لم تعد حجّة الذين سقطوا من الشهداء كافية لإثبات وجود القناصة. بل إنّ الحكومة في شخص رئيسها تصرّ على “نفي أثرهم”. و لعلّ جرائم القتل التي ارتكبت تتحوّل إلى مجرّد إشاعة بمرور الزمن مادام الوزير الأوّل السيد قايد السبسي أكّد “أنّ الاختبارات الفنية التي أجريت على جثث الشهداء لم تثبت وجود طلقات من فوق” و هو يجيب عن تساؤل بشأن القناصة طرحه عضو من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة في جلسة الخميس.
لعلّها لعبة السياسة مع القناصة الذين لا ندري من أين أطلقوا النار: من فوق أو من تحت أو من الخلف أو من الأمام.

و حسب الإجابة التي أملتها الاختبارات الفنّيّة، لا يكون القنص إلاّ من فوق، فإن كان من جهة أخرى فلا تبحثوا عن قناصة و لا عن رصاصة فلن تجدوا لهم أثرا. يُسمح لكم فقط بالبحث في قضايا أخرى و هي كثيرة في تونس ما بعد الثورة. أمّا لعبة القناصة التي كثر الحديث عنها فلها من المحقّقين ما يكفي لكشف ألغازها، و حين تتمّ الأبحاث سيعلموننا بنتائجها في الإبّان كما يقال في لغة الإدارة.

الحكومة تحاول إقناعنا بفكرتها الفنيّة عن القناصة فتحوّلهم إلى مجرّد خيال أو هلوسة مرضيّة لبعض أفراد هذا الشعب الطيّب. و لكنّها بنفيها إنّما تثبت ضعفها و عجزها عن القصاص الذي تطالب به عائلات الشهداء و دعاة العدالة عموما. و هي تحاول ربح المزيد من الوقت فتدّعي أنّ التحقيق جار لكشف كلّ الملابسات حول قضيّة واضحة و شائكة في آن واحد.

و في انتظار أن يتمّ التحقيق و التحقّق ليتحوّل أمل معاقبة من غدر و قتل إلى حقيقة تـثـلج صدور عائلات الشهداء و تطفئ حرقتها، و لأنّنا نتوقّع إغلاق الملفّ بنفي نهائيّ لوجودهم، أردنا أن نساهم في جهود الكشف و لكن عن فصيل آخر من القناصة قد يكون الأخطر في هذه المرحلة التي تمرّ بها البلاد.

فالقنّاصة لمن لا يعلم هم ببساطة لغويّة مجموعة من الصيّادين و القنص هو الصيد. و تونس اليوم مصيدة كبيرة برّا و بحرا، و لسنا مُبالغين في شيء، لأنّ الفخاخ نصبت في كلّ مكان، و لأنّ الصيد الثمين يُسيل لعاب الكثيرين. و المخيف في هذه الغابة أن يتحوّل الشعب و ثورته إلى طريدةٍ ضحيّةً لتكالبِ منْ تربّص به و أخذ يخطّط للعدوان على إنجازه
و تحويله إلى غنائم يستأثر بها لنفسه أو يؤْثِر بها مجموعة من الأفراد تنخرط معه في نصب الشباك نصبا و احتيالا.

و هؤلاء كثيرون جدّا. و لمعرفة ملامحهم و هويّاتهم نصطدم بالأقنعة التي يلبسونها للتخفّي عن أعين من يعملون على كشفهم و فضح مخططاتهم.

و أخطرهم على الإطلاق هم الذين لبسوا قناع حامي الثورة و راعي أهدافها ليكونوا مثل الطاغية الذي ادّعى يوما أنّه حامي الحمى و الدين، فهؤلاء الذين نُصّبوا أو انتصبوا لحماية ثورة الشعب ينطبق على جلّهم المثل القائل ” حاميها حارميها”. و قد سبق القول مفصّلا في ألاعيبهم و خطرها على مستقبل تونس في مقالة سابقة. و هم على كلّ حال منكبّون على الترتيب لمستقبل الشعب التونسيّ كما قالوا لنا و ربّما لمستقبلهم هم كما يقال لنا أيضا.

و يليهم خطورة في القنص لحسابهم و لحساب من يتحكّم فيهم، الإعلاميّون الذين يسوّقون لمشروع ظاهره حريّة التعبير و باطنه خطّة للتدمير، فالمشهد الإعلاميّ الذي يخاطبنا اليوم لم يتخلّص تماما من الذين يتربّصون بثورة الشعب التونسيّ فيمرّرون الفزّاعات بأنواعها و يلحّون عليها (اقتصاد متردّي، تهديدات إرهابيّة، توتّر على الحدود، نعرات عروشيّة…) و قد نجحوا فعلا في بثّ أفكار مخيفة لدى شريحة واسعة من الشعب التونسيّ و أثبتوا أنّ فضاءهم مازال يخضع لمن يرفض نقل الحقائق دون تزوير. و الخلل يتعدّى الإعلام إلى من يتحكّم فيه من الذين حافظوا بعد الثورة على مناصبهم، و من الذين أُسنِدَ لهم كرسيّ فيه الكثير أو القليل من السلطة و التسلّط. و الحكومة التي جاءت أو جيء بها اقتنص بعض أعضائها الفرصة و احتلّوا الموقع الذي يمكّنهم من رؤية أفضل و إشراف أوسع و سلاح أفتك للظفر بمزيد التمكين و الصيد الثمين.

القنّاص الأخطر في تونس اليوم هو كلّ من يخطّط ليخون الشعب و ثورته و أهدافها سواء كان عضوا في حكومة أو هيئة أو حزب أو جمعيّة أو إدارة أو منبر إعلاميّ… و هو الأخطر لأنّه لن يجهز على فرد أو فردين و إنّما يهدّد مستقبل شعب بأكمله. و هو بذلك المسلك و بتلك الخيانة العظمى لا يختلف عن المجرم الحقير من قطّاع الطرق الذين يعترضون المسافرين للاعتداء عليهم و على ممتلكاتهم. فكلّهم قنّاصة يصطادون في المياه العكرة التي خالطتها دماء الشهداء، و كلّهم يتنافسون في الصيد قبل أن يغلق الموسم أبوابه.

ما أخطره من وضع! و لذلك، ما أحوج الشعب إلى مزيد الفطنة و الوعي للنجاة بنفسه و بثورته من مكر أعدائه الذين رفعوا أسلحتهم من وراء ظهره استعدادا لتنفيذ جريمة جديدة يرتكبها قنّاص جديد.