الإنفلات من مأزقه، أو التموقع في الجانب الحقيقي للمعارضة المستقلة و الوطنية؟ موقف يتطلب شجاعة عظيمة و تضحيات جسيمة لا نخال أبناء هذا الوطن يفتقرون إليها.
و لنا عودة في هذا الموضوع.
[…] و الوحدة الشعبية و الخضر للتقدم، و شخصيا أتفهم من كان راديكاليا أكثر من هذه الأحزاب قبل سقوط بن علي في نقده لهم، لكنني لا […]