JPEG

هذه النظرية تعتبر المحاولة الأولى لفقهاء الحوزة العلمية في قم، فقد قدّم الفقهاء الإيرانيون، نظرية مركبة من نظريات ولاية الفقيه التقليدية، إلى درجة ذكر شروط رئيس الدولة من قبل الشارع، من ناحية، ونظرية حق الحاكمية الشعبية والمشاركة الجماهيرية، من ناحية أخرى.

يمكننا تلمّس طلائع هذه النظرية في كتب الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري، حيث كان مطهري يؤمن بإمكان الجمع بين الواجبات الإلهية والحقوق الشعبية. فهو يقول في سياق بيان أسباب التوجه نحو المادية:

“… السبب الثالث للتوجه نحو المادية هو اضطراب قسم من المفاهيم السياسية – الاجتماعية. نقرأ في تاريخ الفلسفة السياسية أنه عندما طرحت المفاهيم الاجتماعية – السياسية في الغرب، ودار النقاش حول مسألة الحقوق الطبيعية، وخصوصاً حق الحاكمية الشعبية، وانحاز جماعة إلى الاستبداد السياسي ونفوا أيّ حق للناس مقابل الحكام، ولم يعترفوا لهم بأي شيء سوى أداء الواجبات، تشبّث هؤلاء في تبريرهم لنظرياتهم الاستبدادية السياسية بمسألة الله، وادعوا أنّ الحكام مسؤولون أمام الله فقط، في حين أن الناس مسؤولون أمام الحكام وعليهم أداء الطاعة، ولا حقّ للناس أن يسائلوا الحكام كيف ولماذا فعلتم كذا؟ أو أن يأمروهم بفعل معين باعتبار أن لله وحده حق مساءلة الحاكم ومحاكمته، ولا حق للناس على الحاكم. هكذا نشأت أجواء مفتعلة أدت إلى أفكار متطرفة، سواء من ناحية التلازم بين الإيمان بالله والإيمان بوجوب الخضوع للحاكم، وإلغاء أي حق في المداخلة في شؤون من عيّنه الله لرعاية الناس وحفظهم من ناحية أنّ الحاكم مسؤول فقط من قبله. وهكذا ولد التلازم الحتمي بين الإيمان بالحاكمية الشعبية من جهة والكفر بالله من جهة أخرى..

“ولكن في الفلسفة الاجتماعية الإسلامية لا يؤدي الإيمان بالله إلى قبول الحكومة المطلقة للأفراد، فالحاكم مسؤول أمام الناس، والإيمان بالله يضع الحاكم في موقع المسؤولية أمام الناس، اذ يجب عليه أن يؤدي حقوقهم”.

وفضلاً عن هذا فإن استيفاء الحقوق يعتبر واجباً شرعياً.

يكتب الشهيد مطهري خلال بحثه عن جذور نظريته السياسية، في كتاب جولة في نهج البلاغة:

“إنّ أحد أسباب تخلّف الأديان، من وجهة نظر علم النفس الديني، هو افتعال القائمين على الدين نوعاً من التناقض بين الدين والحاجات الطبيعية، وخاصة عندما تتبلور تلك الحاجات في أوساط الرأي العام… بينما الحقيقة أنّ الايمان بالله يقوم على ثقافة العدل والحقوق الذاتية للناس، ولا يمكن إقرار الحقوق الذاتية والعدالة الواقعية إلا مع الإيمان بالله تعالى، بعيداً عن الفرضيات والاتفاقات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ الإيمان بالله أفضل ضامن لتنفيذهما. وإنّ منطق نهج البلاغة في مجال الحق والعدل يقوم على هذا الأساس”.

وعلى ضوء الأسس المذكورة، يعرّف مطهري الجمهورية الإسلامية كما يلي:

“تحدد كلمة الجمهورية شكل الحكومة المقترحة، وتحدد كلمة الإسلامية مضمونها… تعني الجمهورية الإسلامية الحكومة التي يُنتخب رئيسها من قبل الجماهير لفترة مؤقتة، وتقوم على أساس الإسلام”.
ولاية الفقيه لا تعني أن يكون الفقيه على رأس الحكومة وأن يحكم عملياً. بل إن دور الفقيه في الدولة الإسلامية، أي الدولة التي يقبل شعبها بالإسلام كإيديولوجية، ويلتزم به، أشبه بدور المفكر منه بدور الحاكم.

هذا فضلاً عن أن الناس هم الذين ينتخبون الفقيه وأن وظيفة الفقيه كمفكر هي الإشراف على التنفيذ الصحيح والسليم للاستراتيجية المتبناة، والإشراف على رئيس الحكومة الذي ينفذ السياسة الإسلامية.

… كذلك فإنّ ولاية الفقيه هي نوع من الولاية الإيديولوجية، والفقيه، أساساً، منتخب من الناس.
لقد أدى تشكيل مجلس دراسة وإعداد الدستور في سنة 1979 في ايران إلى طرح نظريتي ولاية الفقهاء التعيينية وولاية الفقيه الانتخابية بصورة متصادمة.

لم يكن تصوّر شعبنا آنذاك -أيام المشروطة – أن ولاية الفقيه توجب أن تكون السلطة وقيادة الدولة بيد الفقهاء، ذلك لأنه على مدى القرون السالفة كان الحاكم السياسي المؤهل لترجمة القوانين الإسلامية وتطبيقها في المجتمع الإسلامي، لابدّ أن يحظى بإقرار وتأييد الولي الفقيه دون أن يحلّ هذا الأخير مكانه.

ومع إمكان القول بميل الدستور إلى نظرية الولاية الانتخابية للفقيه، فإن الاختلاف بين النظريتين لم يحظ باهتمام كبير في ذلك الزمان. ولكن تلك الاختلافات دفعت عدداً من الفقهاء إلى توضيح الأسس الفقهية لنظام الجمهورية الاسلامية.

وقد شرح آية الله الشيخ جعفر السبحاني مقدمات هذه النظرية في كتابه معالم الحكومة الإسلامية الصادر في سنة 1982م، حيث يقول:
“الحكومة في زمان حضور الإمام المنصوص عليه من الله، حكومة إلهية خالصة، وفي زمان عدم إمكان الوصول إلى مركّبة من الحاكمية الإلهية والسيادة الشعبية.

“وهي إلهية بسبب أنّ التشريع بالأصل حق الله سبحانه وتعالى، وعلى الأمة عند الانتخاب أن تراعي كافة الشروط والقواعد الإسلامية. وعلى الحاكم الإسلامي أيضاً أن يطبق الشريعة الإسلامية حرفاً فحرفاً. ولذلك فإن الحكومة التي تستحق أن تعتبر إلهية هي التي تسهر على تطبيق الشريعة. ولكن الحكومة هذه ذات وجه شعبي أيضاً من حيث إن الناس هم من يقوم بانتخاب الحاكم وعليه فولاية الحاكم عليهم حائزة على رضاهم”.

عليه يمكن تلخيص المقصود من ولاية الفقيه في أمرين:

* إذا قام الفقيه بتشكيل الحكومة فيجب على الناس إطاعته.
* إذا قام الناس بتشكيل الحكومة حسب القواعد الإسلامية فإنّ على الفقيه أن يراقب سيرة الحكومة ويتدخل لتصحيح أي انحراف.
وبما أنّ الحكومة الإسلامية هي حكومة القانون الإلهي على الناس، يجب على الحاكم أن يكون عالماً بالقوانين الإسلامية. ولكن لا يجب أن يتصدى الفقيه بنفسه لإدارة المجتمع، اذ يمكن أن يقوم شخص آخر بالوكالة عنه ورضاه، وعلى هذا، بطبيعة الحال أن يكون ملمّاً بالقوانين الإسلامية (ولو من طريق التقليد)، وأن يحوز على صفات الحكم الأخرى.

ويعتبر كتاب آية الله الشيخ نعمة الله الصالحي النجف آبادي ولاية الفقيه حكومة الصالحين من جملة المحاولات الأولى في شرح هذه النظرية باللغة الفارسية. وهو يشير في هذا الكتاب إلى الفرق الأساسي بين ولاية الفقيه بالمعنى الإنشائي (ولاية الفقيه الانتخابية)، وبين ولاية الفقيه بالمعنى الإخباري (ولاية الفقيه التعيينية)، فيقول:

“ولاية الفقيه بالمعنى الإخباري تعني أنّ للفقهاء حق الولاية والحاكمية على الناس من جانب الشارع، سواء رضي الناس أم لم يرضوا، وأنّ الناس أساساً لا يملكون حق انتخاب القائد السياسي، ولكن ولاية الفقيه بالمفهوم الإنشائي تعني أنّ الناس يجب عليهم انتخاب أحد الفقهاء الواعين الجديرين ويجعلوه ولياً وحاكماً”.

ومع أن الفقهاء العدول يملكون في المبدأ صلاحية الولاية، إلا أن الفقيه المنتخب هو وحده من يملك حق التصرف في الأعمال العامة. وهذه الولاية نتيجة اتفاق بين الطرفين: الناس والولي الفقيه، حيث يعقد الناس صيغة الإيجاب ويعقد الفقيه صيغة القبول. ولكن الفقيه يلتزم في المقابل بأن يعمل حسب الموازين الإسلامية، وفي حال التقصير يقوم الناس بعزله عن الولاية بواسطة الخبراء، وهكذا تتحدد ولاية الفقيه المنتخب على الناس باعتبارهم من انتخبه.

ويعتبر كتاب دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، الذي وضعه آية الله حسين علي المنتظري، وجمع فيه ثمرة تدريسه نظرية ولاية الفقيه الإسلامية الفقهية طوال ست سنوات في الحوزة العلمية في قم، وثمرة بحوثه الفقهية الاستدلالية حول هذا الموضوع، يعتبر أوسع دراسة فقهية شيعية منشورة على صعيد الحكومة الإسلامية.

يمكن تلخيص أركان نظرية ولاية الفقيه الانتخابية المحدودة كالتالي:

1- توفر شروط الفقه في الحاكم الإسلامي.

2- استيفاء الحاكم الإسلامي شرط الانتخاب من الشعب.

3- تحديد صلاحيات الحاكم الإسلامي بالدستور.

وفيما يلي شرح لأصول نظرية ولاية الفقيه الانتخابية المحدودة:

الركن الأول: توفر الفقاهة في الحاكم الإسلامي

1- لا ولاية لأي إنسان على آخر، إلا إذا نصبه الولي المطلق (الله تعالى)، على الناس، أو انتخبه الناس في إطار التعليمات والشروط الموضوعة من قبل الله. والناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم وشؤونهم في إطار الشريعة المقدسة، وأي تصرف في شؤون وأموال الناس بدون رضاهم يعتبر ظلماً وتعدياً عليهم.

2- نصب الله النبي (ص) للولاية على الأمة، ونصب النبي أئمة الهدى للولاية من قبل الله.

3- الحكومة ضرورة اجتماعية في كل العصور.

4- لا يمكن تنفيذ قسم كبير من الأحكام الإسلامية بدون إقامة الحكومة. ومع ارتباط الأحكام الإسلامية بالحكومة، فإنّ إسقاط الحكومة يؤدي إلى إسقاط قسم مهم من أحكام الشريعة. والإسلام يهتم بجميع الحاجات الفردية والاجتماعية للإنسان في جميع مراحل الحياة العائلية والسياسية والاقتصادية والقانونية والعلاقات الدولية. وقد شرعت التعليمات الإسلامية على أساس وجود الحكومة الصالحة.

5- المجتمع الإسلامي مخاطب بتطبيق الشريعة الإسلامية، والحاكم الإسلامي، باعتباره ممثل المجتمع، مكلف بتنفيذها، وبعبارة أخرى الحكومة مكلفة بتطبيق الأحكام العامة.
6- المراد من الولاية في هذه النظرية وفي كل مباحث الحقوق العامة، الحقوق الأساسية والسلطة والإمارة، أي تلك المعاني الواردة في النصوص السياسية مثل وصية الإمام أمير المؤمنين (ع) إلى مالك الأشتر.

7- تختلف الحكومة الإسلامية عن سائر الحكومات في أمرين:
أ- الالتزام بالقوانين الإسلامية المستنبطة من الكتاب والسنة، ولا يحق للحكومة أن تنحرف عن الموازين الإسلامية ولو قيد أنملة. وعلى هذا فإن الحكومة محدودة بالقوانين والموازين الإسلامية.
ب- يشترط في الحاكم الإسلامي شروط خاصة، ولا شرعية لمن يفقدها.

8- يجب أن تتوفر في الحاكم الإسلامي، في عصر غيبة المعصوم، بحكم العقل والكتاب والسنّة، ثمانية شروط، هي:
أ- العقل الكامل، ب- الإسلام والإيمان، ج- العدالة، د- الفقه والعلم الاجتهادي بالأحكام الإسلامية، بل الأعلمية (وهذا أهم شرط)، ه‍- التدبير والإدارة، و- ألا يكون بخيلاً أو حريصاً أو طماعاً، ز- الرجولة، ح- طهارة المولد أما رئيس الحكومة الإسلامية فهو فرد واحد لا مجلس شورى (وبعبارة أخرى رئيس الحكومة الإسلامية فقيه واجد للشرائط وليس شورى القيادة).

الركن الثاني: في انتخاب الحاكم

1- عندما يُنصِّب الشارع المقدس شخصاً بالذات للولاية على الأمة والحاكمية على الناس، فإنّه يتعيّن للإمامة، ومع وجود شخص كهذا وتمكّنه من إقامة الحكومة، لا تنعقد الإمامة لغيره. وفي غير هذه الحالة فإنّ حق تحديد المصير السياسي وانتخاب حاكم من بين الجامعين للشرائط يعهد إلى الأمة؛ ومن هنا وبسبب عدم جود نصب خاص لأحد في عصر غيبة المعصوم (ع) فإن الحكومة الإسلامية في عصر الغيبة انتخابية.

2- يستحيل النَّصب العام لكل الفقهاء أو واحد منهم، من قبل الشارع، للولاية السياسية على الأمة، وإنّ كل الأدلة النقلية التي يوردها البعض تعجز عن إثبات النصب العام للفقهاء للولاية. إلى هذا فإنّ أهم الروايات الواردة، كمقبولة عمر بن حنظلة ومشهورة أبي خديجة، تثبت فقط منصب القضاء للفقهاء، وبما أن بعض الروايات، مثل التوقيع (توقيع صاحب الزمان)، تتعرض لبيان منصب الإفتاء، فإنّهم أقاموا الأدلة العقلية والأدلة المركبة من العقل والنقل، على اختصاص الحكومة الإسلامية بالنصب، ولكن مع الانتخاب فإنّ الاستدلال بها يبطل.
وإذ لا يمكن الاستفادة من الأدلة الروائية المستدل بها سوى لاستخلاص الشروط المعتبرة في الحاكم الإسلامي، فإنّ الطريق الوحيد للحكومة الإسلامية في عصر الغيبة هو انتخاب الفقيه العادل من قبل الناس.

3- يجب على الفقهاء، وجوباً كفائياً، أن يُعدوا أنفسهم للتصدي للحكومة ويجب على الناس أن ينتخبوا مرشحهم.

4- في حال عدم وجود شخص جامع للشرائط، يجب الالتزام بشروط العقل والإسلام والتدبر والعدالة قدر الإمكان لأنه لا يجوز إلغاء الحكومة من الأساس. ويمكن القول بالتفضيل عند تزاحم الشرائط، ومن بينها التزاحم بين الفقه والتدبير السياسي، فعند الاحتياج إلى التشريع يقدم الفقيه، وعند الاحتياج إلى التدبير والخبرة يقدم المؤمن المدبّر. وعلى أي حال فإنّ مسؤولية تحديد الأولويات ودراسة الظروف الزمانية والمكانية، والعمل بقاعدة الأهم فالأهم تقع على عاتق مجلس الخبراء المنتخب من الشعب.

5- في حال وجود شخص واحد جامع للشرائط، يجب عليه قبول الولاية والحاكمية على الناس، مع ضرورة تحصيله لرضاهم. وفي حال تعدد المؤهلين للرئاسة ينتخب أحدهم بواسطة الشعب.

6- أقر الشارع مبدأ انتخاب الشخص المؤهل، ولكنه فوّض إلى العقلاء بيان شكل الحكومة وطريقة الانتخاب وشروط المنتخبين، وكيفية تنفيذ ذلك. وذلك لأنّ هذه الأمور تختلف حسب الظروف، ولا نصّ على اعتماد الكمية العددية ولا كيفية الانتخاب، أو أن يكون الانتخاب مباشراً أو على مرحلتين. أو أن ينتخب الشعب الخبراء في مرحلة أولى وأن ينتخب الخبراء الحاكم الإسلامي في مرحلة ثانية، مما يدل على إيكال كل هذه التفاصيل إلى العقلاء. ولطالما اهتم العقلاء، في حالات عدم توفر وعي شعبي سياسي، بالتركيز على كيفية التصويت حتى يهيئوا الظروف لأخذ الرأي العام على أساس الكم بسلامة.

وفي عصرنا هذا يشتد الاتجاه نحو الانتخابات المرحلية من أجل سلامة عملية الانتخاب. ويمكن الرجوع في الأمور غير المنصوص عليها إلى العقلاء، ولابدّ، في أي حال، من حفظ حقوق الأقلية. ولا يجوز للأكثرية التعدي على حقوق الأقلية وممارسة القوة عليها. ولا يعتبر تقدم رأي الأكثرية على رأي الأقلية تقدماً واقعياً وإنما هو من أجل حفظ النظام الاجتماعي العام.

7- في عملية انتخاب الحاكم الإسلامي، يحق للنساء، كما الرجال، المشاركة في تقرير المصير السياسي.

8- لا يجوز الامتناع عن المشاركة في انتخاب الرئاسة، وفي حال عدم المشاركة من أكثرية الناس يعتبر رأي الأقلية نافذاً. كما يحق للفقيه، من باب الحسبة، أن يتصدى لأداء مسؤولياته وإن لم يشترك عامة الناس في الانتخابات.

9- البيعة وسيلة إنشاء الولاية، بعد التفاوض والرضا، وذلك بمعنى أنّ البيعة تتم بعد الحوار بين الفقيه والشعب ورضا الطرفين وتأكدهم من توفر الشروط اللازمة (في إطار الشرع)، ويقوم النسا بمبايعة الشخص المؤهل ويقبلون حكمه. ومع البيعة تتحقق الولاية إجمالاً، (البيعة مع المعصومين تعني تأكيد النصب الإلهي لهم).

10- شرعية الحكومة في عصر الغيبة تستند إلى الشعب في إطار الشرع. وتعتبر الحكومة معاهدة بين طرفين: الحاكم والشعب، وهي مؤيدة من الشارع. والحكومة الإسلامية اتفاقية شرعية بين الأمة والحاكم المنتخب، والانتخاب قسم من أقسام الوكالة بالمعنى الأعم، (تفويض الأمر للآخرين).

إنّ الوكالة بالمعنى الأعم تشتمل على ثلاثة أقسام:

أ- الإذن للغير، والوكالة بهذا المعنى لا تعتبر عقداً.

ب- استنابة الغير، بمعنى تنزيل النائب بمنزلة المنوب عنه، واعتبار عمله كعمل المنوب عنه (وهذه هي الوكالة بالمعنى الأخص في الاصطلاح الفقهي)، والوكالة بهذا المعنى عقد جائز.

ج- إحداث ولاية وسلطة مستقلة للغير مع قبوله ذلك، والوكالة بهذا المعنى عقد لازم، والمراد من الانتخاب في هذه النظرية المعنى الثالث. ولا عقد خاصاً مألوفاً في العناوين الفقهية، يقره الشارع. والبيعة هي إنشاء قبول الولاية بعد العقد والمعاهدة.

الركن الثالث: تقييد صلاحيات الحاكم المنتخب بالدستور
1-يمكن أن ينطوي الانتخاب، باعتباره عقداً لازماً، على شروط، وللحاكم والشعب أن يُقيدا الحكومة برعاية أمور مثل الدستور. وإنّ كل العمليات الانتخابية التي تجري بعد إقرار الدستور، وعلى أساسه، مقيدة مطلقاً بالدستور حتى إذا لم يذكر ذلك، أي إنّ الشعب ينتخب، مباشرة، أو عبر مجلس الخبراء، القائد الذي يلتزم عملياً بالدستور ولا ينحرف عنه.

2- يمكن تحديد مدة رئاسة الحاكم الإسلامي الفقيه بعشر سنوات مثلاً، وتضمين ذلك شرطاً في العقد (الدستور). وإذا كان الانتخاب مؤقتاً فإنّ ولايته تنتهي بانتهاء مدة العقد.

3- لا يمكن عزل الحاكم الإسلامي إلا في حالتين:

أ- فقده لأحد الشروط الثمانية المعتبرة.
ب- مخالفته لوعوده (المذكورة في الدستور كشروط ضمن العقد).
ولا يؤدي صدور بعض الأخطاء الجزئية والمعاصي البسيطة إلى عزل الحاكم، مع محافظته على الموازين الإسلامية في الحكم. وتجوز معارضته مع خروج الحكومة عن الإطار الإسلامي، مع مراعاة شروط التدرج في النهي عن المنكر، بل تجب.

4- الحاكم الإسلامي والحكومة يتصدون لأمور المجتمع العامة، ولكن الناس أحرار في أسلوب حياتهم الخاصة والشخصية وغير العامة، ولهم حق الانتخاب، ولا يجوز فرض أسلوب خاص عليهم. وتقوم الحكومة في حالات كهذه بعرض الخطوط الإسلامية العامة، وتلتزم بالتربية والتعليم والهداية لعامة الناس، وتوفر الإمكانات الضرورية لاستفادة الناس، في إطار الشرع، من وسائل التربية والتعليم.

5- يقوم أساس الدولة الإسلامية على الشورى وتبادل الآراء واجتناب الاستبداد في الرأي والديكتاتورية. مع أنّ الحاكم هو المسؤول بعد استشارة الخبراء، فإنّ الحُكم الفصل لرأيه ولا يلزمُه اتباع الأكثرية. ولكن يجوز في الدستور (باعتباره شرطاً ضمن العقد)، تحديد صلاحيات الحاكم، وعلى الحاكم الالتزام بتلك الحدود القانونية.

6- يقوم الفقيه المنتخب في الحكومة الإسلامية بالإشراف على السلطات الثلاث، وتقوم هذه بممارسة مهامها تحت إشرافه. وينتخب الشعب رئيس الجمهورية ونواب مجلس الشورى بصورة مباشرة. أما رئيس السلطة القضائية فينتخب من بين الفقهاء الذين يرشحهم الحاكم بواسطة نواب الشعب أو الخبراء. وهكذا يتم الفصل النسبي بين السلطات في صورة التزام الحاكم بذلك، كما هو مقرر في الدستور.

7- الحاكم الإسلامي (الفقيه المنتخب مسؤول أمام الخبراء المنتخبين من الشعب. وللخبراء الحق في سؤاله واستيضاحه وعزله ونصبه حسب الشروط الخاصة (الواردة في الدستور، كشروط ضمن العقد).

8- مع أنّ القضاء واستنباط الأحكام من المنابع الشرعية، من اختصاص المجتهدين -مع ذلك تمكن المشاركة العامة في ذلك، مع مراعاة كافة الشروط الشرعية الدقيقة، على أن تُرسم البرامج الكبرى للدولة الإسلامية بواسطة خبراء الشعب تحت إشراف الحاكم الإسلامي.

9- في حال تعذر إقامة الوحدة السياسية الإسلامية الكبرى، يجوز تعدد الدول الإسلامية. وللحاكم الإسلامي أن ينفذ ولايته في جميع الشؤون السياسية على الأفراد الذين انتخبوه في إطار القوانين الإسلامية وقرارات البرلمان.

إلى هذا فمن المفيد الالتفات إلى النقاط التالية في نظرية ولاية الفقهاء الانتخابية المحدودة:

1- تقوم هذه النظرية على ولاية الفقيه وليس ولاية الفقهاء، (خلافاً للنظريات التعيينية الأربع التي تركز على ولاية الفقهاء وليس ولاية الفقيه).

2- مع أنّ النظريات الثلاث القائمة على ولاية الفقهاء التعيينية تلحظ التعرّف إلى تعيين فقيه واحد من بين الفقهاء المتعددين، إلاّ أنّ التعيين هذا يختلف بصورة كاملة عن الانتخاب، إذ إنّ هذا التعيين لا يقوم على حق الناس، بل يمكن أن يتم بواسطة القرعة، أما الانتخاب فإنه يقوم على الاعتراف بشرعية حقوق الناس ولوازمهم.

3- تتجاوز هذه النظرية في ما تعطيه للناس من دور في إيصال الحاكم إلى السدّة الأولى ما تعطيه لهم نظريتا الصدر والنائيني. فالمرجعية، في نظرية الصدر (باعتبارها استمراراً لخط الشهادة) تشرف على ممارسة الشعب للخلافة، ولكن المرجع لا ينتخب بواسطة الناس، (التعيين غير الانتخاب).

4- يشكل الالتزام بالدستور بصفته شرطاً ضمن العقد (ومعاهدة لازمة بين الحاكم والشعب) منعطفاً كبيراً في هذه النظرية. وبناء على أن شكل الحكومة وكيفية الانتخاب وإدارة المجتمع أمور عقلية تتغير بتغير الظروف الزمانية والمكانية، وعلى أنه لا تحول دون الاستفادة في الدستور من التجارب الإنسانية في إدارة البلاد، (بشرط عدم التناقض مع الشرع)، فهذه النظرية تصلح لإدارة المجتمع المدني مع مراعاة الحدود الإسلامية.

5- تتحقق صفة الإسلامية للحكومة بمراعاتها للشروط المعتبرة في الحاكم الإسلامي وخصوصاً الفقه، والالتزام الدقيق بالأحكام والموازين الإسلامية في المجتمع.

وتتحقق صفة الجمهورية للحكومة باحترام الحقوق العامة، وخصوصاً حق المشاركة الجماهيرية الفاعلة، على أعلى المستويات، والالتزام بالدستور وتحديد صلاحيات الفقيه المنتخب في إطار القانون، وتوقيت دورة حكمه، وكذلك مسؤوليته أمام الخبراء المنتخبين من الشعب.


* المصدر : نظريات الحكم في الفقه الشيعي