المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة
بقلم أنيس العاشق

قبل التطرق إلى مفاهيم الدستور و المؤسسات الدستورية والمجلس التأسيسي هناك مفهوم أساسي من المهم التعمق فيه جيداً وهو مفهوم شرعية السلطة. كما أن من المهم أيضاً فهم تطور هذا المفهوم على مر التاريخ. و الأسئلة التي تتخاصم فيها الألسن هذه الأيام كالهوية و حدود الخطاب الحزبي هي على علاقةٍ إن لم تكن شكلاً أخر للسؤال : أي شرعية سلطة لتونس ما بعد الثورة ؟ و هذا المقال خلافاً لالعديد من المقالات لن يعطي جواباً للسؤال عن شرعية السلطة و انما يحاول بطريقة شبه أكاديمية أن يساعد بمعطيات تاريخية و تقييم للحاضر على التمحيص في السؤال عوض الإجابة عليه بطريقةٍ سطحية.

هناك حادثة ساستخدمها كمقدمة للحديث على شرعية السلطة: من المرجح انكم سمعتم تلك الفتاوي التي صدرت في بعض بلدان الخليج و في مصر أثناء الثورة التونسية و المصرية والتي حرمت الثورة على أولي الأمر و من المرجح أيضاً انكم شعرتم بالإزدراء لأولئك الناس. و لكن الأمر أكثر تعقيدا و يستحق التأمل وسنرجع إلى هذا المثال في ما بعد.

و لنبدأ بالحديث على تاريخ شرعية السلطة. الشرعية هي المبرر للسلطة و الزعامة. في أي تنظيم إجتماعي يحتاج الحاكم إلى تبرير سلطته للحفاظ عليها لأن الطبع الإنساني يولد دائماً الصراع على الزعامة و بدون تبرير لسلطته يجابه الحاكم دون شك بالتحدي. و لفترة طويلة في التاريخ كانت الشرعية مستمدةً من المعتقد. فمثلاً زعيم القبيلة البدائية يزكيه ساحر أو مشعوذ القبيلة و الإمبراطورية الرومانية سرعان ما استغلت إنتشار المسيحية لتستمد منها شرعيتها. و في ممالك أوروبا في القرون الوسطى كان التصور السائد هو أن الملك هو يد الله أو ظله على الأرض و بما أن الوازع الديني كان قويا فإن شرعية ملوك القرون الوسطى كانت قويةً جداً. ثم ظهرت البروتستانتية و ظهر معها التشكيك في السلطة المطلقة للملك و إنتشر التفكير أن واجب الطاعة على رعايا الملك مرتبط بعدم استبداده و أن الرعايا لهم الحق في الثورة إذا أمعن سلطانهم في فساده. ثم جاء القرن 18 بفلسفة الأنوار التي رفضت فكرة سيادة الملك المستمدة من الدين. و إن كانت إنجلترا هي أول من عرف التخلي التدريجي عن السلطة الملكية المطلقة فإن التغير الرئيسي كان مع الثورة الفرنسية (و قبلها إستقلال الولايات المتحدة) حيث تحول مصدر الشرعية من قداسة الملك إلى ارادة الشعب.

أما في تاريخنا العربي والإسلامي فالشرعية كانت دائماً دينية و لم نعرف غيرها حتى بداية هذا القرن. و كان السلاطين والملوك يتفننون في إيجاد أدلةٍ على انتمائهم لسلالة النبي صلى الله عليه وسلم في محاولة لإضفاء شرعيةٍ على حكمهم. و أريد أن أوضح لمن يتساءلون عن معنى البيعة و إن كانت شكلاً من الإجماع الشعبي أن البيعة هي دعم النخبة الدينية و الإقتصادية (وجهاء القوم) للسلطان إي أنها تفضي إلى شرعية اوليغارشية و ليس ديمقراطية. و بعد سقوط الخلافة العثمانية احتدمت الصراعات بين العائلات المالكة في مصر و الأردن و السعودية كل يزعم الأحقية في أن تؤول الخلافة لهم. و كان المشهد مزريا لأن الإنجليز كانوا في الحقيقة هم أصحاب السلطة الفعلية في كل منطقة الشرق الأوسط..

إذاً هذه هي فكرة (مبسطة نوعاً ما) عن تطور شرعية السلطة في التاريخ. و على عكس الغرب الذي تخلص من فكرة الشرعية المقدسة و الدينية منذ القرن 18 دون رجعة فإن عالمنا العربي والاسلامي مازال يتأرجح بين التوق إلى شرعيةٍ مستمدة من إرادة الشعب و التفكير في الرجوع إلى شرعيةٍ دينية مقدسة نظر لها منذ إنتهاء حكم الخلفاء الراشدين. و قد ساهم فشل الأنظمة التي ادعت استمدادها لشرعيتها من ارادة الشعب (الإشتراكية والقومية و التي في الحقيقة بعيدةً تماماً على إرادة الشعب و مؤخراً الأنظمة “الديمقراطية” الزائفة) في حالة التأرجح تلك و ميل أعداد كبيرة من الشباب إلى مساندة فكرة شرعيةٍ دينية “تتجاوز و تصلح أخطاء الماضي”.

و سأعود هنا إلى المثال الأول لفتاوى تحريم الثورة: هذه الفتاوى ليست شاذةً بتلك الدرجة وكان هناك من يساندها سراً أو جهراً و لكن القوة التي برهنت عليها الثورة الشعبية في البلدان العربية اعادت للشرعية الشعبية هيبتها و أمالت كفتها. و لكم أن تتخيلوا ما إذا كنا سنهتف بنفس الشعارات لو كان للثورة صبغةٌ دينية و لو كانت نسبية.

إذاً هذا حالنا و حال الغرب اليوم:

– الغرب الذي تسببت الحروب الدينية في موجات من القتل في تاريخه (ألمانيا مثلاً قتل ربع سكانها في حرب الثلاثين عاماً) و الذي نجحت الشرعية الشعبية فيه في خلق أنظمةٍ صالحة بالمقارنة مع الشرعية الدينية مال نهائياً إلى الشرعية الشعبية و كنتيجةٍ لذلك تراجع الوازع الديني تدريجياً إلى الدائرة الشخصية (و أؤكد على الصبغة التدريجية).

– العالم العربي و الإسلامي الذي فشلت الشرعية الدينية في ضمان صلاح انظمته دون أن تسبب له كوارث كتلك التي حصلت في أوروبا و بعد ذلك فشلت الشرعية الشعبية في اخراجه من أزمته ثم عادت شرعية الشعب في اخراجه من نفقه المظلم بالثورات السلمية. هو اليوم في حالة تأرجح : هناك من يحدثك بكل حماسة على الخلافة الإسلامية وكيف أنها هي الكفيلة بإخراجنا من حالنا و هناك من مازال يحاول إقناع الناس و نفسه أن الذي فشل هي شيوعية لينين و ليس تروتسكي. و غيره مازال مقتنعاً تمام الاقتناع أن البعثية دمرت العراق و لكنها ستنجح في تونس و أن الناصرية التي أهدتنا إلى السادات و البورقيبية التي أهدتنا إلى بن علي هي ما يلزمنا و هناك من يرى الخلاص في الإقتداء بأمثلة الديمقراطية الأوروبية و لا يرون حرجاً في المقارنة بين تاريخ المسيحية و الإسلام و ظروف تدرج الأنظمة الغربية إلى ما هي عليه و تلك التي ميزت تاريخ النظام السياسي في بلدٍ عربي إسلامي كتونس الذي لم يرى بعد نظاماً ديمقراطيا نجح في بلاد عربية عدا أن يعيشه هو. و الباقين و هم أغلبية يتساءلون كيف هي شرعية النظام الذي يصلح لمسلم القرن 21 في بلده المسلمة و العربية و الإفريقية في عصر العولمة و الصراعات التي نعرف و التباعد-التقارب بين بلدان الشمال و الجنوب.

و الأن و بعد هذا الحديث أرجو أن يكون بإمكانكم الجواب بأكثر عمق على السؤال عن أي شرعية سلطة لتونس ما بعد الثورة لأن في الجواب الذي سنجتمع عليه مفتاح مستقبلنا.