بقلم محمد زريق

بسم الله الرحمان الرحيم

تتالت في الأوانة الأخيرة العديد من المقالات حول موضوع الإصلاح والمصالحة، وكانت جل الأقلام التي أسالت الحبر في هذه المقالات تمسكها أيادي أبناء الحركة الإسلامية، ومما يثلج الصدر أن جل هذه المقالات اتسمت بالجدية وسادتها روح الأخلاق الإسلامية السمحة رغم ما شاب بعضها من تجاوزات طفيفة لم تنقص من مصداقية كاتبيها.

واللافت للنظر هو كثرة عدد المشاركين من حركة النهضة وتنوع أطروحاتهم وزوايا نظرهم وهذا أمر قل أن نجده في حركات سياسية أخرى إسلامية وغير إسلامية، وهذا الحوار الدائر إن دل على شيء فهو يدل على تأصل قاعدة الرأي والرأي الآخر داخل الحركة، وهذا ليس بالجديد في واقعها حيث شهدت منذ تأسيسها وخلال مراحل تطورها مثل هذه الحركية الحوارية على امتداد قواعدها وداخل مؤسساتها، غير أن الجديد هذه المرة هو خروج هذا الحوار إلى الساحة الإعلامية، ولا ضير في ذالك ما دام الكل يحترم أخلاق الحوار ويستطيع التمييز بين مشمولات المساحات العامة ومشمولات مؤسسات الحركة. ولكل ذلك فإني أطمئن أعداء الحركة قبل أصدقائها على أن هذا الحوار الدائر لن يفت في عضد الحركة ولن يمزق صفها ولن يزيدها إلا وحدة وإصرارا على الحق.

لقد تمحورت النقاشات حول الإصلاح والمصالحة في تونس، فذهب البعض إلى اختزال مضمون المصالحة في إطلاق سراح المساجين، وذهب البعض إلى أن المصالحة تكمن في تسوية ملف الحركة حقوقيا وسياسيا وفك الشتباك بينها وبين النظام، في حين ذهب البعض الآخر إلى التركيز على المصالحة الوطنية الشاملة.

وفي الحديث حول العوائق التي تحول دون تحقيق هذه المصالحة بمستوياتها الثلاثة حمل بعض الإخوة كامل المسؤولية على قيادة الحركة وصوروها على أنها متعنتة ومتصلبة ولا تجيد فقه الموازنات ولا فن المناورات ومتسلطة لا تأخذ برأي قواعدها. أن هذا التشخيص للواقع القيادي للحركة مجانب للحقيقة و متجن على الواقع، فرغم الحصار الذي عاشته الحركة في الداخل والتشتت الجغرافي الذي تعيشه في الخارج استطاعت أن ترسي وأن تحافظ على قدر جيد من الممارسة الديمقراطية داخلها، وأريد أن أذكر هنا، أن هذه القيادة بمحاسنها ومساوئها لم تعين بالتزكية ولا بالتصعيد وإنما أنتخبت في مؤتمرات شرعية وقانونية وفي بعض الأحيان بنسب لا نجدها إلا في الديمقراطيات الراقية أي بنسبة لا تفوق الخمسين إلا بقليل.

إن الحركة قيادة وقاعدة حققت خطوات شاسعة في التقدم الفكري والسياسي جعلها محطا لأنظار السياسيين والباحثين على السواء، ليس في بلداننا العربية الإسلامية فحسب وإنما في العالم قاطبة، غير أن هذا الإنجاز لا يجب أن يغفلنا عن استمرار وجود رواسب من موروثنا الثقافي الأنحطاطي مازالت آثاره تلون بعضا من ممارساتنا، قيادة وقاعدة، وأحسب أن هذا التأثير لن يزول بسحر ساحر وإنما هي المجاهدة الفكرية والتربوية المتأصلة والمتواصلة.

لقد بذلت الحركة ما في وسعها لتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة والمصالحات الجزئية كخطوات مرحلية، فاتصلت مباشرة، وبعثت بالوسطاء، وعدلت الخطاب، وقامت بالنقد الذاتي، وابدت استعدادها لطي صفحة الماضي رغم ما لحقها فيه من أذى، ولقد قامت القيادة على هذه المبادرات في جو من الهدوء والكتمان لضمان نجاحها، غير أن كل هذه المبادرات قد باءت بالفشل. والمتتبع لحيثيات هذه المبادرات يلاحظ تجاوبا أوليا من طرف رئيس الدولة، وتفطع أشواط فيها، وفي انتظار التنفيذ تتعطل المبادرات وتذهب الجهود سدى، فما هي الأسباب الحقيقية لهذا الفشل ومن يقف وراءه؟

إن تحقيق المصالحة يحتاج إلى عاملين أساسيين وهما القدرة والإرادة، أي موازين القوى والمصلحة، وليس للنوايا الحسنة والكلمة الطيبة موقع أساسي في مثل هذا المجال. فإذا كانت للحركة ولكل الشعب مصلحة واضحة في المصالحة، إلا أنها لا تملك القدرة على تحقيقها، لأن ميزان القوى الحالي لغير صالحها، أما النظام وبدون أدنى شك فيملك القدرة على تحقيق المصالحة لأن الامر بين يديه وميزان القوى لصالحه، فما يمنعه إذا عن ذالك إلا غياب الإرادة في ذلك، أي عدم تقدير وجود مصلحة له في المصالحة، فمن يا ترى يملك هذا التقدير داخل النظام ولماذا؟

لقد عمل الرئيس بن علي منذ توليه الحكم على إحاطته بفرق عمل متعددة لإعانته على تثبيت موقعه على رأس الدولة وإدارة شؤون البلاد، وعلى اعتبار أن رئيس الدولة ليس صاحب مشروع مجتمعي محدد ولا يملك خيارات فكرية معينة لم تكن له شروط صارمة في استيعاب كوادر تلك الفرق سوى الولاء لشخصه ودعمه في الحفاظ على موقعه، وكان من الطبيعي أن ينتهز الفرصة كل متزلف وانتهازي، للتسلق إلى أعلى هرم السلطة ليحقق بالقفز ما عجز عنه بالزحف. وكانت من نتائج تلك السياسة أن تكونت حول الرآسة ثلاث دوائر شر، إستأثرت كل دائرة منها بمجال، تفعل فيه فعلها بمعاول الهدم والتخريب، فصحرت البلاد وهتكت الأعرض وكونت لنفسها مصالح مناقضة لمصالح الشعب في الحرية والكرامة واسترجاع الهوية المسلوبة. وتتمثل هذه الدوائر في:

  • الدائرة الأولى: اليسار الإنتهازي الإقصائي الذي يسطر على الجهاز الإستشاري والعديد من مفاصل الدولة، فبعد يأسها من إرساء مشروعها الذي طالما حلمت به ورأته يهوي في مواقع نشأته فضلا عن أن يرى النور في أرض غير أرضه، عملت هذه الزمرة بمقولة “علي وعلى أعدائي” واتبعت سياسة الثأر من الإسلام والإسلاميين فشوهت الهوية ونشرت الفساد والإنحلال وجففت منابع التدين. والذي يجب أن ننوه به ونحمد الله عليه أنه لم ينجر وراء هذا التوجه الأنتهازي الكثير من اليسار، فحافظ الكثير منهم على وطنيتهم بل منهم من تصالح مع هويته.
  • الدائرة الثانية: السماسرة والنفعيين وقطاع الطرق الذين استغلوا قرابتهم من المحيط العائلي لرئيس الدولة ليستولوا على خيرات البلاد ويعيثوا في اقتصادها وأموالها فسادا.
  • الدائرة الثالثة: الجلادون ومصاصوا الدماء الذين شلوا البلاد وروعوا العباد فلم تكن لهم من مهمة سوى نهش لحوم البشر وهتك أعراضهم وتجويعهم وقتلهم بالموت البطئ، ولم يسلم من هؤلاء لا الإسلامي ولا العلماني ولا المواطن العادي.

ففي حين كان رئيس الدولة يبحث في هذه الدوائر الثلاث عن الدعم والمساندة، يظهر الآن أنها أصبحت تمثل عبئا ثقيلا عليه وعائقا حتى على إحداث هامش من المناورة لتحقيق ما يلائم موجة الحرية التي يلهث وراءها شعبنا طوال العهدين، القديم والجديد، والتي بدأت تنفخ فيها الآن رياح القوى المهيمنة على العالم، بدأت آثارها تظهر في محيط بلادنا القريب ( ليبيا، الجزائر، المغرب، الكويت، السعودية …..) ولن تكون بلادنا في منئا عن ذلك، فأصبح لزاما على رئيس الدولة، لتثبيت وجوده واستمراره في الحكم، أن يتأقلم مع المطالب الشعبية في الحرية والديمقراطية، وما يمنعه عن ذلك إلا قوى الجذب إلى الوراء متمثلة في تلك الدوائر الثلاث.

لذا فإن دعوتي لكل إخواني الذين يريدون أن يكونوا روادا للإصلاح والمصالحة أن يتجهوا إلى أصل الداء ويطالبوا من بيده الأمر بإزالته والإبتعاد عن البحث عن كبش الفداء و جلد الذات وهي المشبعة جلدا.

إنه في تقديري لن يكون هناك خروج للمساجين إلا بخروج رئيس الدولة من السجن الذي وضع نفسه فيه، ولن تكون هناك حرية في البلاد إلا إذا تحررت يدا رئيس الدولة من القيود التي أحكمت رباطها حوله تلك الدوائر الثلاث المشؤومة، ولن يكون هناك للمصالحةإمكان للتحقيق إلا إذا أخمدت تلك الأفواه التي مازالت تنبعث منها رائحة المقابر، تلك الأصوات الخشبية التي تنم عن فكر محنط، والتي سمعناها، غير بعيد، تردد أن الملف الإسلامي محسوم ولا رجعة إلى الوراء ولا حزب على أساس ديني، وكأن الحركة قد طرحت نفسها كحزب ديني، ثم تتستر هذه الاصوات وراء إجماع وطني ولا ندري عن أي إجماع تتحدث إلا أن تختزل الوطن في أمثالها من الوصوليين و الإقصائيين.

إذا استطاع رئيس الدولة ومحبيه والمدافعين عنه أن يزيحوا هذه الدوائر التي تمثل الماضي، وذلك بكف أيديها وإخماد صوتها، فإن ذلك سيكون مؤشرا على تطور حقيقي في اتجاه تفكيك كل الملفات، بدأ بإطلاق سراح المساجين والعفو التشريعي العام وتحقيق المصالحة الوطنية الشاملة في جو من الحرية والديمقراطية تحفظ فيه حقوق الجميع وتغلق فيه أبواب الماضي بعيوبه ومآسيه.

محمد زريق

كندا في 20 ماي 2005

الخميس 26 ماي – أيار 2005