إستوقفني مؤخرا التقرير الصادر عن منظمة « الشفافية الدولية » حول تقييم مستوى الفساد في مختلف دول العالم سنة 2010. و يصنف التقرير 178 دولة في العالم على أساس مستوى الفساد الذي تعرفه حسب سلم عشري من 10 إلى الصفر ويعكس هذا التصنيف في خريطة متدرجة الألوان من الأصفر إلى الأحمر بحيث تبدو خريطة العالم منقسمة إلى ثلاثة مناطق رئيسية:

صفراء و تضم الدول الأقل فسادا في العالم و هي التي يتراوح مؤشر الفساد فيها من 7 إلى 10 و تضم تقريبا 30 دولة

برتقالية و تضم الدول التي يمكن إعتبار مؤشر الفساد معتدلا داخلها و يتراوح بين 4 و 6 و تضم تقريبا ثلاثين دولة أخرى

حمراء وتضم الدول التي ينتشر فيها الفساد بشكل ملحوض و يتراوح مؤشره داخلها دون الأربعة و حتى الصفر وهي تضم أكثر من 100 دولة تمثل أغلب بلدان العالم.

و تكشف الخريطة بشكل لافت تركز الدول الأقل فسادا في العالم في المنضومة الغربية أساسا ( أوروبا الغربية و أمريكا الشمالية و أستراليا و اليابان) و توزعه في حد معتدل على الدول الموالية للغرب و المعتمدة لنظامه الإقتصادي بحيث يتفق مستوى الفساد لحد التطابق تقريبا مع الإنتماء و درجة العلاقة بالغرب. كما نلاحظ شبه تلازم بين إرتفاع مستوى الفساد و درجة توتر العلاقة مع الدول الغربية.

و حتى تكون الصورة أكثر وضوحا للقارئ تعرف منظمة الشفافية الدولية الفساد بأنه « تجاوز السلطة خدمة لمصالح خاصة خارج التفويض الذي تمارس بمقتضاه – Transparency International définit la corruption comme étant l’abus à des fins privées d’un pouvoir reçu en délégation. » و تعتبر أن بلدا مثل تونس أقل تضررا من الفساد من بلدان غربية عريقة في الديموقراطية مثل إيطاليا و اليونان و من بلدان يسجل إقتصادها أعلى نسب النمو في العالم حاليا مثل الصين و الهند.

و القضية هنا ليست في هذا الترتيب الغريب الذي تحتله أنظمة مستبة تكاد السلطة فيها تكرس لخدمة المصالح الخاصة لدوائر العائلات المحتكرة لها بشكل فج وصريح أخل بنزاهة التوزيع العادل للثروة داخل المجتمع على حساب الأغلبية العضمى لأفراده وسد آفاق الأمل في الحياة الكريمة لقواه الحية و الصاعدة. و لكن المعضلة في هذا التناقض الفاضح بين مؤشرات الفساد و معايير الحكم الصالح و الديموقراطية و دولة القانون و المؤسسات. كما يبدو غريبا و متناقضا أن يؤشر بالفساد على أنجح الأنضمة في مستوى التنمية الإقتصادية في العالم اليوم بينما تحلق عاليا في سلم جدول منضمة الشفافية الدولية أنضمة مفلسة إقتصاديا و لا تدين باستقرار الأوضاع داخلها إلا بفضل ما تضخه لها المؤسسات المالية الدولية والدول الغربية من قروض و مساعدات.

و من الواضح أن مثل هذه النتيجة مناقضة تماما لمعايير تقارير التنمية البشرية و المستديمة التي تصدرها دوريا منظمة الأمم المتحدة و تفضح خللا في المعايير المعتمدة لا يمكن تفسيره إلا بوجود خلل في النظام الدولي يعيق تطور بعض الدول ويمنع مجتمعاتها من التخلص من الأنظمة الإستبدادية المتحكمة في مقدراتها و الناهبة لخيراتها.

و قد بدأ هذا الإتجاه يتبلور لدى بعض الخبراء و المفكرين في العالم اليوم. و يرى أصحاب هذا الإتجاه أن الغرب لم ينهي صراع الهيمنة الذي يحركه من أجل السيطرة على العالم بسقوط المعسكر الشرقي و نهاية الحرب الباردة بل إنتقل إلى مرحلة جديدة من حربه من أجل الهيمنة يمكن تسميتها بالحرب الخبيثة لتحللها من أبسط القيم و تركزها على تحالفه مع قوى محلية خدمة لمصالحه و على حساب حقوق الشعوب في تقرير مصيرها و ممارسة مقومات سيادتها بصفة فعلية.

و يتجلى هذا الوضع في عالم اليوم بانتشار نوع جديد من الأنضمة المتكلسة في الحكم منذ عقود رغم فسادها و هشاشتها لا تجد مجتمعاتها وسيلة لتغييرها أو للتخلص منها بسبب حماية القوى الغربية لها و تمسكها بها. و تشترك هذه الأنضمة في تبعيتها لسياسة التدخل الأجنبي في شؤونها بحيث يقوم جزء هام من دورها على حماية مصالح هذه القوى الأجنبية التي تقيدها إضافة إلى ذلك بتبعية إقتصادية محكمة تجعلها رهينة لها و عاجزة عن معارضة إملاءاتها.

لذلك تبدو الثنائية الحقيقية التي تحكم العلاقات الدولية في عالم اليوم و تحول دون تطوره في علاقة الهيمنة بين دول طاغية و دول ذات سيادة منقوصة معطلة في ضل الخضوع لها و تبدو في ضلها دعوات إقامة الحكم الرشيد و احترام حقوق الإنسان و مكافحة الفساد و مساندة قوى التحرر و الديموقراطية في العالم اقرب إلى أدوات الإبتزاز لتعميق التبعية منها إلى الإنتصار للقيم الإنسانية.

المختار اليحياوي – تونس في 01 نوفمبر 2010

ملاحظة : ليس المقصود من هذا المقال التشكيك في نزاهة منظمة الشفافية الدولية و إنما في نزاهة المصادر التي إعتمدتها في صياغة تقريرها.