قد يكون عنوان هذا المقال إستفزازيا وهذا في الحقيقة الغرض منه. ولكنه إستفزاز إيجابي يراد به إيضاح الحقائق ووضع النقط على الحروف. فعلى عكس الإدارة الأمركية التي تشرع قوانين لمعاقبة دول أجنبية لا لشيء إلا لأن سياسات هاته الدول لا تروق لحكام واشنطن على غرار “قانون محاسبة سوريا” والتي ترمي في نهاية الأمر إلى التضييق التدريجي على أنظمة هذه الدول بغية إسقاطها واستبدالها بأخرى تكون في خدمتها فإنه يحق للشعب التونسي ممثلا في معارضته الوطنية أن يطالب بمحاسبة المسؤولين عن الجرائم المتعددة التي اقترفت وما زالت تقترف بحقه والتي ما فتأت تتراكم يوما بعد يوم.

فالمعارضة التونسية دائما ما تنتقد النظام الحاكم وجرائمه بحق تونس وشعبها ولكن غالبا ما تبقى هذه الإنتقادات “مهذبة” تكتفي بعبارات عامة ولا تطالب إلا بالحد الأدنى ألا وهو إطلاق سراح المساجين السياسيين وإيقاف التعذيب وغير ذلك من المطالب السياسية المشروعة دون الخوض في جزء مهم من القضية إن لم يكن الأهم ألا وهو تحديد الجناة بأسمائهم والمطالبة بمحاسبتهم.

هنا نصل إلى لب الموضوع، فالجنرال بن علي زعيم العصابة الحاكمة في تونس يتحمل القدر الأكبر من المسؤولية عن الجرائم التي ارتكبت بحق العديد من التونسيين كأفراد بما فيها السجن والتعذيب والقتل وتشريد العائلات علاوة على الجرائم التي ارتكبت في حق الوطن والأمة ككل وهي أشد وأعظم.

ففي تونس الآلاف من الأشخاص والعائلات التي انتهكت حقوقها وكرامتها وتعرضت للتشريد والتنكيل بأمر شخصي من المجرم بن علي. وهناك العشرات من الأرواح التي أزهقت وفاضت إلى بارئها تحت التعذيب أو نتيجة له وهناك المئات من المواطنين الذين دمرت حياتهم إلى الأبد بعد خروجهم من السجون والمعتقلات بعاهات مستديمة جسدية أو نفسية تمنعهم من العيش طبيعيا كسائر المخلوقات.

أما جرائم هذا النظام ورئيسه بحق الوطن والأمة فهي الأعمق أثرا والتي سيعاني منها المجتمع لعدة أجيال قادمة فالتغريب القاسي الذي تعرض له الشعب التونسي على يده وصل إلى حدود لم يكن حتى الإستعمار المباشريحلم بتحقيقها.
فتحت ستار التفتح والمعاصرة وقعت محاربة الدين الإسلامي والهوية العربية اللذين يمثلان ركائز الهوية الوطنية بشراسة قل نظيرها وصلت إلى حد ملاحقة أبسط مظاهر التدين مثل إرتداء الحجاب أو الإلتحاء أو حتى إرتداد المساجد لصلاة الصبح.

لقد بلغ “الإجتهاد” في محاربة الدين والهوية مرتبة التدمير المنظم لكل النظم القيمية التي يرتكز عليها المجتع والتي تضمن توازنه ووحدته والسلم الإجتماعي بين أفراده مثل قرارات تدريس التوراة والإنجيل في المدارس التونسية والترويج لنظرية نسبية الحقائق الدينية وتعددية الهوية التونسية (كان الأحرى به تسميتها بالهوية اللقيطة ما دامت هذه هي غايته). هذا عدا القوانين الإجتماعية التي تشجع على الزنا والعلاقات الحرة بين الرجل والمرأة. فلا غرابة اليوم إن أصبحت تونس الأولى عربيا في معدلات الإنتحار والعنوسة وتأخر سن الزواح وشيخوخة المجتمع وقلة خصوبة المرأة والدعارة والأمهات العازبات والأطفال غير الشرعيين وشتى الموبقات التي يطول سردها.

إن هذا التدمير للقيم التي يرتكز عليها مجتمعنا هي أعظم جرائم هذا النظام. فالمناعة الفكرية هي ستار الدفاع الأول للشعوب وهي التي تضمن وحدتها وتحقق تقدمها. فالشعوب التي لا تعتز بتاريخها وثقافتها وقيمها لا تقاوم المستعمرين وهي مفتوحة لكل من هب ودب لكي يكيفها ويستغلها على هواه.

إن المصالحة الوطنية الحقيقية لا يمكن أن تتم على حساب الضحايا وعلى حساب الحقيقة. وهنا لا مفر من تعيين الجناة وأولهم المجرم بن علي وزبانيته في المؤسسة الأمنية وعلى رأسهم المدعو القنزوعي وكذلك كل السراق وقطاع الطرق من عائلات العصابة الحاكمة الذين نهبوا الإقتصاد الوطني وحولوه إلى ملكية خاصة يتقاسومنها بينهم ويتصرفون فيها على هواهم.

يجب أن يعلم بن علي وحاشيته أن محاسبتهم مسألة وقت فقط وأن الشعب التونسي لم ولن ينسى الجرائم التي اقترفوها بحقه وأن العدالة سوف تقول كلمتها فيهم في يوم من الأيام فالمصالحة الوطنية الحقيقية لا يمكن أن تتم إلا بعد إنصاف الضحايا وإعطاء كل ذي حق حقه. عندها فقط سوف يمكن طي صفحة الماضي والتطلع نحو المستقبل المشرق المرتكز على ديننا وهويتنا العربية الإسلامية وتاريخنا المجيد.

إن شعبنا العظيم الذي فتح صقلية وأنشأ الجامعة الزيتونية وأنجب نخبة من خيرة العلماء والمفكرين العرب لهو قادراليوم أيضا على تجاوز هذه الفترة المظلمة من تاريخه وما ذلك على الله بعزيز.