كان الخطاب الذي ألقاه السيد رئيس الحكومة منتظرا جدا باعتباره سيجيب عن أسئلة ملحّة شغلت الشارع التونسيّ أهمّها ما يتّصل بخيبة التوقّع على إثر محاسبة رموز النظام البائد. تلك المحاسبة التي أفضت إلى عدم سماع الدعوى أو إصدار أحكام مخففة أغضبت الحقوقيّين و أخرجت الناس في حرّ أيام رمضان للتظاهر و التعبير عن السخط الذي وجّه إلى أداء الحكومة و اتهمها بتقويض أهداف الثورة و هي تتراخى في معاقبة المسئولين السابقين و تسمح لبعضهم بمغادرة البلاد دون حساب أو عقاب.

لكنّ الخطاب الذي جاء صباحا و أغلب الناس نيام، حتّى أنهم لم يتابعوه مباشرة، لم يأت بالأجوبة المنتظرة، بقدر ما كان تكرارا لما قاله الوزير الأوّل في المناسبات السابقة و هو يذكرنا من جديد بالظروف الكارثيّة أمنيا و اقتصاديا و بالأزمة الليبية المتواصلة، و كلّها عوامل من شأنها أن تربك عمل حكومته، و مع ذلك نجحت على حدّ قوله في التكيّف مع تلك الظروف، و حقّقت مكاسب أهمّها الزيادة في الأجور و تشغيل أعداد كبيرة من العاطلين! ووعد بأنّ حكومته ستواصل عملها لحماية ثورة الشباب المهمّشين بنفس الفريق الذي اعتبره من خيرة الفرق في تاريخ الحكومات التونسيّة و التزم بموعد الانتخابات في 23 أكتوبر. أمّا على مستوى الأخطاء فاكتفى بالإشارة إلى التباطؤ الذي عرفه القضاء في محاسبة رموز الفساد و وعد بخطوات بديلة.

و لأنّ كلّ ما سبق لا يقدّم جديدا باعتباره تكرارا لنفس العلل و الوعود، فإنّ ما شدّ انتباه الجماهير و أثار فيهم تساؤلات متضاربة تعلّق بتلك الغضبة المفاجئة التي جاءت في بداية الخطاب حين كان الوزير يلقي أبياتا شعريّة للشاعر الأندلسيّ ابن حمديس فقاطعه أحد الحاضرين من رؤساء الأحزاب الأمر الذي لم يقبله الوزير فتغيّر مزاجه بسرعة و هو يطلب من مخاطبه أن يلتزم حدود الأدب و اللياقة أو يغادر القاعة، ثمّ قال له بنبرة حادّة “تاقف غادي”!

و الحادثة بذلك الشكل من التشنّج و في ذلك السياق الرمضانيّ تذكّرنا بمن يغضب بسرعة في أيام رمضان بسبب “الحشيشة”، أو تحيلنا على الفخاخ التي تنصبها الكاميرا الخفيّة لضحاياها، و لو أنّنا لا نستطيع أن نقدّر من كان في منزلة الضحيّة: الغاضب أم المغضوب عليه! و اللاّفت أنّ المشهد كان ناجحا رغم أنّ الكاميرا لم تكن خفيّة بل كانت تنقل الأحداث بأمانة على الهواء مباشرة.

الأمر الآخر الذي يجب أن يشدّ الانتباه يتّصل بالأبيات الشعريّة لابن حمديس، فقد تغنّى الوزير مع سابق الإضمار و الترصّد بشيء من شعره الحكيم فقال:
تجيء خلافا للأمور أمور / و بعدل دهر في الورى و يزور / أتيأس من يوم نقل أمسه؟…

و الغريب أنّ دلالة ما قيل تنطبق على التهم الموجّهة للحكومة و هي تخالف أهداف الثورة فتجيئنا بأمور تناقضها بل
و تطالب الشعب بأن لا ييأس من الحاضر و هو يعود بنا إلى الأمس القريب في جهد قد يعطّل الانتقال الديمقراطيّ المرجوّ و يرتّب لعودة النظام السابق بوجوه جديدة أو قديمة يقال عنها “إنّها نظيفة”.

لا نتصوّر أنّ ما قيل شعرا مجرّد صدفة، بل نعتقد جازمين أنّ المعنى المراد جاء بعد بحث و تقصّي لغاية في نفس الحكومة تخالف غاية في نفس الشعب.
و الشعب التونسيّ لا يعرف الشاعر الأندلسيّ ابن حمديس و إنّما يعرف الشاعر أبا القاسم الشابي الذي أطلق صيحة إرادة الحياة فانتشرت شعارا لكلّ الثورات العربيّة. و لا نرجّح أن يقبل الشعب مخالفة الأمور و عودة الأمس، لذلك نتوقّع أنْ تزداد الهوّة اتساعا بين الحكومة و معارضيها، و حينها قد لا ينفع من الشعر إلاّ ما يستجيب له القدر.