في خضم جدال دشن منذ فترة سنته الأولى، بين من يدعو إلى توحيد الصف الديمقراطي خلف برنامج لمرشح قانوني، إستطاع أن ينفذ من ثقب غافل النظام التونسي، الذي أحكم تصفية خصومه، و إنتقاء حلفائه. و موقف آخر، لا يختلف عن الأول من حيث الدعوة إلى ضرورة الإنخراط في المعركة الإنتخابية القادمة. و لكن بشكل آخر يقوم أساسا على فضح إقصائية و تهميش النظام السياسي لمعارضيه الحقيقيين و الفعليين. و ذلك من أجل إخراج مسرحية إنتخابية منمقة، تكون إضافة جديدة لملفه “الديمقراطي” القائم منذ 17 سنة.

في ظل هذين الإتجاهين، تصدر مجموعة من المناضلين و الديمقراطيين التونسييين مبادرة جديدة تسبح على عكس التيار، و تدعو بالخصوص إلى مقاطعة نشيطة لانتخابات أكتوبر 2004، معددة أسباب هذه الدعوة و مستندة على أفق تاريخي معاصر و على تطورات ميدا نية حا لية. تثبت لنا بوضوح مقومات و أسس هذا النداء الموا طني. و قبل الوقوف على بعض النقاط التي تضمنتها هذه المبادرة. و تمحيصها لبيان مدى سلامتها. يجدر بنا قبل كل شيء، التعريج إلى ما وصلت إليه “المبادرة الديمقراطية” لاستنباط حدودها و نقائصها و “طوبويتها”.

لقد قام نظام 7 نوفمبر، منذ نشأته على وعود بحياة سياسية متطورة، قاطعا مع الممارسات اللاديمقراطية لسلفه، و التي جلبت الفوضى و الإضطراب للبلاد. و كان من الضروري على الرئيس الجديد، بأن يقوم بالتقرب إلى الحساسيات السياسية الموجودة حينها. و تلطيف العلاقة المتوترة مع المعارضة. و قد إستغل لتحقيق ذلك التناقض الحاصل بين أطراف المعارضة و إنتهازية بعض الشخصيات الوطنية. و لكن، بمرور الوقت، تأكد جليا للجميع، بأن النظام اليافع، لا يحمل سوى أكاذيب و أراجيف أكدتها السياسة الدموية التي إعتمدتها السلطة للتخلص من جميع معارضيها.

هذا، و لئن راهن نظام بن علي، على مسك الأجهزة السياسية بيد من حديد، و تفريخ عشرات الآلاف من البوليس و المراقبين لبث حالة عارضة من الخوف و الرهبة و لتحييد الشعب من أي تحرك قد يزعج السلطة. فإنها بقيت منزعجة و متوترة من بعض الضغوطات التي قد تأتي من حلفائها الرئييسيين. و محاولة منها للإلتفاف على هذه الإشكالية و لتلميع صورتها في الداخل و الخارج، أخرج لنا نظام بن علي، مسابقات إنتخابية، تحرك من خلالها أجهزة وزارة الداخلية دمى متحركة تلبس رداء الديمقراطية و المعارضة. و تستدعى وقت الطلب، ترضى بالفتات التي يقدم إليها، مهللة مكبرة متمعشة من بركات السلطة. و لتأكيد حقيقة إدعائنا هذا، نورد بإختصارأهم المحطات الإنتخابية منذ تولي بن علي سدة الحكم.

إنتخابات 
99

إنتخابات 
94

إنتخابات 
92

 

تشريعية

 

رئاسية

تشريعية

رئاسية

تشريعية

رئاسية

80%

 

148 منعقد

 

97.73%

 

144 منعقد

 

80.84%

 

141 منعقد

 

الحزب
الحاكم

20%

منة من السلطة.

 

34 منعقد

 

2%

 

19 منعقد

 

19.16%

 

(تحصل الأسلاميون في بعض الدوائر على 
30
%)

 

المعارضة
مجتمعة

بين هذه الأرقام، كيفية سير العملية الانتخابية في تونس حيث:

-  يستحوذ الحزب الحاكم على نسبة المطلقة في الإنتخابات. فهو الحزب الجماهيري الكبير، الذي ليس بمقدور أحد مزاحمته. وهو ما يعيد إلى أذهاننا النظام السياسي الستاليني الذي تحول إلى مزبلة التاريخ.

-  معارضة ضعيفة ليست لها القدرة على التأ ثير و الفعل و الوقوف للند أمام الحزب – الدولة. وهو ما يجعلها تستعطف رضا السلطة و تلين مواقفها، و تساهم برغبة منها أو بغفلة عنها في تعفن النظام السياسي في تونس.

و على هذه الشاكلة، لا تختلف الديمقراطية في بلادنا، عن الأوليغارشية الزبائنية Les oligarchies clientélistes لدكتاتوريات أمريكا اللاتينية. أين تتحكم المافيا السياسية و العائلات النافذة في خيوط اللعبة و تنسج العلاقات داخل السلطة و خارجها قائمة على الولاء لهذا الجناح أو ذاك و على درجة الطاعة و الولاء، مع السماح لبعض الموالين و الأقرباء بإنشاء أحزاب سياسية تستعمل كواجهة لديمقراطية خاوية و كوسيلة للضغط و المزايدة. و لعل قضية عبد الرحمان التليلي ما تزال حاضرة في الأذهان.


إستحقاقات 2004 و الأوهام المعلقة عليها.

حيث أن الجرد السريع لأهم الإستحقاقات الإنتخابية سابقة الذكر، كانت قاصرة عن التطرق للظروف السياسية و الإقتصادية التي حفت بها. فإن أهم مانستنتجه هو وهم الإعتماد على نظام بن علي،و فشله في جميع هذه الإمتحانات. بطريقة تتحول السلطتين التنفيذية و التشريعية من محك إختبار و مسائلة جماهرية حقيقية إلى موعد لاستبلاه الشعب و الإستخفاف به. و كيف لا تكون هذه الحال بهذه الكيفية، و الأموات عندنا ينتخبون.

إن ما يطرحه المتحمسون للمشاركة في إنتخابات الخريف المقبل، نذكر منهم من إجتمع حول ما يسمى بالمبادرة الديمقراطية: من أتباع حركة التجديد و تيار الشيوعيين الديمقراطيين و عناصر قلة مستقلة، رأوا بأنهم أمام فرصة تاريخية لإستغلال ثغرة قانونية لترشيح عضو عن التجديد تتوفر فيه الشروط الموضوعة في هذا الصدد، و توجيه نذاء للحركة الديمقراطية لكي تلتف وراء هذا المرشح “الفرصة” و إستثمار هذا الموعد “لكسب معركة الوجود و إثبات الهوية أمام الرأي العام التونسي الواسع” (1) من دون الإنزلاق في نقاش بيزنطي لتحديد مفهوم “الرأي العام التونسي” الخرافي، و من دون التقارع حول توقيت “الفرص” هل هي نابعة من ذاتنا و وفقا لبرنامجنا، أم هي لحظة تسمح لنا السلطة بها من حين لآخر. و من دون فائدة تذكر للغوص في ماضي حركة التجديد، المنقلب و المتمايل مع الريح، أو إلى إنتهازية و لا مبدئية تيار ا لشيوعيين الديمقراطيين. و لكن من الملح و الواجب – لإن التاريخ لا يرحم – بيان الخيط الأبيض من الأسود في ما جادت علينا به قريحة واضعي هذه المبادرة.


أولا:

إن الحديث عن الثغرة القانونية التي تناساها المشرع التونسي، و وجب إستغلالها لتسجيل بعض النقاط أمام السلطة هو في الحقيقة إفتراء و ضحك على الذقون. فكلنا نعلم، أنه ليس من السذج و الغباء بمكان، أن يسمح نظام بن علي لمن قد يقلق راحته أو يترك له الفرصة لإفشال أو إرباك برامجه. فهل من المنطقي – وهو الذي أحكم السيطرة على الوضع في البلاد – أن يترك مجالا لمعارض “راديكالي” بأن ينزل للشارع و يخاطب المواطنين وهو الذي لم يرض و لو بهامش صغير من حرية التعبير و التظاهر؟ أو – و تساؤلي بريء – لماذا هذه الإزدواجية في التعامل ما بين الأحزاب المستقلة FDTL, PCOT, PDP)) و الأحزاب المنخرطة في مسار الإنتخابات (التجديد و الشيوعيين الديمقراطيين.) ؟

من المؤكد بأن السلطة تتعامل بذكاء و حنكة لتجاوز موعد أكتوبر 2004 عن طريق:

1- إستغلال تحمس ا لتجديديين و أتباعهم للمشاركة في هذه الإنتخابات و تقديمهم لمرشح يختلف في خطابه عن السلطة. و يجمع إلى جانبه الكثير من المشاكسين و الناقمين و ما يستتبع ذاك من جر أكثر ما يمكن من المواطنين للتوجه نحو صناديق الإقتراع، خاصة بعد أن أحست السلطة درجة خطورة تغيب الجماهير عن المشاركة في الإنتخابات.

2- لم يعد يخفى على أحد شدة الضغوط الخارجية التي أصبح يتعرض لها نظام بن علي من أجل توسيع هامش الحرية في البلاد و فسح المجال أمام المعارضة للتحرك بهدوء. و ليست، من هنا، الإنتخابات القادمة سوى شهادة رضا من قبل البلدان المتقدمة و الدوائر المالية قد تسلم إليه فكيف سيكون موقف المتمترسين وراء هذه المبادرة، بعد أن يتمكنوا من تحسين صورة دكتاتورية بن علي أمام أسياده في الخارج؟


ثانيا:

جميل أن تدعو المبادرة، الحركة الديمقراطية التقدمية إلى “بلورة مهامها السياسية و شعاراتها بالتوافق مع واقعنا الموضوعي و قدراتنا الذاتية” (2). و لكن، الأجمل منه، لو وضعت الاصبع على الداء و عددت أسباب عجز الأحزاب الوطنية و اليسارية منها بالخصوص. و هي التي تعرف مدى قدمها و إنغراسها في التاريخ السياسي لتونس المعاصرة. و ما فائدة الحديث عن الإشتراكية و رفض الملكية الخاصة و العدالة الإجتماعية في حين تعرف هذه الأحزاب فقرا جماهيريا و تصحرا شعبيا؟ ثم لماذا ينحصر العمل الجبهوي و العمل الجماعي في المواعيد الانتخابية و يكاد ينعدم في مواعيد و محطات و مطالب أخرى؟

أسئلة حارقة تنتظر إجابات قد لا تأتي. و لكن بعيدا عن المغالطات و الإفتراءا ت التي أفحمتها بها المبادرة، يتأكد اليوم إنعدام الظروف المناسبة للمشاركة في الإنتخابات، و تتأكد بأن الآمال التي ستعلق على بن علي و فريقه في امكانية التغيير هي أوهام يتمسك بها الكثير من الغارقين في وحل الاندثار و الاضمحلال. و قد ننعت بالعداوة للديمقراطية و الاستخفاف بالشعب التونسي، و لكن لن ننعت باللاوطنية و الإنتهازية و الديماغوجية التي تسند ذراع النظام المنهارة لا محال.


لكن لماذا نقاطع؟

تتفق جميع الأحزاب السياسية و هيئات المجتمع المدني بجميع أشكالها على سقوط ورقة التوت عن نظام بن علي. و لا أحد – حتى من المقربين – بمقدوره البرهنة الحقيقية على وجود نظام سياسي ديمقراطي في تونس.

ثم إن جميع الظروف الموضوعة و الذاتية المتداخلة و المؤثرة في الشأن السياسي تنبث بوضوح عدم جدوى المشاركة في الإنتخابات القادمة. و الأنكل من هذا، إفتقار البلاد لأحزاب سياسية معارضة متجذرة و لها إمتدادات جماهيرية بمقدرتها قيادة شعب و وطن بأكمله، أحزاب عجزت حتى عن إدارة توجهات و مواقف حزبية متبا ينة، فما بالك بملايين من المواطنين؟

إن التوافق مع واقعنا الموضوعي و قدراتنا الذاتية، مثلما دعت إليه المبادرة الديمقراطية، يدفعنا إلى مقاطعة الإنتخابات المهزلة، و فضح إنتهاكاتها و مؤامراتها. فلا إمكانيات لدينا تسمح بمقارعة و معاندة الند للند حزب متغول، و لا وجود لرأي عام بمقدوره التزول إلى الشارع و إعلان عصيان مدني لفرض ممثليه و مرشحيه.


..خلاصنا في المقاطعة.

أولا:

-  إن الدعوة إلى “مقاطعة نشيطة” تستدعي ضرورة الإحتكاك الفعلي مع النظام و بوليسه، و ما قد ينجر عنه من ممارسات قمعية و إستفزازية عودنا بها دائما، و هي فرصة أخرى لتذكير التونسيين و العالم من حولنا، بأن سياسة بن علي داخليا لم تتجاوز مرحلة الإستبداد و القهر و التسلط. و ليس حديثه عن الديمقراطية سوى ذر الرماد على العيون.

ثانيا:

فضح العلاقة العضوية بين الدكتاتورية السياسية و الإستبداد الإقتصادي و هو حسب رأيي، عين الصواب. فجوهر النظام التونسي هو كما ذكرنا سابقا لا يتعدى لعب دور الواجهة و الحلي لنفوذ و إمتيازات بعض الفئات الإجتماعية القليلة التي سمحت لها الظروف و إعتمادا عن الطرق الملتوية و نمط التفكير المافياوي بتحقيق ثروات ضخمة تثير الإندهاش و التعجب في بلد مثل تونس، لا يتجاوز فيها معدل الأجور شهريا بين 400 و 600 د. فمعظم الإجراءات الإقتصادية و السياسات المتبعة في هذا االشأن تحمل هاجسا واحدا أوحد و المتمثل في البحث عن أوفر السبل لتكديس أكثر من أموال في جيوب المستكرشين و المستفيدين من السلطة. و يقتصر دور السلطة و الهياكل التابعة لها حماية مصالحهم و الذو د عنهم و قمع أي صوت يدعو إلى محاسبتهم و سؤالهم من أين لكم هذا؟”

لعل في أخذنا لأمثلة إضرابات الجوع المتتالية لعمال وقع طردهم من مراكز عملهم أولحاملي شهادات عليا أو صدت جميع الأبواب في وجوههم و إنهارت جميع أحلامهم و تطلعاتهم في برك أوهام صندوق 21-21 و بنك التضامن… خير تعبير و أحسن دليل على صدى البرامج اللاإجتماعية للسلطة في دولة “المعجزة الإقتصادية”.

من هنا نتوصل إلى إستنتاج يتبادر إلينا بعد فحص هاتين المبادرتين، مساندة نظام بن علي الجائر و شرعنته و تقديم العون له ليقدر على الإنفلات من مأزقه، أو التموقع في الجانب الحقيقي للمعارضة المستقلة و الوطنية؟ موقف يتطلب شجاعة عظيمة و تضحيات جسيمة لا نخال أبناء هذا الوطن يفتقرون إليها.

و لنا عودة في هذا الموضوع.