إنَّ هذه الورقة لا تهمّ إلاَّ الذين أكرهوا على مغادرة التّراب التونسي لحماية أنفسهم من مظالم التَّتبّع البوليسي – القضائي .في التسعينات. و هي تتركَّز على الجانب القانوني لوضعيَّة هؤلاء المناضلين من وجهة نظر عزمهم على العودة إلى بلادهم.و إثبات أن هذه العودة يمكن أن تكون في مأمن من التحرشات ليس بسبب أفضال السلطة القائمة بل بموجب الأحكام القانونية نفسها و معنى الجانب القانوني هنا هي النّصوص القانونية النافذة و التَّطبيقات القضائيَّة لها على عموم المواطنين أي دون الأخذ بعين الإعتبار للآثار السَّلبيَّة للتَّدخّل السياسي المحتمل و الذي قد يؤدّي إلى معاملة المهجرين بطريقة خاصة مخالفة لسائر الناس تتضمن الدَّوس على القانون من طرف البوليس أو القضاء .

فمن النَّاحية الواقعيَّة فإن صعوبة الوضع تتأتَّى من أنَّ أغلب المهجرين صدرت ضدَّهم أحكام جزائيَّة لكنَّ أغلبهم لا يعلم:

  • سواءا طبيعتها إن كانت جناحيَّة délictuel أو جنائيَّة criminel.
  • أو عددها (حكم واحد أو أكثر).و من أية محكمة
  • أو بالخصوص تاريخ صدورها باعتبار أنَّ هذه الأحكام كانت غيابيَّة و مقترنة بالتَّنفيذ العاجل (أي قابلة للتَّنفيذ بقطع النّظر عن الطَّعن بالاعتراض).

     و هذه الصّعوبة تزداد استفحالا لأنَّ الجهات البوليسيَّة قد احتكرت كلّ المعلومات الخاصة بهذه الأحكام ناهيك أنَّه من غير الثابت أن يحصل المرء على المعلومات الكافية بشأنها من مصالح المحكمة بل أنَّه حتَّى في صورة عرض بطاقة التَّعريف الوطنيَّة للمعني بالأمر على بنك معلومات البوليس فإنَّك لن تجد إلاَّ الإشارة إلى أنَّه مطلوب من البوليس لكن دون بيان السَّند أو الحكم الذي هو مطلوب بموجبه ممَّا يدلّ على أنَّنا لسنا في خانة القانون و يبدو بل من الثَّابت أنَّ قائمة المطلوبين حدَّدها و يحدّدها البوليس بمفرده الذي يتولَّى تحيينها سلبا أو إيجابا طبق المعايير الخاصَّة به و التي ليس من ضمنها بالضَّرورة الأحكام القضائيَّة.
       و تتَّجه الإشارة إلى أنَّه قد يوجد من بين المهجَّرين أشخاص لم تصدر ضدَّهم أحكاما أصلا و على الرَّغم من ذلك نجدهم مدرجين في قائمة البوليس من أجل ” الاشتباه فيهم” في ارتكاب بعض الأفعال.
.
       و الوضعيَّة تختلف في الحالتين:
       – فإن كان الأمر يتعلَّق بالاشتباه على النَّحو المبيَّن أعلاه فإنَّه و حتَّى في صورة اعتراف المعنيَّ بالأمر بالأفعال و بثبوت قيامه بها فإنَّ العامل الزمني يبقى حاسما ذلك أنَّه من المحتمل أن تكون الدَّعوى العمومية ( أي التَّتبّع و المحاكمة ) قد سقطت بمرور الزَّمن تماما كما أنَّ العقاب الصَّادر عن المعنيَّ بالأمر بموجب حكم قضائي يمكنه هو الآخر أن يسقط بمرور الزمن.
 و السّقوط الخاص بالدعوى العمومية أو بالعقاب البدني المؤسس على مرور الزمن يخضع إلى نصوص واضحة في مجلَّة الإجراءات الجزائية التي تضع آجالا تختلف مدَّتها حسب الوصف القانوني للفعل المشتبه ارتكابه أو الحكم الصادر سواء كان جناحيّا أو جنائيّا.
و المقصود بالجناحي délictuel هو الفعل الذي يكون العقاب الأقصى المخصص له لا يزيد عن خمس سنوات سجن و ما يفوق ذلك يكون الأمر جزائيا criminel.
      و هنا يتَّجه إلى لفت النظر إلى أنَّ العبرة ليست في عدد السّنوات المحكوم بها بل بطبيعة الفعل المرتكب ذلك أنَّه كثيرا ما نجد بعض المناضلين محكوم عليه بأكثر من خمس سنوات ( مثال أربع سنوات من أجل الانتماء و ثلاث سنوات من أجل إعداد محلّ و سنتان من أجل توزيع مناشير …). ففي هذه الحالة يظلّ الحكم ذا طبيعة جناحية لأن الأفعال الواقع تتبّعها لا تتجاوز أقصى عقاب مخصَّص لأيّ واحد منها الخمس سنوات. و بالمقابل يمكن أن يكون فعلا واحدا صدر فيه عقاب أقلّ من خمس سنوات لكنَّه يظلّ ذا طبيعة جنائيَّة لأنَّ العقوبة القصوى المنصوص عليها بالقانون لهذا الفعل تتجاوز الخمس سنوات.
       و على كلّ حال فإنَّه فيما يخصّ الوضعيَّات التي لم تصدر فيها أحكام بل ناتجة عن مجرَّد الاشتباه فإنَّه لو أخذنا بعين الاعتبار المدَّة التي قضاها المهجرون خارج البلاد و التي تتجاوز  في الغالب العشر سنوات، فإنَّه من النَّاحية القانونيَّة الصّرفة لا مجال مبدئيّا لتتبَّعهم إعمالا بالفصل 6 من مجلَّة الإجراءات الجزائية الذي اقتضى أنَّه ” تسقط الدَّعوى العموميَّة بمرور عشرة أعوام كاملة إذا كانت ناتجة عن جناية و بمرور ثلاثة أعوام كاملة إذا كانت ناتجة عن جنحة و بمرور عام كامل إذا كانت ناتجة عن مخالفة و ذلك ابتداء من يوم وقوع الجريمة على شرط أن لا يقع في بحر تلك المدَّة أيّ عمل تحقيق أو تتبّع”.
      أمَّا فيما يتعلَّق بالوضعيَّات الصَّادرة فيها أحكام فإنَّه و على افتراض أن يقع التَّعرّف على هذه الأحكام الغيابيَّة سواء من حيث العدد أو الطَّبيعة أو تاريخ الصّدور فإنَّ الأمر لا يكمن في سقوط الدَّعوى بمرور الزَّمن بل في سقوط العقاب البدني المنصوص عليه بالحكم. و قد حدَّد الفصل 349 من مجلَّة الإجراءات الجزائيَّة الآجال التي تسقط  بها العقوبات البدنية فجعلها عشرين سنة كاملة بالنّسبة للجنايات و بخمسة أعوام فقط بالنّسبة للجنح.و من ثمَّة فإنه لا بدَّ من تقسيم المهجَّرين قسمين: قسم أوَّل يتكون من الشَّخصيَّات التي صدرت ضدَّها أحكام جناحيَّة و ليست جنائية وهي في أغلبها الأحكام الصادرة عن غير المحكمة العسكريَّة، فبالنّسبة لهؤلاء تكون جميع الأحكام الصَّادرة ضدَّهم قبل سنة 2000 غير نافذة المفعول.

أمَّا بالنّسبة لمن صدر ضدَّه حكم جنائي فإنَّ مدَّة العشرين سنة لم تكتمل بعد إذا أخذنا سنة 1990 تاريخ انطلاق سنوات الجمر.
     إنَّ هذه الفئة من المناضلين الذين صدرت ضدَّهم أحكام جنائيَّة يتعيَّن من النَّاحية القانونيَّة إفراد وضعيتهم عن وضعية من صدرت ضدَّهم أحكام جناحية ( مع اتّحاد الفئتين من النَّاحية السّياسيَّة و النّضاليَّة ).
لقد درجت المحاكم في قضايا الحقّ العام أن تسلّم شهادة في سقوط العقاب لمن يطلبها من ذلك أنَّ آلاف المواطنين ممَّن تورَّطوا في قضايا جناحية ( شيكات ، تحيّل، زنا…) و لاذوا بالفرار إلى ليبيا أو المغرب أو غيرهما و بقوا هناك أكثر من خمس سنوات يكفيهم تكليف محام لكي يستخرج لهم شهادة في سقوط العقاب و الحصول على كفّ تفتيش عنهم.

و طبعا فإنَّ مثل هذا لا يحصل في الأحكام الخاصَّة بالمهجَّرين بسبب عدم علم الشخص على وجه الدقة بالحكم أو الأحكام التي وقع حشره فيها واحتكار البوليس للمعلومات الخاصة بها لكنَّني أعتقد أنَّه لو وقع تكليف فريق عمل من المحامين في الدَّاخل للقيام بالبحث و التقصي في أرشيف المحاكم ربَّما (أقول ربَّما) سيكون بالإمكان حصر الأحكام الخاصة بالمهجَّرين و فرز الجناحيَّة منها و القيام بالإجراءات اللاَّزمة للحصول على شهادات سقوط العقاب و كفّ التَّفتيش ممَّا يجعل السّلطة البوليسيَّة في التَّسلّل. لكن يظهر أن مثل هذا الإستقصاء غير ممكن  حاليا وهو يتطلب إسنادا لوجيستيا غير متوفر.

و الرأي عندي أنَّ موضوع عودة المهجرين ليس قانونيّا صرفا  بل يجب مقاربته باعتباره  موضوع سياسي مسنود بالقانون. أمَّا كونه موضوع سياسي بامتياز فهو أمر غير خاف عليكم لارتباطه  بسلوك السّلطة التي اعتقلت و عاقبت وحاكمت و شرَّدت بدون وجه حقّ و هو ما لا يجب نسيانه  عند التَّفكير في أيَّة خطَّة عمل للعودة.
   
أمَّا كون الموضوع مسنود بالقانون فهو أمر إيجابي جدّا و يجب استغلاله إعلاميّا على الأقل لإقامة الحجَّة على السّلطة ذلك أنَّ عودة المهجَّرين خاضعة للأحكام القانونية الموجودة بمجلَّة الإجراءات الجزائيَّة كيفما ذكرنا أعلاه.
و من ثمَّة فإنَّ أيَّ محاولات ابتزاز أو تعطيل أو تخويف هي أعمال تعسّفيَّة تهدف إلى ارتهان العودة بإرادة السلطة و مزاجها فقط و الحال أنَّ هذه العودة الآمنة متاحة بالقانون و بالقانون لا غير إعمالا للقواعد الخاصة بمرور الزمن و كل ما نطلبه من السلطة هو أن ترفع يدها عن التَّلاعب بالقانون و أن تحترمه و لو لمرَّة و أن تعامل المهجرين بنفس ما يعامل به عموم المواطنين.

الأستاذ عبد الوهاب معطر
في 21 نوفمبر 2008

Maitre ABDELWAHEB MATAR
Avocat prés la Cour de Cassation et le Conseil d’Etat
Professeur en Droit
Adresse postale : Rue Haffouz El Intilaka 3000 SFAX TUNISIE
TEL : Fixe ( 00216 74226041 ) , Mobile : ( 00216 20410568 ) , FAX ( 00216 74 212385 )