ما أكثر الأحداث الحزينة والذكريات المريرة التي تمر على المسلمين هذه العقود، والتي تخض واقعهم وتطرح عليهم تحديات جديدة وأسئلة عديدة، يحيط بأجوبتها كثير من الإحباط والهزيمة والسواد. غير أن ومضات مشرقة تنطلق من هنا وهناك، من أعماق تاريخهم، تذكرهم بين الحين والحين، وعلى طوال السنين، أنهم أبناء حضارة، وأن الليل وإن طالت خيمته، فالفجر له بالمرصاد، وإن رأيت الصحراء تمتد تمتد فورائها جنان خضراء.

تأتي ذكرى الإسراء والمعراج هذه الأيام والأمة في مخاض، تحت الركام، تضرب أطرافها ووسطها فتن وحروب، قتل وإرهاب، فوضى وتخلف، ذهول واضطراب، وتساؤلات عن النهاية ، عن خطف للدين وغدر بأهله، عن انتحار جماعي، عن نهاية أمة قبل نهاية التاريخ.

تأتي هذه الذكرى الطيبة هذه السنة ولوائح عهد جديد لعله بدأ ينسج أطرافه بكثير من الحياء، وأنوار بدأت نشق طريقها بهدوء نحو مواطن العزة والسؤدد، مثلته بكل اعتزاز ووفاء جماعة من أهلنا تربض على أرض فلسطين ولبنان وأكناف بيت المقدس.

إن العلاقة الأفقية التي ينحتها الإسراء بين الأرض وأطرافها، تؤكد على مبدأ الامتداد الرمزي لرسالة الخير والتعارف والسلم، لم يذهب الرسول الكريم (ص) إلى القدس الشريف وهو يصطحب الملائكة ليرج قواعد أهلها ويسفك دماء ذويها ويعيدها طوعا أو كرها إلى ربقة الإسلام، كانت الإسراء لقاء بين كل الأنبياء في حضرة خاتمهم، كان تعارفا بين قيادات الدين الواحد، وإشارة رمزية إلى لقاء الأقوام والأجناس والثقافات.

كان الإسراء إشارة ذكية في بداية بناء قواعد هذا الدين، أنه دين التعارف واللقاء والسلام، وأنه امتداد لنفس ينبوع الخير الذي استسقت منه الأقوام السابقة لما تبنت خطاب رسلها ومصلحيها. لم يحمل الإسلام إلى هذه الأرض الطيبة، أرض فلسطين الطاهرة، وهو يطأ رمالها ويعبر آفاقها رسالة اعتداء وجور واستحواذ، لم يقل جئنا بشعب بدون أرض إلى أرض بدون شعب، ولم يقل أتيناكم بنبي إلى أرض بدون أنبياء، بل احترم من سبق واعتبر ذاته جزء من نسيج جماعي تشكلت أطرافه عبر تاريخ وجغرافيا لأقوام سابقين ولاحقين، فكان قدوة ونموذجا لأهله قبل جيرانه.

إن العلاقة العمودية التي يبنيها المعراج بين الأرض والسماء ليفرض على الأمة هناك علاقة وطيدة بينها وبين خالقها تمثلت في صلوات يومية، تذكّره بأن خلاصه على الأرض مرتبط بحسن علاقته بالسماء، وأن وجوده على الأرض بدون هذه الهداية وهذا اللطف الرباني، مجلبة لكثير من المتاعب والسقوط. لقد أثبت المعراج ركنا جديدا لأي نجاح وفلاح دنيوي، أو بمفهوم أقرب إلى أيامنا، أن أي شهود حضاري لهذا الإنسان ممثلا في أمته، ولهذه الأمة ممثلة في أفرادها، لا يمكن أن يكون سليما، معافى دائما ومتجددا ومبدعا، إذا لم يتمثّل البعد الروحي والأخلاقي في مسيرته نحو التمدن والتقدم والتحضر، التي تمثل مسيرة نحو الله.

إن هذا البعد الروحي والأخلاقي، وهذه العلاقة الوطيدة بين السماء والأرض، يشكل حسب زعمنا أساس أي بناء للظاهرة الإنسانية بأبعادها النفسية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. لن يكون أي بناء نبذ هذا البعد الروحي والأخلاقي ، إلا أعرجا في التنظير، أعرجا في الفكرة والرؤية، يؤدي إلى عرج في التنزيل والممارسة، حتى وإن خفي هذا العرج في بداية الطريق لتواجد عناصر أخرى دافعة ومهيمنة ومغيبة لحين لتأثيرات هذا الغياب.

غابت أخلاقنا في السياسة يوما وفتكنا بالحبل الروحي الرابط بين السماء وأرضها، ونسينا أو تناسينا سورة بأكملها عنوانها الشورى، فتهيّب الفقيه و خرج علينا بأنشودة جديدة عجزت عنها حتى مزامير سليمان فجعل الشورى مخبرة وغير ملزمة..!،

وطغى حاكم البلاد واستخف قومه وفرض على الأمة تاريخا وجغرافيا تأويلا غير أخلاقي ولا روحي للشورى فجعل سلطاته تورث كما يورث بيته وأملاكه..!

وسكنت الرعية ورفضت الوقوف أولا، خوفا عند بعضها وطمعا عند البعض الآخر، ثم عجزت حتى عن رفع ظهورها عن الانحناء، وكأنها لم تر وقوفا في حياتها، فأطلت على الأمة أجيال ولدت منحنية وشابت منحنية وشاخت منحنية ودخلت قبورها ولم تر السماء!

وغابت الأخلاق وسكنت مناشدة الروح من وراء جدران بيوتنا، قبل نزولنا إلى الشارع ومغادرة البيت، فنالت نساؤنا أكبر مظلمة شهدها تاريخنا، جنس كامل أخرجناه بدون حياء من التاريخ، وأدخلناه في متر أو أقل من الجغرافيا الحزينة والمظلمة، في زوايا بيوت وأركان غرف..، نصف المجتمع ميت ونصفه الآخر مصاب بالشلل وصاحب الجسد المفقود يريد الشفاء وهو يحمل آيات الأموات!

وفي ظلمة البيوت، وبدون أخلاق، وبعد ظلم ساكنيه من الجنس المنبوذ، وفي غياب حبل السماء المقطوع، خرجنا إلى المجتمع مشوهين، برجل واحدة، ندعي الحراك، والمشي أحيانا، ونحن عاجزون حتى عن الوقوف وعدم التداعي، فكان سقوط البيت الصغير قد سبق سقوط المجتمع.

إن معراج التحضر لن يكون صائبا، إذا لم يتدعم هذا البعد الروحي والأخلاقي في كل حركاتنا وسكناتنا، في كل مشوار صاعد نحو الرقي، نحو التحرر، نحو الله! لن ينالنا ولا ينال أحفادنا حبة خردل من حضارة مزعومة، والقتل والإرهاب والفضاعة والأذى يرج أطراف بيتنا وبيت الجيران على السواء، دون علم ووعي، دون حق وخلق، ودون نقل وعقل! لن نفهم رسالة المعراج الحضارية إذا لم نفقه أن بناء الحضارات لا يتم في الصخب والضوضاء، ولا بأيد حمراء ملطخة بالباطل والجور والاعتداء.

إن الحضارة إسراء بالإنسان الضائع المغلوب على أمره، نحو الإنسان الصالح المصلح، نحو الإنسان! والحضارة معراج نحو المطلق، بهذا الإنسان السليم، الحامل في بنائه عناصر الروح والأخلاق والعدل والحرية، وتلك إحدى رسائل الإسراء والمعراج إلى الإنسان الفرد والإنسان المجموعة مهما شرّقت أو غرّبت نجومها الطارقة.

المصدر: موقع اللقاء الإصلاحي الديمقراطي

www.liqaa.net