لا شيء من هذا القبيل في النظام الاستبدادي المبني على رفض التداول والتصدّي لكلّ من يطعن في الحق الأزلي والمطلق في السلطة.
لمواجهة هذا النظام كما أظهر ذلك التاريخ ألف مرة ومرّة لا مجال إلا للمقاومة المسلحة كالتي مارسها كاسترو في كوبا الخمسينات أو للمقاومة المدنية الفردية كما مارسها ساكاروف في الاتحاد السوفيتي سابقا أو للمقاومة المدنية الجماعية كما مارسها البولونيون في أواخر القرن الماضي ضدّ الشيوعية . من يتصوّر معارضة بالمعنى الديمقراطي أو انتخابات تحت هتلر أو ستالين أو بول بوت ؟
بأي قدرة قادر إذن أصبحنا نحن العرب الرازحين تحت أنظمة شمولية نقيم انتخابات ونتحدث عن معارضات ونصفها بالضعيفة؟
لفهم هذا السرّ يجب العودة للصيرورة التاريخية للنظام السياسي العربي وهو وريث خمسة عشر قرنا من الاستبداد الشرقي القديم بآلياته المعروفة: البيعة بالقوة لمن ” أصبح” وممارسته للسلطة المطلقة و توريثه لها إلى أن يحصل تغيير جديد دائما بالعنف وهكذا دواليك وشعار الشعب المقصى عن كل قرار ” الله ينصر من أصبح”.
حقّا وجدت بعض الاستثناءات مثل الأنظمة البرلمانية التي شهدتها مصر وسوريا ولبنان في منتصف القرن الماضي لكنها كانت كالفقاعات التي لم تعمّر طويلا حيث لم يكن لها جذور ثقافية وشعبية .
أما النظام القارّ الذي ساد بقوة في أغلب دول المشرق والمغرب غداة ما سمي بالاستقلال فقد كان مواصلة الأشكال القديمة للحكم مع الأخذ ببعض الأساليب العصرية . ربطة العنق والبذلة الغربية على ذوات لم تغيّر شيئا من عقلية شيوخ البدو وإخراج جديد للبيعة عبر انتخابات مقلّدة هي الأخرى عن الغرب… إنه كلّ ثمن الحداثة أو قل إدعاؤها .
لنسمّها فترة الأحادية الوقحة وإبانها لم يكن يخطر ببال أحد أن يترشح في ” الانتخابات” ضد عبد الناصر أو بورقيبة أو بومدين .
لم يكن النظام العربي يشعر بأي حرج في تنظيم مثل هذه ” الانتخابات” وفي سياسة الحدّ من كل الحريات بصفة عنيفة وفجّة . كانت أنظمتنا جزءا من منظومة كاملة تمارس الاستبداد باسم هذه الايدولوجية أو تلك. لكن الأمور تغيّرت تدريجيا بانهيار الدكتاتوريات الشيوعية وأمام مدّ الديمقراطية في الثمانينات وتصاعد قوى المقاومة المدنية الداخلية.
ابتداء من هذا التاريخ ولمحاولة تطويق الضغوط الداخلية والخارجية وربحا لكل الوقت الممكن ستدخل الدكتاتوريات العربية في مرحلة يمكن تسميتها بالتعددية المزيفة .
هي ستعمل على تنظيم ” المعارضة” بخلق أحزاب مصطنعة و والتسلل المخابراتي للتي لم تدخل بيت الطاعة مع ملاحقتها بقسوة ومنع نشاطها بكل الوسائل الممكنة ثمّ تنظيم ” انتخابات” تتحكم فيها من وضع قوائم ترسيم المرشحين إلى تقطيع الدوائر الانتخابية وصولا للنتيجة المطلوبة.
لتخدير العقول أطلقت فكرة ضرورة المشي البطيء لكن واثق الخطى على ” المسار الديمقراطي” حتى ننضج لممارسة عملية ليست من ثقافتا .
لا أحد حدّد بالطبع كم سيدوم هذا المسار ومتى سننضج لانتخابات تأتي بالتداول السلمي على السلطة الذي هو هدف الديمقراطية . وفي النهاية أصبح واضحا للجميع أن المسار ليس خطّا مستقيما وإنما حلقة مفرغة ندور فيها منذ ربع قرن ولا شيء في الأفق ينذر بأننا سنخرج منها وقد ” نضجنا” أخيرا.
عبر” الانتخابات” المصرية يمكن القول أن النظام السياسي العربي على مفترق الطرق . فالظاهرة التي قلما ينتبه لها المحلّلون أن هذه المهرجانات الرامية لإعطاء شرعية ديمقراطية على الدكتاتورية تواجه رفضا متعاظما ومواجهة تحتدّ قوتها من مهرجان تزييف لمهرجان تزييف آخر…مزيد من المقاطعة الشعبية…مزيد من التشهير الإعلامي…مزيد من الاستنكار الخارجي …نزيف متزايد لكل هيبة ومصداقية . هذا بالضبط ما رأيناه في ” الانتخابات ” المصرية الأخيرة وصعوبات التمثيلية الحقيرة لا زالت في أولى بداياتها .
فبديهي أن السلطة الاستبدادية تعاني من صعوبات متزايدة لإقناع أيا كان في الداخل والخارج بقيمة العملية و أنها ستضطرّ إلى مزيد من العنف لفرض نتائجها.
أنظر الآن لتفاقم صعوبات ” المعارضة” التي قبلت بأن تكون جزءا من اللعبة المشينة أملا في تحقيق بعض المكاسب الحزبية والشخصية.
إن الانشقاقات والجدل القائم داخل حركة الإخوان المسلمين دليل على رفض متعاظم لتعلّة استغلال مؤسسات النظام لإضعاف النظام وفرض توسيع رقعة الحريات .
حدّث ولا حرج عما تلقاه هذه المهرجانات السخيفة من صدّ ونفور من قبل جماهير فقدت كل أمل وكل ثقة في طبقتها السياسية التي تحكم والتي ” تعارض” .
هل معنى هذا أن التعددية المزيفة الذي مكنت الاستبداد من ربح الوقت بدأت تلفظ أنفاسها ؟
ربما يمكن إعادة حلقات قليلة أخرى من المسلسل ، لكن من المؤكّد أن هذا الأخير سينتهي وربما في وقت اقصر مما نظنّ في ظلّ تفاقم الأزمات المصيرية التي تأخذ بخناق ملايين لم يعد لهم ما يخسروا باستثناء قيودهم .
في هذه الحالة كيف سيتطوّر النظام السياسي العربي ؟ ماذا بعد الأحادية الوقحة والتعددية المزيفة ؟ خياران لا ثالث لهما : إما رمي القناع جانبا والعودة للحكم العسكري المباشر بحجة مقاومة الفوضى والإرهاب أو المرور للتعددية الحقيقية .
إنه المفترق الخطير الذي أوصلتنا إليه عقليات وممارسات ومصالح مجموعات رفضت أي إصلاح ومصالحة مع شعوبها ومن المحتمل أن تدفعنا في الاتجاه الأخطر ، اللهم إلا إذا تضافرت كل قوى المقاومة المدنية داخل النظام وخارجه لكي لا نرتمي جميعا في الهاوية .
iThere are no comments
Add yours