تأجيل أم إعادة نظر؟

بقلم صلاح الدين الجورشي

بعد فشل العديد من التجارب لتطبيق الشريعة في السنوات الماضية، نلاحظ خلو برامج الكثير من الحركات الإسلامية من المطالبة الصريحة بتطبيق الحدود، وأصبح الخطاب السياسي الحركي يركز أكثر على القضايا السياسية والاجتماعية. تحليل بقلم الكاتب والصحفي صلاح الدين الجورشي.

عندما سئل دكتور سعد الدين العثماني، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية في المغرب، حول ما إذا كان حزبه ذو التوجه الإسلامي ينوي في حالة وصوله إلى السلطة تطبيق أحكام الشريعة، أجاب “إنها لا تندرج ضمن برنامجنا”. وعندما سئل خالد مشعل بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية، نفس السؤال، جاءت إجابته حاملة لبصمات الواقعية السياسية. قال: “لن نلجأ إلى فرض الشريعة الإسلامية. نحن نؤمن بالوسطية وبالتدرّج. ونؤمن بالتسامح ولا إكراه لدينا”.

وقد جاء برنامج الحكومة التي شكلتها حماس منسجما تماما مع هذا الوعد. هل يمكن في ضوء هذين المثالين القول بأن البرغماتية السياسية ستقود الحركات الإسلامية إلى التخلي عن “تطبيق الشريعة” بعد أن كان هذا في مقدمتها مطالبها الأساسية منذ قيام حركة الإخوان المسلمين عام 1928؟

تاريخيا، تعتبر الحركات الإسلامية التي استندت على شعار “الإسلام عقيدة ودولة” في مقدمة التيارات الجديدة التي عملت بعد سقوط الخلافة العثمانية على إعادة تفعيل أحكام الشريعة دون استثناء أحكام الحدود.

ففي رسالته الحاملة لعنوان “إلى أي شيء ندعو الناس” طالب الشيخ حسن البنا مؤسس حركة الإخوان المسلمين بإصلاح القانون الذي يجب “أن يكون مستمدا من أحكام الشريعة الإسلامية مأخوذا عن القرآن الكريم متفقا مع أصول الفقه الإسلامي”.

استنادا على ما ذكره الشيخ حسن البنا، فإن حركة الإخوان تعتبر الشريعة كلا لا يتجزأ. هذا على الصعيد الاستراتيجي، لكنها على الصعيد العملي والتكتيكي، فإن حركة الإخوان أو عديد الحركات التي تأثرت بها لم تنتهج في هذه المسألة أسلوبا واحدا.

تأجيل تطبيق الشريعة

لقد اكتفت بعض هذه الحركات بالدفاع عن مبدأ المطالبة ب” تحكيم شرع الله “، وقامت بتأجيل المطالبة بتطبيق الحدود في المرحلة الراهنة نظرا لسوء الظروف السائدة. وقد دار حول هذا الموضوع جدل واسع بين الإسلاميين.

ويعتبر سيد قطب من أهم من وضع للمسألة إطارا نظريا برر به عملية تأجيل تنفيذ ليس الحدود فقط، ولكن مجمل الشريعة بأحكامها العامة أو التفصيلية، وذلك خلال المرحلة الثانية من مسيرته الإسلامية.
اعتقد سيد قطب أن دُعاة الإسلام “وقعوا فريسة مناورةٍ خبيثةٍ من الجاهلية دفعتهم إلى إحراج الإسلام، عندما حاولوا تقديم شرائعه في غير بيئته”. وبناء عليه، دعاهم إلى رفض ما وصفه ب” السخرية الهازلة فيما يُسمَّى تطوير الفقه الإسلامي في مجتمع لا يعلن خضوعه لشريعة الله”.

في مقابل هذه الطرح القائم على التأجيل، هناك حركات أخرى تمسكت بضرورة التعجيل بتنفيذ الحدود مع أول فرصة توفرت لها، سواء للمشاركة في الحكم أو الانفراد بالسلطة. ورأت هذه الأطراف أن العقوبات الجسدية يمكن أن تكون وسيلة رادعة لتحقيق الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي، و”تطهير المجتمع من الجريمة والانحراف الأخلاقي”. وقد جربت ذلك المنهج حركتان تختلفان عن بعضهما اختلافا جذريا.

الأولى هي حركة طالبان التي – وإن نجحت في فرض الأمن على المناطق التي سيطرت عليها، كما تمكنت من القضاء على عصابات زرع المخدرات وترويجها – إلا أنها في المقابل أقامت مجتمعا مغلقا يسوده رعب جماعي، ويرتكز على تمييز واسع النطاق بين النساء والرجال؛ معتقدةً أن تطبيق الحدود، بشكل بدائي وسطحي، واجب شرعي لا يقوم الإسلام بدونه.

أما الحركة الثانية “الجبهة القومية الإسلامية”، فقد أيدت اللجوء العشوائي إلى تطبيق الحدود في ظروف كانت تفتقر للحرية وضمان الكرامة والعدل الاجتماعي لجميع السودانيين. كانت المرة الأولى عندما تحالفت مع جعفر النميري، الذي أعلن عام 1983 عن تطبيق الشريعة الإسلامية في كامل البلاد بما في ذلك الجنوب. وقد آلت التجربة إلى إخفاق كبير على جميع الأصعدة، وخلفت وراءها عددا من الضحايا، في مقدمتهم الشيخ محمود طه الذي أعدم بتهمة الردة بعد أن تجاوز السبعين عاما من العمر.

ثم عادت الحركة لتدعم نفس الاختيار، عندما تحالفت من جديد مع العسكر 1989، وتشبثت بتطبيق الشريعة بما في ذلك الحدود في القضايا الجنائية، وذلك رغم أن المناخ السياسي والاقتصادي كان يتصف أيضا بالاستبداد والفقر والتفكك الاجتماعي. وحتى بعد الخلاف الذي حصل بين جناح الترابي والرئيس عمر البشير، استمر الدفاع عن التشريعات المعمول بها في البلاد بحجة أن “أي عيوب في تطبيق الشريعة الإسلامية في العهد الحالي تعود للمنفذين وليس للإسلام”.

تعديل في الخطاب والأولويات

بعد فشل التجارب التي تمت الإشارة إليها سابقا، إلى جانب حجم المشاكل الضخمة التي تمخضت عنها الثورة الإيرانية، جنح الخطاب السياسي الحركي نحو تجنب ” التورط ” في تجارب شبيهة. وتجلى ذلك في تركيز أكثر من قبل الحركات الإسلامية الحزبية على القضايا السياسية والاجتماعية، حيث خلت برامج الكثير من هذه الحركات من المطالبة الصريحة بتطبيق الحدود.

كما أن وثيقة الإصلاح السياسي التي طرحتها حركة “الإخوان المسلمون” في مصر لم تشر إلى الدولة الإسلامية كمصطلح، ولم يرد المصطلح أيضا في أهداف الجماعة في مصر.

ويستند ابراهيم غرايبة من الأردن على هذا التحول في ترتيب الأولويات لدى هذا الصنف من الحركات الإسلامية، ليتوقع بأن “الحركة الإسلامية تجري مراجعات لتشكيل رؤية سياسية وإصلاحية تقترب كثيرا من رؤية حزب العدالة والتنمية في تركيا، وتحرر كثيرا من المواقف والبرامج السابقة من بعدها الأيديولوجي لإخضاعها لاعتبارات سياسية وواقعية، ونقلها من دائرة الفهم الديني الثابت إلى المصالح المتحولة”.

إن هذه المراجعة التكتيكية والضمنية تمثل ظاهرة جديدة عديدة؛ تدل أولاً على بداية تشكل وعي – لدى هذه الأوساط – بأن تطبيق الشريعة لا بد أن يكون نابعا من إرادة شعبية؛ وتدل ثانياً على قناعة تلك الأوساط بأن مسألة الحدود ليست بالوصفة السحرية.

أما الدلالة الثالثة فتتعلق بالدور المتزايد للقوى الحديثة التي تشكلت داخل نسيج المجتمعات المدنية من جمعيات حقوق إنسان ومنظمات نسائية وأحزاب علمانية. ورابعا، بدأ العديد من قادة هذه الحركات يدركون بأن بلدانهم جزء لا يتجزأ من منظومة دولية، لا يمكن الفكاك منها.

الخلط بين الإرهاب وتنفيذ الحدود

إذا كانت الحركات الإسلامية المراهنة على التغيير السلمي والتدريجي قد اختارت السكوت في هذه المرحلة عن تطبيق الحدود، فإن الأمر مختلف بالنسبة للحركات الراديكلية ذات التوجه الصارم. وقد تنقسم تلك الحركات إلى خطين رئيسين، خط لا يمارس العنف، لكنه يعتبر نفسه الحارس الأخير لحماية “العقيدة الصحيحة” من خلال الحملات الدعوية، والتمسك بالتطبيق الحرفي للشريعة، بما في ذلك أحكام الحدود.

أما الخط الثاني، وهو ما يسمى عادة بـ ” السلفية الجهادية “، يحمل نفس المنطلقات العقدية والفكرية، لكنه يؤمن بأن العنف هو الوسيلة الوحيدة للتغيير، إضافة إلى اعتقاد أفراده بأنهم يملكون الشرعية لتنفيذ الحدود بأنفسهم.

لقد فرضت بعض هذه الجماعات ممارسة جديدة تفاقمت منذ احتلال العراق، “حين أعطت لنفسها سلطات الإفتاء والقضاء والتنفيذ، أي أن كل واحد منهم يصبح مفتيا وقاضيا وشرطيا”، كما جاء على لسان الشيخ يوسف القرضاوي. فهذه الجماعات جعلت مــن نفسها ” سلطة مؤهلة “لإصدار الأحكام وتنفيذ بعض الحدود ( مثل حد الردة ) بحجة أن الأنظمة القائمة تخلت عن ” شرع الله “، وبالتالي فقدت شرعيتها.

الدعوة إلى تعليق الحدود

ما نفذته الأغلبية الواسعة جدا من حكومات الدول الإسلامية بصمت، وأصبحت تمارسه الكثير من الحركات الإسلامية بشكل ضمني، أعلنه بصوت مرتفع المثقف الإسلامي طارق رمضان في ندائه الدولي إلى “تعليق فوري للعقوبات الجسدية، الرجم والحكم بالإعدام في جميع الدول ذات الأغلبية المسلمة”. وبالأولى، عدم تطبيق الشريعة داخل البلدان ذات الأغلبية غير المسلمة.

دعوة رمضان موجهة إلى العالم الإسلامي، وأسسها على منطلقات اتسمت بالواقعية والروح المبدئية. لقد استند في دعواه على اعتقاده بأن: الأنظمة السياسية وأوضاع المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة لا تضمن تعاطيا عادلا للأفراد أمام القانون”.

كما اعتبر واقع المسلمين اليوم “أسوء من عام الرمادة الذي منع فيه أمير المؤمنين عمر إقامة حد السرقة”. وتحدث عنما وصفه بـ ” الأزمة الرباعية” التي يمر بها هذا الواقع، وتتمثل في ” نظم سياسية منغلقة وقمعية، وسلطة دينية متشتتة، ومطالب متناقضة، وشعوب محرومة من التعليم ومأخوذة بتشبث صادق بالإسلام، لكنه تشبث عاطفي وانفعالي”. وبالتالي ” لا يمكن بحال أن يستمر العمل بتطبيق عقوبات ليس شأنها إلا أن تمنح مصداقية لأحكام ظالمة كما يحدث الآن”.

واستغرب رمضان – مثلما فعل كثيرون من قبله – أن “يعاقب النساء والرجال، ويضربون ويرجمون باسم الحدود في ظل غياب تام لحقوقهم الأساسية التي كفلها الإسلام”. وهو ما اعتبره ” خيانة لتعاليم الإسلام وتشويها لعدالته”.

دعوة طارق رمضان لم تطرح على النقاش الواسع داخل الفضاء الإسلامي، وعلى العكس من ذلك تعرض لهجوم، باعتباره يطرح قضية “تسيء للإسلام ولا تنفعه”. ولم يناقشه بهدوء علمي إلا عدد قليل من العلماء. أما البقية فقد اعتبروا القضية ” مفتعلة ” وغير مطروحة، نظرا لعدم تطبيق الحدود في أغلبية الدول الإسلامية، ما عدا دول تعد على الأصابع، وتتفاوت في أسلوبها وظروفها.

لكن بقطع النظر عن الخلفية التي تقف وراء تجنب الخوض في هذه المسألة، فالواضح أن الصعود السياسي للإسلاميين القابلين بقواعد اللعبة الديمقراطية، جعلهم يكتشفون تدريجيا بأن الأزمات التي تمر بها مجتمعاتهم تتطلب نظرة أكثر عمقا وشمولا. وبالتالي فإن التجربة ستغير الأفكار وتفرض سياسات جديدة، وبالتالي فإن الواقع يعيد في النهاية صياغة الفكر.

المصدر :
موقع قنطرة