سقطت الدولة البوليسية

لأول مرّةفي تاريخ العرب المعاصر، تطيح ثورة شعبية بنظام حكم بوليسي يُعَّدُ من أعتى الديكتاتوريات الأمنية العربية .و بذلك تُعَبِّدُتونس بثورة شعبها طريق الحُرِّيَة للعالم العربي، لأنها أسقطت نموذج الدولة البوليسية السائد عربياً، و الذي يمثل قطيعة جذرية مع نظرية المجتمع المدني . وبالتالي تشكل الثورة التونسية نهاية للخضوع والإذعان في صفوف المواطنين العرب العاديين، الذين ظلوا على خنوعهم على امتداد عقود من الزمن في مواجهة دول عربية بوليسية يدعمها الغرب، وأنظمة حكم تقوم على أساس أجهزة المخابرات والجيش.

لقد أحيت الثورة التونسية آمال شعوبٍ عربيّة أخرى؛ إذ يبدو أن تجربة التحرّر معدية، في الوقت عينه في مصر ،وليبيا، واليمن ،و سوريا، وحتّى في فلسطين. ففي كلّ مكانٍ تقريباً هناك أجيالٌ جديدة يئست من الأنظمة الاستبدادية، وفقدت الأمل في التحرّر من هذه الأنظمة.
وفي ظل سيادة هواجس الخوف و مشاعر القلق من سرقة الثورة التونسية،بعد أن أصبحت حركة النهضة الإسلامية تدير دفة الحكم في تونس ، تحاول هذه الورقة أن تقدم خريطة طريق جديدةمن أجل بناء نظام ديمقراطي جديد في تونس، يَحُولُ دون إعادة إنتاج التسلط البوليسي و الاستبداد من جانب الإسلاميين .

في الواقع، يشكل إسقاط الدولة البوليسية التونسية قطيعة معرفية، ومنهجية، وفكرية وسياسية وأخلاقية مع عالم الاستبداد ومنطقه وفكره وسياساته وأخلاقه.لكننافي الوقت عينه لايجوز أن نكتفي بهذا الإسقاط على الرغم من ضرورته، بل إن المطلوب من المعارضة الديمقراطية أن تقدم تصوراً حديثاً لعملية الانتقال إلى بناء نظام ديمقراطي جديد في تونس، يمنع العودة إلى دوامة التسلط البوليسي من جديد، ولا يسمح بإعادة إنتاجه، حيث أن الخروج من عالم الاستبداد يقتضي تحولا جذرياً في الوعي والممارسة. وكلما كان هذا التصور المنشود إنسانياً وديمقراطياً كان مناوئاً للعنف بجميع صوره وأشكاله ودرجاته.

بناء نظام ديمقراطي
إن قضية بناء نظام ديمقراطي جديد في تونس بعد سقوط حكم بن علي يتطلب تصميماً سياسياً، وأسلوباً جديداً في التعاطي مع واقع المعارضة التونسية على اختلاف مشاربها الفكرية و السياسية، ومع واقع الحكومة الإسلامية التي يرأسها السيد حمادي الجبالي ، المطالبة بإفرادية الواقع ومعقوليته وإنطواء كليته ووحدته الجدلية على التعدد والاختلاف والتعارض.
في الواقع، إن الحلقة المركزية في عملية التحول نحو بناء نظام ديمقراطي حقيقي تتمثل في إجراء السيد حمادي الجبالي مجموعة من المبادرات، وتفتيت التوتر والكبت الموجودين في تونس، وإيجاد قنوات للحوار مع كل حركات المعارضة بلا استثناء، لكي تشارك في النظام السياسي الديمقراطي الجديد ، ومن أجل تهميش الإسلاميين المتطرفين الذين لا يؤمنون ببناء دولة القانون ، و الحريات العامة في تونس.

ومن الواضح أن أوساط المعارضة التونسية الديمقراطية ، ونشطاء حقوق الإنسان في تونس، لا يبدون كثير التجاوب مع النهج الذي تسير فيه الحكومة التي تسيطر عليها حركة النهضة الإسلامية على مفاصلها الأساسية ، وهم لم يظهروا حماسة للإعلان عن تغيير أسلوب الحكم في التعاطي مع هذه المعارضة.

النهضة والمعارضة طرفان معاً سلبيان إزاء الإصلاح الديمقراطي
في ضوء الأنساق المغلقة التي أنتجتها سياسة لا عقلانية بالضرورة في تونس منذ أكثر من عقدين من الزمن ،لم تترك الدولة البوليسية التونسية للمعارضة أي مساحة للاختيار،علماً أن الاختيار من أهم صور الحرية. وبالمقابل لم تر المعارضة في حكومة السيد حمادي الجبالي سوى شر يجب استئصاله، لا سيما أن المهمات الملقاة على هذه الحكومة الإسلامية لجهة إصلاح المؤسسات السياسية و تغيير القوانين التي فصّلها الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي على مقاسه، لتأسيس نظام ديمقراطي جديد ، تحتاج إلى عمل دؤوب قد يستغرق سنوات.

من هنا نقول أن خطاب حكومة النهضة وخطاب المعارضة متواطئان على بقاء الوضع كما هو عليه، إذ إن القول بأن هذه المرحلة الانتقالية التي تمر بها تونس كلها سليمة مثل القول بأن المرحلة الانتقالية كلها فاسدة.
إن مشكلة هذين الخطابين الضدّين لا تكمن في عدم إمكانية التقاء القائلين بهما، وفي عدم إمكانية الحوار بينهم، لأنهم على طرفي نقيض فقط، بل تكمن أساساً في أن أصحاب القول الأول لا يرون في الحكومة الإسلامية شيئاً يحتاج إلى إصلاح، وأصحاب القول الثاني لا يرون فيها شيئاً يمكن أن يصلح، وكل بما لديهم قانعون. أولئك غارقون في إيجابية خالصة قطعت كل علاقة بين النسبي والمطلق، وأقامت نِسْبِّيُهَا مُطلَقاً، وهؤلاء غارقون في سَلبِيَة ٍخالصةٍ، والإيجابية الخالصة سلبية خالصة. فالطرفان معاً سلبيان إزاء الإصلاح الديمقراطي الممكن والواجب. وهذه السلبية عقبة أساسية في طريق التحسن والتقدم.

هذه الخطابات المتضادة بين الحكومة الإسلامية والمعارضة الديمقراطية ، أو المتناقضة تعَادُمياً تفصح عن ثلاث حقائق أساسية: أولاها –إنها نتاج مجال سياسي مغلق موروث . والثانية – أنها نتاج مجال سياسي متشظ ومتناثر لا مركز له ولا نقطة توازن. والثالثة- أنها نتاج رؤية مملوكية إلى السياسة وإلى المجتمع والدولة والإنسان. والوقائع التي تشير إليها هذه الحقائق هي تخارج السلطة والمعارضة، وشلل الحياة السياسية، وإمكانية استيلاء العنف والعنف المضاد في كل حين. وفي ضوء هذه الوقائع بات من الضروري إعادة تأسيس مفهوم السلطة السياسية في نطاق جدلية المجتمع المدني والدولة السياسية، دولة الحق والقانون.