لا تستطيع أن تمنع أفكارك من أن تحملك بعيدا و أنت تطالع هذه الهضاب الصّخريّة و الجبال المترامية بينما تلتهم عجلات سيّارتك الكيلومترات بين سيدي بوزيد و الرقاب..
تعرف ما ينتظرك هناك.. تعرف أنّ الأمر لن يكون سهلا.. تعرف أنّك ستعود محمّلا بهموم و أحلام تلك الرّبوع..
تعرف كل ذلك ولكّنك تمضي, بل تزيد في سرعتك و تفكّر بهم حتّى قبل أن يطالعك مدخل المدينة. “الرقاب مدينة الأحرار” بهذه العباره زيّنه أهلها.

مدخل مدينة الرقاب

تصل, تتوقّف, تأخذ نفسا عميقا كأنّه الأخير ثمّ تنزل من السيّارة..
تطرق الباب, يفتح.
تدرك أنّه عيد الفطر.
تتناساه.
تسلّم, يرددن السلام بأحسن منه.
وجهان شابّان ثمّ وجه طاعن في السّن (السيّدة وسيلة) .
الفتاتان هنّ كل ما تبقّي لها في هذا العالم بعد أن سلبت رصاصة غادرة حياة ابنها نزار… الشّهيد. نعت استهلكه الإعلام و تنكّرت له السّياسة.

بيت متواضع.. جدّا.
ولكنّه نظيف.. جدّا.
متواضع كأحلام متساكنيه, و نظيف كقلوبهم و نوايا من بدأ ببنائه قبل أن تمنعه رصاصة قنّاص من اتمامه.
نعم عمره كان 22 ربيعا فقط. ولكن, هنا, الشجاعة و المسؤوليّة ليست خصالا بل لوازم الوجود و ضرورات الحياة.

يقولون أنّ الله يبني لشهيده بيتا فب الجنّة, و لكنّ هذا البيت في الدنيا و بعيد كلّ البعد عن عدالة الخالق..
هذا البيت منقوص, تماما كالثّورة التي بدأها من بدأ في تشييده..
هذا البيت حزين, تعيش فيه عجوز و شيخ و فتاتان.. عائلة الشّهيد!

هنا تجد نفسك أمام سؤال وجودي: “ما تراك قائل؟”
عيدك مبروك؟
كل عام ونتوما حيّين بخير؟
جمل تبدو لك حينها غبيّة, تعرف جيّدا أن لا معنى لها هنا!
الآن و الهنا أقوى من أيّ تعبير.

تمنح الأم قبلة على جبينها الطاهر, جبين أم الشّهيد.. ثمّ تلازم الصّمت.
ماذا يمكنك أن تقول؟ لا شيء..
ماذا حملت لها من أخبار؟ لا شيء..
القتلة لم يحاسبوا بعد, و هي تعرف ذلك..
الشّعب, أبناء و طنها الذين مات من أجلهم ابنها, نسوه أو تناسوه.. هيّ تعرف و تعيش ذلك..
تصمت.. ذاك أبلغ الكلام.

تدخل البيت و تجلس قبالتها..
بحرج, باحترام يبلغ درجة الخشوع تسألها: “آشنيّة حوالك ممّيمتي؟”
تسيل دمعة منها, تعرف السّبب. ممّيمتي؟! هل لي الحق في قول ذلك؟ هل أنا أهل لهذا الشّرف؟
هذا ما تقوله لنفسك. الاّ أنّها تنقذك من حيرتك, حتّى حزنها لم يُنسها كرم الضيافة.

السيّدة وسيلة, أم الشّهيد نزار سليمي


تأخذك بالحديث عن نفسها و عن ابنها و عمّا تعيشه الآن, عن ألمها..
الألم هنا جليّ, لا كالقنص خفيّ, لا تراه الاّ أعين الشّهيد و فوهة بندقيّة أنكروا وجودها..
رصاصة القنّاص أردت نزار شهيدا.. و رصاصة النكران  تكاد تقتل أمّه!
http://www.youtube.com/watch?v=SsoZAE_rMgE

تنتبه أنّك  لم تتكلم منذ أن دخلت, و أنّها لم تتوقّف عن الكلام طوال ذلك الوقت.
تفهم أنّ مجرّد استماعك لها يواسيها و يخفّف من مصابها, و لو قليلا.
يا اللّه.. كم جحود أنت يا شعبي!
أتبخل بالقليل على من أعطاك كل شيء؟!

ينتابك حينها احساس رهيب بالقهر و الغضب تقمعه في أعماقك بابتسامة هي كل ما لديك لتعطيه.. الى حين!
تغادر بيتها ثم المدينة بأكملها و لا تستوقفك في الطّريق سوى لوحات حائطيّة تجسّد شهداء تونس في الرقاب, و من بينهم نزار..
تتعرّف على صورته بسهولة, لأنّها طبعت في وجدانك!

صور حائطيّة لشهداء الرقاب, انجاز الشاب أكرم توجاني

لتخليد بطولة من قام بالثّورة... لوحة أنجزها بعض أبناء الجهة


 

تدخل بيتك أنت, مستنزفا و محبطا بالكامل.
تغمض عينيك و كل أملك.. أن لا تحلم بالثّورة.

آخر ما يجول في خاطرك قبل أن تنام هو عهد تقطعه على نفسك بأن لا تنسى

مجموعة من الصور التقتها في زيارتي لمدينة الرقاب