بقلم عماد محنان


لا يكاد يخلو مقال أو حوار للدّكتور منصف المرزوقي من “استعارات طبيّة” واستعمال لمصطلحات
البيولوجيا. فخلفيّته العلميّة والمهنيّة تطبع تفكيره وأسلوب تعبيره بصورة جليّة. وأمر بديهي أنْ تنعكس على لغة المتكلّم مفردات يستعملها لوقت طويل في نشاطه المهني أو في قراءاته. يحدث نوع من سوء الفهم حين يصادف استخدام بعض المفردات التي تقع في دائرة المشترك بين اللّغة اليوميّة التي يستخدمها المتكلّمون العاديّون واللّغة التي يستعملها أفراد مجموعة مهنيّة معيّنة.

لنأخذ مثالا ما يثيره في ذهن المتلقّي العادي نُطق كلمة “تقرير” على لسان خبير جنائي وعلى لسان مُخبر سياسي. فهي في منطوق الأوّل ذات معنى علمي وتولّد شحنة إيجابيّة في حين تعني في المقام الثّاني معنى أمنيّا تسلّطيّا منفّرا بل مُرعبا.
للمفردة شحنة تعبيريّة ــ بعبارة شارل بالي Charles Bally ــ تختلف حسب الانتماء الطّبقي والشّريحي والنّشاط المهني إلخ. والدّكتور المرزوقي نفسه يعبّر عن هذه الحقيقة اللّسانيّة التّداوليّة بوضوح كامل في مقاله : النّجدة!! من يعرف معنى كلمة “سياسة”؟ : “سلْ من حولك عن تعريف السّياسة وستُفاجأ بتباين الأجوبة. إنها نفس الظاهرة بخصوص مصطلحات مثل الصحة والوطن والدّين.. كلّها كلمات نتصوّرها من البديهيات، وحين نخوض في تدقيق معانيها، نجدها تعني أشياء مختلفة لكل واحد”.
ولا أدري حقّا كيف غابت عن ذهن الرّئيس هذه الحقيقة التّداوليّة التي عبّر عنها بوضوح ذهني كامل في مقاله، حين واجهته بعض الاحتجاجات على استخدامه لفظة “جراثيم” في لقائه الصّحفي؟ فقد لاذ الرّئيس بالاعتذار.

ورغم أنّني أبتهج لاعتذاره وأهنّيء الشّعب العربي على إرساء تقليد جديد ينزل بالرّئيس من سماء التّألّه إلى أرض الاعتذار، فإنّني من زاوية النّظر التّواصليّة لا أرى موجبا أخلاقيّا للاعتذار. وذلك على الأقلّ لمعرفتي النّسبيّة بأسلوب الدّكتور المرزوقي في الحوار والكتابة. فبالتّأكيد ليس مدلول كلمة “جراثيم” في ذهن المرزوقي الطّبيب ذي الثّقافة البيولوجيّة مطابقا لمعناها في التّداول الاجتماعي الذي أعطاعا دلالات حافّة أخلاقيّة connotations .
في لغة التّداول الاجتماعي نَصِف المنحرفين والخارجين على القانون بأنّهم “جراثيم”. نعم. هنالك سمات دلاليّة ثابتة في الاستعماليْن هي التي تجعل “الجراثيم” في أذهاننا سلبيّة كما هي في الواقع فعلا.

ورغم ذلك تبقى الشّحنة الأخلاقيّة متباينة فيهما. ففي التّواصل الاجتماعي يدنو استعمال الكلمة من الابتذال اللّفظي بينما يستعمله المتكلّم المتأثّر بتكوينه البيولوجي استعمالا أقرب إلى الموضوعيّة منه إلى الذّاتيّة والانفعال العاطفي. لنفحص السّياق التي وردت فيه هذه المفردة من ملفوظ الدّكتور المرزوقي : “هذه أرض بطبيعتها الإسلاميّة المُعتدلة السنيّة المالكيّة بكلّ ما أنجبت من فطاحل الفكر الإسلامي المتنوّر لن تسمح أبدا لهذ ه [يعني] الجراثيم ـ إنْ صحّ التّعبير ـ بأن تَنبت.”
لنبدأ أوّلا بفحص شحنات المعجم. [أرض، طبيعة، إسلاميّة، معتدلة، سنيّة، مالكيّة، أنجبت، فطاحل، فكر، إسلامي، متنوّر،لن تسمح، يعني، جراثيم، صحّ، التّعبير، تنبت]. لم نختزل إلاّ العناصر الإشاريّة والرّوابط بحكم استمدادها شحنتها التّعبيريّة من مراجعها المقاميّة والسّياقيّة على التّوالي. والسّؤال الذي يُطرح في نطاق تحليل سيكولوجيا الخطاب هو التّالي : كيف يمكن أنْ نتصوّر ملفوظا énoncé متشبّع saturé بالشّحنات الإيجابيّة أن يقبل وجود عنصر”شاذّ” “بالغ السّلبيّة”؟ علينا الرّجوع إلى النّسخة الصّوتيّة لنلاحظ أنّ البنية الذّهنيّة للملفوظ تعكس تقاطع مساريْن: أوّلهما المسار الباني للملفوظ ذاته. والثّاني هو نوع من الميتاخطاب أيْ رجوع المتلفّظ على ملفوظه قبل أنْ يصبح ناجزا من أجل مراقبته على أساس القواعد التّواصليّة التّداوليّة والقيميّة الأخلاقيّة وحتّى الجماليّة.

يتوزّع المسار الثّاني في بنية الملفوظ المنجزة محتضنا البند المعجمي الذي أثار فيما بعد اللّغط الثّلاثي الدّيني والسّياسيي والإعلامي. ويُختزل هذا المسار في [يعني، إن صحّ التّعبير]. ويكشف ذلك عن تردّد جليّ من المتكلّم وعن تسارع العمليّات النّفسيّة المتّصلة بتقويم الملفوظ في البُعد التّداوُلي بمختلف مكوّناته. كشف أيضا عن تجربة المتكلّم وعن رُهاب phobie المُواجهة الإعلاميّة الذي طبع تصريحات الرّئيس وظهرت بوضوح في المؤتمر الصّحفي الذي عقده إبّان زيارته إلى الجزائر، وفيه وصف بعض أسئلة الصّحفيين بـــ”الألغام”.

لماذا أصرّ المتكلّم على التّمسّك باللّفظ رغم تردّده؟ علينا أوّلا أنْ نجيب عن السّؤال التّالي: هل مصدر ارتباك المتكلّم وتردّده بما كشف مسارا ذهنيّا “تقويميّا” valorisant في سطح خطابه، هو الشّحنة السّلبيّة في مفردة “جراثيم” وتنافرها مع أفق التّلقّي أو مع المقام إجمالا؟ نأتي إلى الإجابة من باب إشارتنا السّالفة إلى الرّهاب النّاجم عن تشابك مستويات تكوينيّة ثلاثة في شخصيّة المتكلّم : العلمي البيولوجي والقيمي الحقوقي والبراغماتي السّياسي. وهي مستويات تتّسم بالخصائص التّالية:
تداخلها وصعوبة الفصل بينها.
عدم تكافؤها من حيث القوّة.
تنافرها في بعض السّياقات التّواصليّة.
فلا يمكن للمرزوقي المتكلّم في الشّأن السّياسي أن يتجرّد من نظرة الطّبيب الذي يرى في كلّ خطإ أو خلل ملامح المرض ولا يتصوّر السّياسة إلاّ باعتبارها وقاية أو علاجا. ولا يمكن له في كلّ لحظة حاسمة تغليب مقتضيات الموقع الرّسمي على خلفيّة الحقوقي أو المعارض الذي يتمثّل جوهر وظيفته في الجهر بالحقّ.

هنا نأتي إلى جواب السّؤال الأساسي لنفسّر تمسّك الرّئيس بلفظة “جراثيم” رغم تأهّبه لمناقشتها في مونولوج باطني. ومضمون جوابنا هو غلبة المستوييْن التّكوينيّيْن الأوّل والثّاني أي العلمي والقيمي للمستوى الثّالث أيْ البراغماتي. وإذا عدنا إلى المسار السّيكولوجي الذي وصفناه بأنّه تقويمي، وتمثّله في البنية السّطحيّة structure de surface المُنجزةِ السّلسلةُ التّالية : [يعني، (الجراثيم)، إن صحّ التّعبير]، فإنّنا نتبيّن أنّ هامش الوقت لحظة التّلفّظ قياسي ولا يسمح بحسم أولويّة المستوى التّواصلي البراغماتي على مستوييْن أعمق منه تكوينيّا وأسبق منه زمنيّا في تجربة المتكلّم. رغم ذلك اشتغل المسار التّقويمي سيكولوجيّا اشتغالا توفيقيّا يجد تفسيره أيضا في التّحليل اللّساني التّداولي الذي يقرّ علميّا بتباين استعمالات المتكلّمين بلغة واحدة. هذا ما تعبّر عنه اللّسانيّات بالاستعمال الخاصّ (وفي بعض التّرجمات الاستعمال الاصطلاحي) usage idiomatique
« On appelle idiome le parler spécifique d’une communauté donnée, étudié dans ce qu’il a de particulier par rapport au dialecte ou à la langue auxquels il se rattache. » Jean Dubois : Dictionnaire de Linguistique, 1973 , p250.

ليست “جراثيم” المرزوقي مطابقة في معناها ولا في شحنتها التّعبيريّة لـ”جراثيم” المتكلّم العادي في اللّهجة التّونسيّة ولا حتّى في اللّغة العربيّة. فليس في ذهنه شيء من الشّحنة السّلبيّة (المقزّزة) المتولّدة من الدّلالة الاجتماعيّة الحافّة التي أثقلتها بسمات معياريّة normatives.

وحتّى لا يلتبس تحليلنا بالمقاصد التّبريريّة تكفي إحالة على الحقل الدّلالي (الطّبّي البيولوجي) في مجموعة من مقالات المرزوقي التي ألّفها حديثا.
مقال : النّجدة!! من يعرف معنى كلمة “سياسة”؟
[صحّة، سيكولوجيا، صداع مزمن، المستشفيات، طبيعتها السّرطانيّة، المشاكل، الموت باكرا، جينة العدل، جينة الظّلم، الدّماء، حفظ النّفس، أخطر، البقاء، كائنات حيّة، النّسل، الحياة، الطّبيعة، تشلّ].
مقال : ديمقراطيّتنا النّاشئة بين براثن المستهلك وأنياب المقاول.
[عقل باطني، الخطر، تعاني، تسميم، نوبة، فاسد، وسخة، الدّم، الموبوءة، داء عضال، ماتوا، يَلد].
مقال : أبشروا انتهى النّظام السّياسي العربي القديم.
[دم، طاقة، يتفحّصه، طبيب، مضطجع، عكاكيز، حرقوا وجهه، هَوس، بقاء، مرض عضال، العلاج، الأطبّاء، مرضه الطّويل، مستشفيات، يموت، الآلام، مات].
مقال : هل بدأ غرق الباخرة وهي مازالت راسية؟
[ّالعلاج، الوقاية، تفحصها، أخطر الأمراض، المولودة، آلام المخاض، الموت سياسيّا].
مقال : حتّى تعود كلّ الأضواء إلى الأخضر.
[وقاية، علاج، أعراض].
الاستعارة البيولوجيّة الطبيّة هي التي يحيا بها المرزوقي وبها يرى العالم والإنسان والوطن. وإذا كنّا جميعا في منظور لايكوف وجونسن مؤلّفيْ كتاب “الاستعارات التي نحيا بها” ــ “Metaphors We Live By” by George Lakoff and Mark Johnson ــ نتمثّل التّجربة ونتواصل وفق أنماط من الاستعارات، فإنّ لكلّ فرد فينا استعاراته الخاصّة التي تختزل تجربته الخاصّة.
وللقاريء المُتابع للشّأن السّياسي أنّ ينزّل هذا التّحليل في إطار المعطيات والظّروف التي ألبستْ الخطاب دلالات لا يتّحمّلها.