الباجي قائد السبسي رئيس الوزراء في الحكومة المؤقتة
بقلم بسام بونني

السيد رئيس الوزراء في الحكومة المؤقتة،

استوقفني كثيرا كتابكم عن الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة. ولطالما تسمّرت عند مشهد يذبحني من الوريد إلى الوريد كلّما عدت إليه وهو مشهد الوادع مع البشير كسيبة.
كنتم محاميا آنذاك وذهبتم للقاء الرجل بكثير من الخوف والريبة. فأنتم تلتقونه لآخر مرّة لإعلامه بأنّ القضاء الاستعماري قد حكم عليه بالإعدام بعد استنفاذكم لكلّ فرص التخفيف.

تقولون، سيدي، إنّ الرجل بدا راضيا بأمر الله بل وأسرّ لكم في خلوتكم تلك بأنّ تونس بأمسّ الحاجة إلى المتعلّمين. أمّا البسطاء من طينته فهم السلّم الذي سيمكّن النخبة من العلوّ بالبلاد نحو الاستقلال وما سيعقبه من بناء.

لكنّ الشهيد استحلفكم يومها أيضا بأن لا تنسوه والأبطال المجهولين من نفس معدنه بعد بناء الدولة الحرّة المستقلّة.

بعد ما يقرب الستين عاما على هذه الحادثة، ثار التونسيون ضدّ الدولة الموعودة وما راكمته من فشل وتقصير بل وغبن وقهر في حقّ أبناءها، ومن بينهم العشرات من أبناء البشير كسيبة وأحفاده.

بل إنّ أبلغ دليل على فشل تلك الدولة هي أنّها تمخّضت فأنجبت بشير كسيبة جديدا هو محمّد البوعزيزي، مع مراعاة الفروقات. فكسيبة استشهد على مذبح مقاومة الاستعمار. أمّا البوعزيزي فقد اكتوى بنيران الحيف التي أضرمها بنو جلدته ممّن نصّبوا أنفسهم أوصياء على البلاد والعباد.

بعد ما يقرب الستّين عاما على هذه الحادثة، ها أنتم ذا تعودون إلى الواجهة كرئيس حكومة مؤقّتة قدّر لها أن تضطلع بمسؤوليات تاريخية ليس أقلّها البلوغ بالبلاد إلى برّ الأمان بعد ملحمة شعبية سيدوّنها التاريخ كأحد أهمّ أحداث القرن الحادي والعشرين.

بيد أنّ بداية فترتكم المحدّدة شابتها بعض الممارسات والسلوكيات التي خلنا أنّها ولّت وانتهت. فمظاهر الإقصاء والتهميش مازالت تميّز عمل حكومتكم المؤقّتة. كما أنّ تعيينات عدّة صدرت عنكم أو عن فريقكم لم ترتق لطموحات الشعب أو الجماعات المحلّية المعنية بها.

هذا إضافة إلى حالة الارتباك، أحيانا، والارتجال، أحيانا أخرى، في التعاطي مع ملفّات حساسة، سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية.

للأسف، مثل هذه السلوكيات تحيلنا إلى مشهد هامّ من تاريخنا، مشهد يبدو أنّ تونس لم تتخلّص منه إلى يومنا هذا بل هي حبيسته بسبب نخبة سياسية في طلاق دائم مع الشعب.

فحين احتضنت مدينة قصر هلال في 2 مارس 1934 المؤتمر التأسيسي للحزب الحرّ الدستوري الجديد، قرّرت نخبة من التونسيين، شاءت الأقدار أن تحكم تونس إلى يوم الرابع عشر من جانفي 2011، قرّرت إقصاء معارضيها بتهمة هي الأكثر ابتذالا وحماقة في تاريخ التهم السياسية وهي المحافظة.

اكتشفنا بعدها الكذبة الكبرى. فلقد كبرنا وترعرعنا على النظر للزعيم الوطني، عبد العزيزي الثعالبي، على أنّه رجعيّ متخلّف لا يفقه في السياسية شيئا. لكن، اكتشفنا أنّ الرجل قد سبق بني جيله، بما في ذلك الحبيب بورقيبة ذاته.

اكتشفنا بعدها كذبات أخرى. أنتم نفسكم، سيدي رئيس الوزراء في الحكومة المؤقتة، عانيتم من هذه الكذبات، حين طالبتم مع زملاء لكم في الحزب الاشتراكي الدستوري بمزيد من الديمقراطية، بداية السبعينيات من القرن الماضي.

السيد رئيس الوزراء في الحكومة المؤقتة،

تحدّثتم في أكثر من مناسبة ومن أكثر من منبر عن عامل الزمن وقلتم إنّ الأمور لا تتغيّر بالنيّات فقط بل تفترض متّسعا من الوقت. كلامكم بقدر ما فيه من الصحّة بقدر ما يمكن اعتباره مجانبا لها. فعامل الوقت هو الذي نصّبكم في قصر القصبة رئيسا للوزراء. وعليه فإنّ سرعة التعامل مع القضايا الراهنة هو الشيء الوحيد المطلوب منكم ومن حكومتكم لأنّها مؤقتة. وهذا يحتّم عليكم التحلّي بالكثير من الجرأة والصراحة.

فقوى الردّة مازالت على أهبة الاستعداد للانقضاض على الثورة الشعبية والالتفاف عليها. وهو ما يفرض جملة من الإجراءات الحاسمة كتنقية جهاز القضاء من رموز النظام السابق وترسيخ الحرّيات باتّخاذ جملة من القرارات الضرورية للقطع مع سياسات الحكم البائد نهائيا وإلى الأبد.

السيد رئيس الوزراء في الحكومة المؤقتة،

إنّ تونس تتطلّع لوأد الماضي والتطلّع إلى مستقبل أفضل يليق بتونس وبالتونسيين. هي فرصة أخرى لكي تثبتوا للبشير كسيبة أنّكم لم تنسوه. وهي طريقة لتردّوا الجميل لمحمّد البوعزيزي الذي انتشلكم من غياهب النسيان وما أتعس حظّ السياسي حين يغادر عتبة المسرح وهو الذي كان فاعلا هامّا فيه.

كلّ ذلك يفترض منكم الإنصات للجميع والعمل على رصّ صفوف التونسيين، ساسة ونقابيين ومواطنين، بعيدا عن الخلفيات والنيّات التي من شأنها تعطيل المسار.

كلّ ذلك يفترض منكم أيضا إعلان استقلال تونس شكلا ومضمونا عن لوبيات الخفاء التي مازالت تسعى لإحكام قبضتها على البلاد، تارة من النافاذة السياسية، وتارة من النافذة الاقتصادية. فأنتم لا تجهلون، سيدي، أنّ بعيدا عن التحليل المؤامراتي، هنالك قوى أجنبية تحرّك أخرى في الداخل لعرقلة الثورة أو تعمل، في أحسن الأحوال، على فرض تبعية البلاد لها ولمن يقف خلفها.

هي فرصة لكم ولنا جميعا للدخول إلى التاريخ من بوّابته الكبيرة. فنحن شركاء. نعم، نحن شركاء.
أمّا العكس، فلن يؤدّي إلاّ إلى الرمي بالبوعزيزي إلى غياهب النسيان وهو المصير الدرامي الذي عرفه من قبله كسيبة والمئات من أبطال هذا الوطن.

بسام بونني