By mirimcfly, Flickr

بقلم أبو عبد الله بن عبد الله

لا تسقني كأس الحياة بذلّة *** بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل
مــاءُ الحياة بـذلـّــة كـجـهــنّـم *** وجـهــنــّــم بـالعــزّ أطــيــب مــنـزل
عنترة

أخطّ لكم هذه السطور وأنا لم أغادر بعد الديار التونسية، أو على الأصحّ المياه التونسية، فأنا جالس الآن في الباخرة التي تعود بي للمرّة الواحدة والسبعين بعد المائة ألف إلى أوروبّا، مخلّفا ورائي تونس جديدة، وشعبا يتجدّد، ويتعلّم، ويؤسّس… فتونس التي أغادرها اليوم ليست هي تونس التي غادرتها السنة الماضية ولا السنوات التي سبقتها… وهي كما قيل قديما:

فما الناس بالناس الذين عهدتَهم *** ولا الدار بالدار التي كنت تألفُ

حقّا، إنّ ناس تونس اليوم ليسوا بالناس الذين عهدتهم. لقد تغيّروا، وتغيّرت عندهم الرؤيا، والعقل، والفكر… انتفضوا ونفضوا عنهم ثوب الإذعان والخنوع، وأزاحوا من حولهم عقدة الخوف الذي كبّلهم عقودا متتالية، حتّى تبدّدت تلك “الغُمّة” التي كانت جاثمة فوق رؤوسهم، واستجاب لهم القدر أخيرا، فكست وجوههم مسحة من الحرّية والكرامة لا تُقدّر بثمن… لو لم يكن للثورة التونسيّة عدا هذا المكسب الوحيد، الحرّية، فإنّها تكون قد حقّقت هدفها فوق كلّ التوقّعات، بل فوق كلّ الآمال. فالحرّية، لناس تلدهم أمّهاتهم أحرارا، هي أولى أبجديات الحياة، وهي الأساس الذي يرتكز عليه، ومنه ينطلق، كلّ نظام اجتماعيّ يحترم الإنسان، ويضع إنسانيته فوق كلّ الاعتبارات وقبل كلّ الأولويّات…
وخلال الصائفة الماضية لمستُ من الحرّية الشيء الكثير في تونس، وذلك لأوّل مرّة منذ بُعثت إلى الوجود، واشتممت رائحتها، وكدت أذوق طعمها بلساني. فقد رأيت الناس يتكلّمون بطلاقة، واستمعت إليهم يخوضون في شتّى المواضيع، من مختلف المنابر، خطأ أم صوابا، وجهرا لا همسا، بدون الالتفات نحو أكتافهم خشية مبلّغ أو “صبّاب”، وبدون أن يُسألوا عن أقوالهم إلاّ أمام العقل والمنطق. ذلك هو الكسب الكبير للثورة التونسيّة، الحرّية، حرّية الرأي، حرّية القول، حرّية النقاش، حرّية النقد، حرّية المعارضة… فمن النقاش يسطع الحقّ، وبالنقد نقوّم الخطأ، ونتفادى الزلل، ونسدّ الخلل، ومعارضك ليس عدوّك، بل حليفك طالما إنّه يساعدك على التوقّي من الأخطاء، والانسياق وراء الأهواء، وطالما إنّه يعارضك بطرق حضاريّة، ووسائل مدنيّة… فالاختلاف رحمة، وبضدّها تتبيّن الأشياء…

أمّا عن امتداد الحرّية التونسيّة على أرض الواقع، وعن مدى تجسّدها في الحياة اليوميّة وفي العلاقات بين الناس، وبين الناس والسّلطة بمختلف مستوياتها، فذلك أمر، وإن كان يسير في الاتّجاه الصحيح، ومن حسن إلى أحسن، فإنّه لا يزال قابلا للتحسين، بل للكثير من التحسين، حتّى أنّ الحرّية في تونس تبدو مثل الرضيع الذي ما إن بدأ يحْبو قبل التمكّن من المشي… إلاّ أنّه يتنقّل مع ذلك، ويجاهد بغية الالتحاق بحاجته، شأنه شأن مواطني تونس ما بعد الثورة الذين رأيتهم يحْبون ويجاهدون لتعلّم المواطنة، والحرّية، والديمقراطيّة، هذه العروس التي بالغت في الدلال وأمعنت في المطال…

غازل الشعب التونسيّ الديمقراطيّة كما لم يغازلها شعب، على كلّ لون وضرب… غازلها بالحسنى، بلسان سلميّ، بلغة الحضارة، باسم المنطق، بمنطق الحقّ، بحقّ الكرامة… النافع اللهǃ ظلّت الديمقراطيّة ممتنعة على التونسيّين منذ بداية العهد الجمهوريّ، أي على امتداد ستّة عقودǃ لم تعرف تونس طول هذه الحقبة أكثر من رئيسين جاء كلّ منهما بالتصفيق والتهليل ولم يتزحزح عن سدّة الحكم إلاّ “على نتن”، مخلّفا وراءه صحراء قاحلة، في بلاد تُنعت بالخضراء، لم تنمُ فيها حرّية، ولا ديمقراطيّة… ولا يفرحون…

رئيسنا الأوّل، بعد أن “كمبن” لخلع الباي، حلّ محلّه، واتّخذ له مكانا ومكانة تتّسع لأكثر من عشرة بايات، حتّى انتهى به الأمر لتسليط نفسه رئيسا مدى الحياة. بل بلغ به الغرور إلى أن أطلق على نفسه لقب “المجاهد الأكبر”، مفضّلا ذلك على لقب “سي الحبيب” الذي كان يناديه به الشعب التونسيّ في احترام ما بعده احترامǃ هذا الرئيس الذي حمله الشعب على الأعناق، بصدق صارخ وبمحبّة لا منتهية، جعل من تونس ضيعة له، ومن أهلها خدما عنده. لا أقول هذا من باب المبالغة. تذكّروا… تذكّروا الاحتفالات بعيد ميلاده، وكيف كانت تقف البلاد لهذا الحدث. تذكّروا الوفود الواردة من كلّ الولايات تطبّل وتهنّئ وتبايع، وتهدي أثمن ما عندها. تذكّروا القصور، وحتّى القبور… تذكّروا مسيرته العمياء في طريق التعاضد وتنكّره لها فيما بعد، وانقلابه عن صاحبها. تذكّروا ثورة الخبز، وما شاهدته من قمع ودم. تذكّروا إقامته الطويلة للعلاج في سويسرا وما تبعها من شطحات في ردهات الحكم…

أقول هذا لما أراه وأسمعه من حملات إعلاميّة منظّمة تستهدف إضفاء قداسة سياسيّة على العهد البورقيبيّ. لهؤلاء المطبّلين الجدد، الحالمين ببقاء دار لقمان على حالها تحت عصا حزبهم المتهالك، نقول: انتظروا حتّى يموتوا كبار الحومة… فالتاريخ لا يرحم، ولا يقبل بتعديد الإيجابيّ دون السلبيّ، وهو خير مفنّد لادّعاءاتكم المشبوهة…
أمّا الرئيس الذي أزاح بورقيبة واستحلّ منصبه، فإنّ الجرح البليغ الذي خلّفه عهده لا يزال ينزف، ولا تزال صفحة عبثه السياسيّ والاقتصاديّ مفتوحة… يكفي أن نتذكّر فقط صولاته الانتخابيّة، وأنّه لو تُرك وشأنه لكان انتخابه المقبل بمائة وعشرة بالمائة…

ولّى هذان العهدان إذن، في ستّين داهية، وإلى غير رجعة إن شاء الله. عهدان متشابهان، ثانيهما، والحقّ يُقال، أنتن من الأوّل، وأقذر منه، وأشدّ وطأة وضررا، إلاّ أنّه مع ذلك امتداد طبيعيّ له، وما هذا إلاّ وليد ذاك. فرئيسنا الثاني كبر وترعرع في صلب النظام البورقيبيّ، حيث تعلّم، أوّل ما تعلّم، المكر السياسيّ، والمراوغة، والخديعة، و”التكمبين”… كما إنّه واكب، من مناصبه المختلفة، المؤامرات والتحالفات، والدسائس والنقائص، وتابع مرض الرئيس وعجزه، وأوامره المتضاربة والمتهاطلة… وعاين تعفّن النظام الذي لم يعد قائما إلاّ بالخوف والقمع، وبمبدأ فرّق تسدْ، حتّى بدت له لقمة الحكم سائغة، لا تنتظر إلاّ من يزدردها، فوثب عليها… وفاز باللذّة الجسور…

إلاّ أنّ أمرّ ما في هذا السطو على الحكم ليس خلوّه من أبسط قواعد الديمقراطيّة، بل ما رافقه من استبشار، وتحيّة ومبايعةǃ لم يعترض الرئيس المنقلب معترض، ولم يقف في وجهه أحدǃ بل إنّ خيرة رجال تونس تسابقوا وتناحروا لخدمته، وتمهيد الطريق أمامه، والهتاف باسمه، وخلع الألقاب عليه، تماما مثل ما كانوا ينحنون أمام الرئيس السابق، كأنّ شيئا لم يتغيّر… مات الملك، عاش الملك، وحاشية الأمس هي حاشية اليوم… وسرعان ما ارتدى الرئيس الجديد ثوب الرئيس المخلوع، وواصل مسيرته الاستبداديّة، منفردا بالرأي والقول والفعل، حتّى قيل يومها، على لسان جُحا التونسيّ، “الكرّيطة تبدّلت والبغل هو هو”، وهي مقولة يمكن عكسها، من باب بضدّها تتبيّن الأشياء، لتصبح “البغل تبدّل والكرّيطة هي هي”… أي، “بالفلاّقي”، كما تكونون يُولّى عليكم…

فكيف كنّا لذلك الوقت حتّى نستبشرَ بالنظام الجديد ونرضى برأسه فوق رؤوسنا؟ وما الذي جعلنا نبارك “التغيير”، ونبايع “صانع التغيير”، ونرضى بأن يُولّى علينا بدون مساومة؟ أجيبونا يا معشر المطبّلين للعهد البورقيبيّǃ ألم يكن ذلك لأنّ هذا العهد استنفد منّا الصبر والطاقة على تحمّله؟ ألم يكن ذلك لأنّه دفع بنا إلى طريق مسدودة، خالية من أيّ نفس ديمقراطيّ، من أيّ أفق ينبئ بقرب الحرّية والفرج؟ أجيبونا قبل أن تقِدّوا عذرية سياسيّة جديدة على مقاسكم عبر تمجيدكم لبورقيبة ونظامه. وإن لم تجيبوا فأفيقوا. أفيقوا فالثورة إنّما قامت لتوقظكم، قامت ضدّ منهج الحُكم الذي فرضتموه علينا، ضدّ عقليّة هذا الحكم، ضدّ طبيعته الاستبداديّة… أفيقوا فالثورة قد أفاق لها الجميع، وهبّ لها الجميعǃ ألم تتّعظوا بما أحدثته الثورة؟ فقد اهتزّت لها البلاد، وارتجّت لها المنطقة، وأجبرت العالم على مراجعة حساباته الإستراتجيّة، ولا يزال صدى موجاتها يتردّد شرقا وغربا، حتّى غدا مفجّرها، محمد البوعزيزي، مؤهّلا لأن يصبح من أشهر التونسيّين على وجه المعمورة، إن لم يكن أشهرهم إطلاقا…

رحم الله هذا الفتى، ولعن كلّ من حاول أو يحاول النيل منه ومن ذكراه الخالدة. لقد أنار هذا الإنسان الطريق لثوّار العالم، ومهّد لهم أسباب الحرّية والديمقراطيّة، بل اغتصبها لهم اغتصابا، كأنّه عمل بمقولة جدّه أحمد شوقي:

وما نيل المطالب بالتمنّي *** ولكن تُؤخذ الدنيا غلابا