بقلم د. المنذر صفر،

لا يمكن لاحد ان يشك في المنزلق الذي وقعت فيه البلاد والذي يجرها الآن لكارثة اقتصادية و اجتماعية و سياسية لا مفرّ منها.

اننا تناسينا ان النظام التجمعي ما زال قائما، مستترا وراء الكومة الحالية التي تنكب ليلا نهارا علي التختيط لاعادة الدكتاترية للمكانة التي كانت تتبوئها منذ اكثر من خمس عقود.

و تناسينا كذلك كيف أُحبِطت جميع التجارب الانتخابية التي نُظّمت في ظل الحزب الدستوري منذ الاستقلال حتّي يومنا هذا: 1955، 1981، 1989 كانت هذه الانتخابات اجهضت ولم تغير في الوصاية التي سلطها الحزب علي البلاد ويجب علينا ان نذكر مدى تشابه السيناريو الذي يشهده المسار السياسي الحالي للبلاد بالمسار الذي واكب السابع من نوفمبر: الركوب علي طموحات الشعب للحرية والكرامة و زعمها الحفاظ علي هذه المبادئ ؛ التبرء من الحزب و الاعلان علي إلغائه و استنباط اسم جديد له؛ امضاء علي اتفاقيات لحقوق الانسان في الوقت الذي يواصًل التعذيب و الاعتقلات والمداهمات؛ الميثاق الوطني؛ الوعود بالاهتمام بالشباب والمناطق النائية…

اما المخطط الاستراتيجي لربح الوقت يبقي نفس المخطط: الدعوة لتنظيم الانتخابات التي مكنت النظام السابق عند توليه الحكم من تعزيز قواه الامنية و نشر رجالاته الحزبية و الامنية في جميع الادارات المركزية و الجهوية والمصالح العمومية وهكذا كانت الانتخابات موعدا مناسبا لبدئ حملة واسعة للاعتقالات والمحاكمات و تصفية الاحزاب السياسية و المنظمات الحقوقية والمجتمع المدني.

و هذا بالظبط ما نشاهده اليوم من تعزيز الجهاز الامني يوم بعد يوم و ارجاع رجالات الامن و الحزب و حتّي تمكينهم من تكوين احزاب و قبول ترشحاتهم للانتخابات…

و لكن خطورة هذه التحركات تكاد لا تقاس امام المخطط الجهنمي الذي بدء النظام التجمعي في تنفيذه للإسراع في ارجاع الدكتاتورية، وهو التعمد المنَظَم لتعفين الاجواء و ارساء الفوضى وهذا على ثلاث اصعدة:

اولا علي الصعيد الامني : بقدر ما يسترجع الجهاز الامني قواه المفقودة وبقدر ما يتفاقم استعماله للعنف و التعذيب بقدر ما يتخاذل في مقاومة الجريمة والحفاظ علي امن المواطن و حراسة المؤسّسات العمومية و ذالك بغياب ارادة صادقة و بغياب خطة اي كانت لاستتاب الامن؛

ثانيا علي الصعيد الاقتصادي: لا توجد خطة و لا سياسة لمعالجة اكبر المخاطر التي تواجهها البلاد من انهيارِ اقتصادي و غلق الشركات لابوابها و تفاقم البطالة و المطالب المهنية بالرغم من وجود كثير من الحلول و الارصدة المالية لارجاع الحركة الاقتصادية للبلاد الذي يشكو كما اسلفنا من اخفاق النظام لارجاع الثقه بسلوكات افتزازية ليس لها اي مبرر.

ثالثا علي الصعيد السياسي: و ههنا كارثة اخرى تمشي في نفس النسق، وهي الصراع الاديولوجي و العقائدي و الشخصي الذي يواكب الإنتخابات التي فرضها النظام لصرف النظر عن القظايا المصيرية للبلاد كاسترجاع الامن و ثقة الشعب في الدولة.

هذا امر خطير لا علي مصير الثورة فحسب، بل كذلك علي الوحدة القومية للبلاد، لان الصراع الاديولوجي و العقائدي لا يمكن ان يقام قبل ارساء و انتصار اهداف الثورة وهي ترسيخ مبادئ الكرامة والحرمة الجسدية والمعنوية للانسان كركيزة اساسية لمجتمعنا الجديد و قناعة عند كل فرد منا و التي تمكننا من التصدي للاتجاهات الدكتاتورية مهما كان لونها السياسي.

فانه من الاجرام في حق شعبنا اذا خضنا هذا الصراع الاديولوجي و العقائدي قبل ارساء مفاهيم ثورتنا و تشبعنا بها، و كذلك يكون من الاجرام في حق شعبنا اذا خضنا هذا الصراع في ضل النظام التجمعي الذي فرض علينا هذه الإنتخابات في غير وقتها كعامل اساسي لتعفن الاجواء السياسية والتسريع في قلب الرأي العام علي الثورة، و هذا ما تأكده الاستطلاعات الاخيرة حيث يضع الكثير الاولوية لاستتاب الامن قبل تحقيق اهداف الثورة، و هذا بلا شك بداية النهاية اذا لم نستدرك الوضع و لم نعد النظر في السياق السياسي الحالي الذي جرتنا اليه الحكومت الحالية من غير ان ننتبه الي نواياها المبيتة.

ان فرض هذه الإنتخابات كمرحلة طبيعية و اساسية للمسار الثوري للبلاد هي مغالطة كبيرة لا يمكن ان نقبلها بهذه السهولة حيث ان هدف الثورة هو ليس الخيار بين اتجاه سياسي او اديولوجي او عقائدي. ان هدف الثورة هو غير ذلك تماما: انما هو تكريس على ارض الواقع و في صلب الدولة و مؤسّساتها مبادئ الحرية والحق في الحياة الكريمة التي قامت من اجلها الثورة و راقت من اجلها الدماء، واستشهد الكثير من شعبنا.

فليس للانتخابات اي دور و اي مبرر في المسار السياسي الذي نمر به اليوم و الذي يقتضي اصلاحات جذرية تجسد على ارض الواقع اهداف الثورة و التي من دونها لا يمكن ان نحميها و لا يمكن ان نحمي انفسنا و نحمي شعبنا من الدكتاتورية التي تعمل الآن علي استرجاع قواها.

فلنترك أُلعوبة الانتخابات و لنكرس جهودنا لحماية ثورتنا بانجاز الاصلاحات الجذرية التي تاخرنا في انجازها والتي اصبحت من الظروريات القصوى و الحيوية للبلاد.

ولعل اول اصلاح جذري و اساسي لحماية ثورتنا و في نفس الوقت لانقاض بلدنا من الاخطار المحدقة به هو اصلاح الجهاز الامني الذي اصبح طوال اكثر من نصف قرن اداة قمع و ارهاب في ايدي الحاكم المستبد، وكاد ان يكون دولة فوق الدولة فكيف لنا ان نتكلم علي اهداف الثورة والحفاظ عليها من دون ان نتكلم علي اداة الظلم والاستبداد و دوس كرامة الانسان و ارهابه و تعنيفه و تعذيبه و قتله.

فان هذا الوضع الذي عهدنا به في زمن بن علي ما زالت تمارسه الحكومة الحالية كما لو ان شيئ لم يحدث في البلاد، فكيف يمكن ان نتغافل عن الجريمة بسكوتنا و لم نتجند لانهاء هذه الممارسات بصفة جدية و جذرية، وكيف يمكن ان نحافظ علي مصداقيتنا عندما ندافع عن اهداف الثورة و لا ندافع عن شعبنا عندما يعًذًب و يُقتل؟

و هذا ما يبين لنا اولوية و ضرورة الاصلاحات و اول اصلاح يحتاج له الشعب و يأمّنه من مخاطر الدكتاتورية هو اصلاح الجهاز الامني لكي ينسجم مع مبادئ الثورة و يصبح مأسّسة في خدمة الشعب بعد ما كان في خدمة الحاكم واستبداده.

:و يمكن ان يكون هذا الاصلاح علي مستويين

علي مستوي الطلبات الاستعجالية؛ و علي مستوي اعادة هيكلة الجهاز الامني:

اماعلي مستوي الطلبات الاستعجالية، فاول خطوة تقوم بها الهيئة العليا لحماية الثورة هي تكوين سلطة جديدة ممثِّلة للثورة مكوّنة من مُفوًّضِين مُكلًّفين بتسير الجهاز الامني علي جميع مستوياته ؛ و تُكلَّفُ هذه السلطة بمهمتين:

1 – اصدار جملة من القرارات العاجلة لوضع حد فوري للانتهاكات والممارسات القمعيّة التي ما زالت تقوم بها قوات الامن من ارهاب و عنف و تعذيب ضد المواطنين الابرار و من بينهم الثوار الذين ضحوا من اجل كرامة كل تونسي و هم يطاردون و يعاملون كمجرمين في حين ان المجرمين الحقيقين يتمتعون بكثير من التسامح؛ ثم وضع حد فوري للظروف المزرية للاوضاع اللا انسانية للسجون و المساجين وهي عار لا يمكن استمراره .

2 – اتخاذ التدابير السريعة والجدّية لضمان الامن للمواطنين بعد اخفاق الحكومة في هذا الميدان و من بين هذه التدابير تشريك المواطنين في الحفاظ علي الامن و اعادة ثقة المواطنين بعضهم ببعض و ارجاع الاخوة والّلحمة التي تحلّي بها الشعب عند الثورة؛

واما علي مستوي اعادة هيكلة الجهاز الامني: يمكن هنا تكليف لجنة متكونة من اخصائين في الادارة و من القضاة و من المجتمع المدني و كذلك من امنيين قد اقصو لنزاهتهم و رفضهم للقمع.

و اخيرا لكي ننهي معضلة جهاز الامن و الاسراع لطي صفحة الماضي يقع تكوين لجنة انصاف و مصالحة للتقصي في التجاوزات التي اقترفت من طرف اجهزة الامن منذ نشأتها الي يومنا هذا، و ذلك للتعريف بصفحة مظلمة من تاريخ شعبنا التي باتت في الخفاء رغم اهميتها القصوي في حياتنا اليومية و تاريخنا السياسي. ان هذا الكشف لا يهدف للثأر و لكن لمعالجة هذه الظاهرة و تسهيل الانتقال الى مجتمع تسوده الطمأنينة على الارواح والاجساد، الذي من اجله قامت الثورة واستشهد الكثير منا.

اما الاصلاح الثاني الذي يجب الانكباب عليه كاولوية لتحقيق اهداف الثورة هو الاصلاح الاقتصادي و يكون هذا كذلك علي مرحلتين: استعجالية و هيكلية.

فالاستعجالية تحدد الاولويات لانقاذ الاقتصاد بمشاركة جميع الاطراف في كل قطاع لايجاد الحلول العملية؛ تحديد الاعانات الاستعجالية للافراد والقطاعات؛ اعادة النظر في التأطير النقابي ليصبح ممثلا حقيقيا للقطاع العُمّالي لكي يقوم بدوره لتجنب الفوضي المطالبية و الوصول السريع لارضاء الجميع و انقاذ اقتصادنا من الهلاك.

اما في ما يخص الاصلاح الهيكلي، يجب تكوين لجنة تنكب علي ابراز الخيارات الكبرى مثل اعادة هيكلة السياحة و اعادة تنشيط الفلاحة ووضع خطة كاملة للنمو بالمناطق النائية.

و في الختام يجب التأكيد علي ان المشروع الانتخابي لا يمت بصلة لاهداف الثورة بل هو مخطط وضعه النظام لربح الوقت لكي يسترجع قواه و يجد المجال للعمل علي تعفن الوضع السياسي والاقتصادي و تهميش اهداف الثورة.

إنه علي الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي ان تمارس مسؤوليتها التاريخية في اصلاح الجهاز الامني و جعله تحت رقابتها المباشرة لكي يصبح اداة تعمل لامن المواطن و ليس لتعنيفه و ترعيبه.

هذا هو الاصلاح الاساسي والمصيري لتحقيق أهداف الثورة، الذي لا يوجد مبرر لتاجيله الى ما بعد الانتخابات، و الذي من دونه لا تحقق اهداف الثورة و لا يحقق اصلاح سياسي و لا تكون انتخابات نزيهة علي الاطلاق.

إنه لفي هذا الاصلاح اختبار للنوايا الحقيقية لرجالات السلطة في الحكومة : اما ان يسارعوا لهذا الاصلاح و اما ان يرفضوه، و عندها تكشف نواياهم المبيتة امام المجتمع والشعب و نكون عندها نجحنا في احباط برنامجهم في ربح الوقت و نتمكن انذاك للتصدي لمؤامرتهم ضد الثورة المحبوكة باسم الانتخابات، و نجند الشعب للدفاع عن الثورة و استرجاع سيادته كاملة قبل فوات الاوان.