بقلم الآستاذ فتحي نصـري

بسم الله الرحمان الرحيم


بداية اريد أن اسجل تقديري للأخ الهادي بريك على عطائه المتواصل ولأسلوبه في الكتابة ولاتساع علمه ، وما سمعت عنه من اخلاص النية لله ، وما قصدت من الرد شهوة في الكلام ولكن كلمات ارتأيت انها شهادة خالصة لوجه الله

مقالك أخي الكريم جاء كما ذكرت في بدايته بمناسبة عودة ” التبشير ” بقافلة العودة ، ولـــم يسبق مقالك سوى مقال للأخ نور الدين ختروشي حول اعادة طرح الموضوع من جديـــــد ، وحتى لا أخطىء فالمخاطب بحوارك هو صاحب فكرة العودة ، وان كنت مخطئا في تقديري فالاعتذار سابق لما سأطرحه

لا أختلف معك في أغلب الأفكار التي ذكرتها حول مجاهدة الظلم وقيمة الحرية وتمثل حركة النهضة لمفهوم المصالحة الحقة ، ولم يختلف رأيي المتواضع من قافلة العودة عند طرحها في السنة الماضية في مجمله عن رأيك وقد عبرت عنه في مقال نشر بتونس نيوز في شهر نوفمبر 2005 تحت عنوان ” حركة 18 اكتوبر ، وقافلة العودة والوصايا العشر ” وأهم ما جاء فيه ” ان قرار العودة ليس دعوة لحفل عشاء تصدر عن شخص أو عدة أشخاص بل تمليه ضرورة واقعية ملحة بعد استكمال جميع عناصرها واستنفاذ اسباب التواجد بالمهجر ، كما أن قرار ربط المصير الذي وافقت عليه العائلة النهضوية لم يكن قرارا فرضته قيادة النهضة على منتسبيها ، بل كان محصلة طبيعية لرفض نداء الخلاص الفردي ، فلا يمكن بعد سنوات الصبر ان يفسخ العقد المعنوي بعودة بعض الأشخاص وكأنهم وفد يمثل المهجرين ، ويجب أن لا يفهم من قافلة العودة أنها انتحار جماعي على بوابات السجون ، وليست مبادرة لتسجل في سجلات التاريخ السياسي لأن للتاريخ بوابات عدة ، بل يجب أن تكون لها أهداف واضحة ووسائل واقعية تستقرأ المرحلة وتستجيب لمتطلباتها

ولكن بعد قراءة النص الجديد للأخ نور الدين ختـــروشي المنشور بتونس نيوز الأسبــــوع الماضي أحسست بأن المشروع بدأ يملأ بعض الفراغـــات ، ويجيـــب على المؤاخـــــذات ، ويستقرأ الردود بواقعية أكثر ، ويفتح مساحات أوسع للحوار ، ويبحث عن دفىء ورداء وثقل المجموعة الوطنية ، مما يؤهل فكرة القافلة بثوبها الجديد وبعدها الرمزي الى حوار سياسي هادىء وبناء وان وصل الخلاف الى حد رفض الفكرة من اساسها

أخي الكريم مؤاخذاتي على ما كتبته تتعلق بالربط غير الموضوعي بين فكرة القافلة والتهافت الساقط على خيار الخلاص الفردي ، وتصوير مشروع القاقلـــة وكأنـــه نأي عـن الصـــف الوطني واسمح لي أن أفك هذا الربط بنفس الأفكـــار المطروحـــة في المقال الأخيــر للأخ نورالدين حتى لا أكون مستقرئا للنوايا

ـ فيما يتعلق بالخلاص الفردي ففكرة العودة كما وردت في النص الأخير تطرح نفسها نقيضا وصمام أمان للحد من التهافت وشراء النفس بذلة ، ورد في المقال “اتجاه رفض كل حلول الخلاص الفردي والاصرار لاعلى العودة بل على الحق في المشاركة في الاهتمام بالشأن العام ” اذن أخي الكريم موقف من يطرح فكرة القافلة يشاطرك الرأي في رفض الحلول الفردية والعودة بأبخس الأثمان ، ويشاطرك الرأي في العودة بعزة وبكرامة أصحاب الفتــــح

ـ ان مشروع القافلة كما طرح مؤخرا يقتعد له مكانا ضمن هموم المجموعة الوطنية ، ويضع نفسه كورقة مدافعة يمكن توظيفها في الوقت المناسب ، ولا ينأى بنفسه عن الخيار الوطني فقد جاء في المقال ” هي مبادرة سياسية تنتظم ضمن رؤية المرحلة ، وممكنات الفعل فيها ، وهي أداة وورقة بيد المجموعة الوطنية يمكن توظيفها في الوقت المناسب وبالشكل المناسب لتحقيق مقاصد معلومة وملموسة وممكنة ضمن يوميات صراعنا مع خصوم التحرر ببلادنا ” فهل يصح اعتبار هذه الدعوة الصريحة نأيا عن المجموعة الوطنية

ـ فكرة القافلة بثوبها الجديد تؤسس لمبدأ الحوار والتشاور وبسط المشروع أفقيا كفكرة قابلة للنقاش والتطوير واستعداد تام للأخذ بالرأي الآخر متى بزغ رشده فجاء في المقال ” هذا يقتضي أن نعمل من الآن عبر حملة تحسيسية واتصالات مباشرة بالفاعلين على الساحة لتوضيح المبادرة وأبعادها وعلاقتها بأولويات المرحلة واستحقاقاتها ” كما جاء في موضـــع آخر من المقال ” وهذه أطروحة في حاجة الى حوار وتبادل الرأي فيها ” ولو عدت أخـــي الهادي الى المقال لوقفت على عديد العبارات الصريحة الداعية للحوار بمنطق المشاركــة الايجابية

ـ قافلة العودة لا تتنصل للتضحيات التي قدمها خيرة من أبناء تونس وما زالت قافلة الشهادة مستمرة صمودا وعطاء ، كما أنها لا تبرىء الطغمة الحاكمة بما هي المتسبب الرئيسي فيما آلت اليه الأوضاع على جميع المستويات ، بل تدفع باتجاه اضعاف حصونها وهدمهاوالمقال أشار الى ” الفكرة من حيث هي احدى ادوات البقاء على موقع المبادأة ودفع الخصم الى مربع رد الفعل ” فكيف فهمت أخي هذا النص على أنه قعود عن الجهاد ونقض غزل وغفلة عن مضمون الجهاد الحق.

ـ من قال أن مشروع العودة عبر القافلة الجماعية لا يضع شروطا للانجاز ، بل ان عدم ربط الفكرة بحيز زمني معين وانما بتوفر شروط تحققها لهو أجلى تعبير عن تعقل الفكرة ، وقد ذكر المقال محددات لمشروع العودة منها ” توفر الحد الأدنى أو الأقصى من الاجماع الوطني حول المبادرة تحت غطاء أدبي وسياسي للمجموعة الوطنية .

ـ ان قافلة العودة لا تحتكر المبادرة ولا تدعي الصواب المطلق ولا تخون غير المنخرطين فيها ، وتطلب الانخراط بـأي شكل ايجــابي حتــى من الذين يعارضـــون قرار العـــــــودة الفعلية “القافلة تسعد بالانخراط فيها بأي شكل كان وبما لا يحرج صاحب عذر في قرار العودة ذاته .

أخي الكريم صاحب فكرة القافلة ما علمته عنه أنه ليس موضع ريبة أو شك في اخلاص نيته لله واتجاه عمله نحو التحرير الذي تحدثت عنه في مقالك والذي ننشده جميعا ، ولا أرى أي رابط منطقي بين خروجه من الحركة وطــرح قافلــة العودة ، وقد قرأت للأخ نورالديـــــن ختروشي قولة تشفع للرجل وان أخطا الوسيلة وردت في مقال منشور بتونس نيوز فــــــي أكتوبر 2005 قال فيها ” انني أفضل أن أكون جوارب خرقاء على رجل متوضئة سائرة في طريق الحرية على أن أكون مديرا في ورشة استبداد ” وهذا ما علمته عن صاحب فكـــــرة القافلة ، وان كنت أخي علمت غير ما قيل فاعذر جهلي بذلك
وردت بعض الأفكار في مقالك لي فيها رأي متواضع قابل للتصحيح ولن أفصل فيها كثيرا ، فعودة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام الى المدينة بعد فتح مكة لا تعتبر مثلا يقاس عليه وضع الأخوةالمهجرين قسرا ، فالغرب ليس المدينة ومكة ليست تونس ولا يستقيم القيــــاس حتى في رمزية الفكرة ، فالمدينة دانت للفكرة قبل فتح مكة وأصبحت مركزا ، والفتح لم يكن مجرد عودة الى ” الوطن ” وانما كان وعدا ربانيا توافرت أسبابه وشروطه ، وتحقيقا لبزوغ الفكرة وسقوط الصنم ، وتمددا طبيعيا للفكرة ، أما عودة الرسول صلى الله عليه وسلم الـــى المدينة فهي مسألة خيار وترجيح واستقراء جيد للوضع الجيوسياسي واستكمال لمشروع بناء الدولة ، فضلا عن أن الفتح لم يشهده مهاجرو مكة فقط وانما سار فيه كــــل من تحـــرر من عبودية غير الله بعيدا عن أي انتماء جغرافي
مسألة ثانية تتعلق بتقديم ” مهمة” التحرير على ” مهمة ” العودة ، لماذا التفضيل بينهما والحال أن التحرر مطلب وقافلة العودة وسيلة ، وقد يكون أصحاب القافلة يعتبرون العودة الجماعية من منظور دخول الباب المدروس احدى وسائل التحرير والمدافعة السلميـــة ، فهــل يستقيم التفضيل مثلا بين التحرير واضراب الجوع الذي خاضه الرجال الثمانية ؟ كما لا أعتقد أخي أنك تنتظر عمليةالتحرير بمن في الداخل فقط ، فالتحرر صيرورة تنتظـــم داخلهـــا نضالات وتضحيات كبيرة وقرح ونقص في الأنفس والثمرات ، وقد تكون القافلة اذا توافرت أسبابها وخلصت نية القائمين عليها ولا أحسبهم الا كذلك احدى هذه التضحيات ، كما لااتصــور أن الحركة ستتحول الى حركة مهجرية وان كانت رسالة المسلم ممتدة في الزمــــان والمكـــان.

مسألة ثالثة تتعلق برفض الفكرة لكونها صادرة عن شخص وليست صادرة عن مؤسســــة ، أقول بأن صدقية ومشروعية وصلابة اي فكرة أو مشروع لا يرجع فيه الى الجهة التي أطلقته وانما الى صلاحه ، وما الخلل أن تصدر الفكرة من شخص وتتلقفها جماعة أو حزب …ما دامت الفكرة مشروعة ، وتستحضرني مقولة للأمام الغزالي في الاحياء ” التعاون على طلب الحق من الدين ، ولكن له شروط وعلامات …منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يديه أو على يدمن يعاونه ” فالفكرة دائما يكون مصدرها عقل واحد ، ومأسستها تكون بطرحها للنقاش داخل المؤسســة فتصير بعد صقــلها صـــادرة عن المؤسسة ، ولا يوجد واقعيا تفكير جماعي وانما مناقشة الأفكار الفردية داخــل المؤسسة أو المجموعة.

أخيرا أضم رأيي الى رأيك في كون العودة مشروطة بحد أدنى من الحرية الخاصة والعامة في تونس ، وبحد أدنى من التوافق الوطني ، وبطـــرح المشروع للتداول والحوار بجديـــة أكبر وهذا هو الحوار وابداء الرأي الذي يحتاجه أصحاب القافلــة لتكــون القافلة للجميـــع

فالقافلة لم تشد الرحال بعد ، والسفينة ما زالت راسية