بقلم عبد الحميد الحمدي ـ الدنمارك
أخيرا وبعد انتظار طويل غادر مجموعة من سجناء الرأي منازلهم السجنية في خطوة عدها الجميع إيجابية وقالوا بأنها تتطلب خطوات أخرى أكثر جرأة تعيد البسمة لباقي العائلات التونسية المكلومة في فلذات أكبادها. وبهذه المناسبة أقدم تهاني القلبية والحارة لكل من رأى الشمس بعد سنوات الظل الكريهة، وأخص بالذكر أمهات السجناء اللاتي لازلن على قيد الحياة فقد تحققت أمانيهن في معانقة أكبادهن قبل الرحيل إلى الديار الباقية، أقول هذا وأنا لازلت أكتوي بنار الحزن التي أدعو الله أن يعينني على تحمل حرارتها عندما ثكلت في والدتي العزيزة رحمها الله قبل نحو عام أو يزيد من دون أن يمنحني القدر فرصة النظر إليها ولو للمحة واحدة لا قبل زيارة مفرق الجماعات ولا بعدها. مشاعر متضاربة انتابتني وأنا أتابع صورة المهندس حمادي الجبالي وهو يعانق فلذات كبده بعد ما يزيد عن العقد ونصف من الغياب المفروض، فهنيئا له ولعائلته ولرفاقه والدعاء أن يمنح الله الحرية لكل من لازال وراء القضبان.
قرار الإفراج الرئاسي هذا لم يكن مفاجئا للمتابعين للتطورات السياسية والمطالب الحقوقية منها المتسارعة في العالم حتى أن الحديث عن وجود مساجين للرأي في أي بقعة من قريتنا العالمية أصبح وصمة عار في جبين قادة العالم الحر. ومع أنني تابعت كغيري الصور المؤلمة لمساجين العراق في أبو غريب وفي الجادرية وغيرهما من معتقلات العراق، وتألمت أكثر عندما أيقنت بالدليل أن الذي عرى تلك البشاعات اللاإنسانية هو الغرب نفسه في سلطته الرابعة ولم تكشفها سلطاتنا الأولى ولا الثانية ولا الثالثة بل ولا حتى الرابعة إن وجدت.. مع ذلك أعتقد شخصيا أن الرحمة في قلوب المسلمين لم تنزع بعد وأن قيم العفو والتسامح تبقى في قلوبنا جميعا حتى وإن تلبدت سماء سياساتنا العربية بغيوم المصالح السياسية الضيقة، بل وحتى بعقد الإيديولوجيات الاستئصالية البائدة. لهذا لم يكن مفاجئا خروج عشرات الإسلاميين التونسيين والليبيين والجزائريين في سياق ما يمكن الإصطلاح عليه بالعودة للوعي أو صحوة الضمير على ألا تكون نهاية مطاف لحلم إصلاح كبد جيلا كاملا ثمنا باهظا دفعه من زهرة عمره إما سجنا أو نفيا في الأرض، بل تحولا ديمقراطيا يراه هذا الجيل النكد بأعينه لا بأعين أحفاده.
التجربة التونسية في الحكم أو في المعارضة ليس لها مثيل في العالم العربي، ومع الاحترام والتقدير للجميع فإن حصاد التجربة السياسية التونسية بعد ما يقارب العقدين من الصراع الذي حكم العلاقة بين السلطة والإسلاميين لا يكاد ينبئك بخير. صحيح أن السلطة تتحدث عن إنجازات إقتصادية لكن الصحيح أيضا أن المعارضة ولا أستثني منها أحدا تتحدث عن موت للسياسة في تونس، ومع أن السلطة ومعها كثير من الكتاب اليساريين يحملون على الحركة الإسلامية ويتهمونها بعرقلة المسار الديمقراطي وتعطيله لكل هذه السنوات، فإن المتفحص للأمر بإنصاف لا يكاد يعثر على ما يؤكد هذا الانتقاد.
استطاعت التجربة الإسلامية التونسية على حداثة سنها وقلة تجربتها أن تؤسس لطريقة في التعاطي مع الإسلام كمرجعية فكرية وسياسية تقبل بالتعددية وتحترم الخصوصية الفكرية وتجادل بالتي هي أحسن دفاعا عن هوية تونس العربية والإسلامية. وهي تشترك في ذلك مع عدد من علماء الزيتونة كعلامة القيروان الشيخ عبد الرحمن خليف الذي وافته المنية أخيرا وهو ينافح عن الهوية الإسلامية ومعالمها.
يشهد كثير من المتابعين للنظام التونسي بالفطنة والذكاء في التعامل مع المستجدات الدولية وفقا لما تمليه ضوابطه، وربما اعتقد البعض أن حالة الاستقرار التي انعكست إيجابا إلى حد ما على الوضع الإقتصادي إنما هي تجل من تجليات الكفاءة التي تتصف بها الكوادر التونسية. ومع أنني لا أقلل من أهمية هذا المعطى فإنني أضيف إليه البعد الآخر وأعني به فكر الحركة الإسلامية المعتدل الذي جنب البلاد الإنزلاق في متاهات ردود الفعل المتهورة.
لست من المداحين ولا أتقن لغة النفاق والمراوغة لأجل ذلك كتبت سابقا أنتقد نهج الحركة الإسلامية وتعثرها في معالجة بعض الملفات المطروحة على رأسها ملفي السجناء والهياكل التنظيمية، مثلما كتبت عن الإنجازات الاقتصادية المهمة للحكومة التونسية، أكتب اليوم وقسم كبير ليس من أبناء الحركة الإسلامية وحدها بل وأغلب التونسيين يعيشون نشوة اللقاء بعد طول غياب لأسجل ما يلي:
- إن محنة العقدين المنصرمين قد أوقفت الجميع في السلطة والمعارضة حتى لكأن السياسة توقفت مع بداية المواجهة بين الحكومة والاسلاميين، ومنذ ذلك التاريخ لم نعد نسمع عن الديمقراطية والمنافسات السياسية إلا تلك الأخبار المنغصة عن إضرابات الجوع وغيره من التعبيرات الشاذة التي لا تصلح أن تكون دليلا ديمقراطيا.
- لقد اقتنع الجميع وإن بدرجات متفاوتة أن الإقصاء بأساليبه المختلفة ليس أسلوبا سياسيا بالمرة وأن عواقبه وخيمة على الجميع.
- إن المناخ الوطني والدولي الراهن مهيأ لتعزيز خطوات الانفتاح التي اتخذتها الحكومة التونسية باستكمال إفراغ السجون من نزلائها على خلفية انتماءاتهم الفكرية أو السياسية خصوصا أولئك الذين لم يعرف عنهم أنهم روجوا للعنف أو مارسوه كالأمين العام السابق للإتحاد العام التونسي للطلبة المهندس عبد الكريم الهاروني ورفيقه في العمل الطلابي الوريمي العجمي ود. الصادق شورو والشيخ الحبيب اللوز غيرهم من القيادات التي شابت رؤوسها في الإنتقال من سجن إلى آخر من شمال تونس إلى جنوبها.
- لا شك أن إطلاق سراح المساجين خطوة سياسية تستوجب خطوة مماثلة من الحركة الإسلامية تعبر فيها قيادة الحركة بما لا يدع مجالا للشك رغبتها الجادة في الحوار المبني على الاعتراف المتبادل بالأخطاء والحسنات.
- ـ إن خطوة مرجوة من الحركة الإسلامية تستوجب من الناحية السياسية توفير المناخ الملائم لقادة الحركة في الداخل والخارج للمراجعة والمحاسبة وتجاوز الماضي بالجدية اللازمة والتحدي الفروض.
تلك بعض من أفكار لتونسي أحب بلاده وأحب الله ورسوله قبل كل شيء.
مع الدعاء للجميع بالسداد والتوفيق.
iThere are no comments
Add yours