إدارة الديمقراطية بعقلية التنظيم كارثة، وعدم ادارك منطق المرحلة التاريخية والحاجة لمنهج تفكير جديد لأجيال مختلفة سيؤدي لضياع مصالح كثيرة… الزمن ليس في صالحنا ولم نعد نملك ترف “التجربة والخطأ” في ظل أزمة اقتصادية طاحنة ومناخ دولي متربص ويخطط لإفشال الثورة والتجربة الديمقراطية الوليدة… واجبنا اليوم فتح عقولنا للنقد وأعيننا على خيارات أوسع، فالأمور لا تحتمل العناد أو الدفاع المجاني عن كل تصرف أو تصريح لأي طرف على الساحة. لا يجب أن نغفل لحظة عن مكافحة الفساد ومحاربة الفقر وإعلان الحرب على البطالة، وهناك أولوية قصوى لمواجهة الفساد الذي صار هيكليا وذلك عبر وسيلتين، الأولى هي التفعيل الصارم لمبدأ سيادة القانون والثانية هي إعطاء كل صاحب جهد ما يستحقه من أجر يحفظ كرامته ويغنيه عن انتهاك القانون لسد حاجاته الأساسية.

الثروة البشرية هي أكبر وأهمّ ثروة في بلادنا والاستثمار في الإنسان هو شرط التنمية والتقدم، وبناء على ذلك وجب علينا أن نركّز جهود المجتمع والدولة في ستة رافعات وحوامل للتنمية الحقيقية ولتحقيق أهداف الثورة في العدالة والتقدم الاجتماعي والاقتصادي، وهي:

1 ـ الزراعة وتحقيق الأمن الغذائي
2 ـ الرعاية الصحية هي أمُّ الحقوق
3 ـ ترشيد علاقة التعليم بالاقتصاد
4 ـ الثقافة من أجل مجتمع الكفاءة
5 ـ الحق في العدل وحماية البيئة في العلاقات الدولية
6 ـ حضارة “اقرأ” والرحمة للعالمين.

نجهر بالقول أننا نؤمن بمجتمع يقوم على فكرة الالتزامات المتبادلة والعهود، أي يُؤسّس على تصور واضح للعلاقة بين الحق والواجب والتراضي من جهة أولى، وتقبّل أسبقية القيام بالواجب على المطالبة بالحق من جهة ثانية.

اليسار الإسلامي تيار ديمقراطي يستمدّ الفكرة المؤسّسة له من تفعيل القراءتين، قراءة الواقع وقراءة الوحي، يعمل على تأكيد مدنية دولة المواطنة وتداول السلطة، وأولوية العدل والحرية وتوحيد الله. نسعى لأن تكون بلادنا آمنة يسودها العدل بين الناس في كلّ الجهات عبر العمل المدني، والبناء الديمقراطي المرتكز على الهوية الحضارية للأمّة، والجهاد الأهلي من أجل العمران، وتفعيل البناء المغاربي، ونشر ثقافة الرحمة في العالمين.

نؤمن بأنّ المرجعية الإسلامية لا يمكن عزلها في غرف البيوت والمساجد، بل تشمل العمل اليومي والسياسي والاقتصادي، وبنفس القدر نرى أنّ النشاط الإنساني السياسي والفكري هو مجرّد اجتهاد يقبل الاختلاف، وأنه من الضروري الفصل بين الاختصاصات الثقافية والدعوية والسياسية… ومجالات كلّ منها، من أجل كرامة الإنسان وتنمية البلاد وتحقيق المصالح العليا للمجتمع الأهلي.
وقبل الإجابة على سؤال من نحن وماذا نريد ؟ يعتقد اليسار الإسلامي بأن وطنا حرّا كريما يحتاج كلّ طاقات أفراده واجتهادات مجموعاته، ويؤمن بأنّ التنمية والتقدم يكونان بالعمل على الحدّ من تدهور الطبقتين الوسطى والفقيرة في بلادنا للخروج من الوهن الاقتصادي والاجتماعي، وينحاز بقوّة للمشترك الإنساني بنصرة قيم الحرية والعدل والرحمة.

كما أننا نؤمن بالمشترك الإنساني والوطني المبني على أنّ الطريقة المثلى لبناء وطن للجميع هي سيادة القانون وتفعيل دور المؤسسات القائمة واستحداث مؤسسات علمية لسياسة التنمية، وردّ الاعتبار للعمل كقيمة أساسية وتأصيل قيم الحرية والكرامة والعدل، وأنّ الشعب مصدر السلطات التي يجب الفصل بينها واستقلال كل منها عن الأخرى في إطار من التوازن العام، ويتضمن ذلك حق الشعب في أن يشرع لنفسه وبنفسه القوانين التي تحقق مصالحه، وأنّ المواطنة هي أساس العلاقة بين أفراد الشعب، والمساواة الكاملة بين المرأة والرجل في الأهلية السياسية، وتأكيد حرية الاعتقاد واحترام الكرامة الإنسانية وجميع حقوق الإنسان المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وحق التداول السلمي للسلطة عبر الانتخاب والتعددية السياسية، والتأكيد على احترام حرية الصحافة والإعلام وحرية الرأي والتعبير عنه والدعوة إليه وحرية تدفق المعلومات… والحق في تشكيل الأحزاب السياسية عبر الإخطار والإعلان العام فقط، وتفعيل المؤسسات من اتحادات ونقابات وجمعيات ونوادٍ وغيرها بما يرسخ التوازن في علاقة الدولة بالمجتمع المدني، وتجريم الاعتقال السياسي وحظر الممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان ومعاقبة من يثبت اعتدائه على تلك الحريات، وتحقيق استقلال القضاء استقلالا تاما عن السلطة التنفيذية، وتكريس حياد الإدارة بالضمانات القانونية للعاملين بها بموجب القواعد المحررة في شأن مدة خدمتهم وترقياتهم وتكليفهم بالمهام الوظيفية.

هذا هو المشترك الإنساني والوطني الذي نؤمن به، فما الذي يميزنا عن غيرنا من حيث الرؤية والمصالح ؟
نرى في اليسار الإسلامي، أنّ الثروة البشرية هي أساس النهضة الاقتصادية الحقيقية وهى الهدف والغاية القصوى من تنمية الخبرات والكفاءات الفكرية والمهنية والحرفية، وتحقيق أهداف الثورة مشروط بالاستثمار الكبير والجاد في البشر عبر محورين، الأول هو ضمان الحياة الكريمة لهم والثاني هو تنمية ملكاتهم وصقل مهاراتهم وإطلاق مواهبهم.

لا نرسم سياستنا الاقتصادية في فراغ، فهي من ناحية ترتبط ارتباطا وثيقا بقراءتنا لطبيعة الأزمة الاقتصادية التي تعانى منها بلادنا، وترتكز من ناحية أخرى على علم الاقتصاد وعلى الاستفادة من التجارب المختلفة في العالم. الموازنة بين رؤيتنا السياسية لإدارة الاقتصاد وهى ثابتة من زاوية تعبيرها عن المصالح العليا للفقراء والطبقة المتوسطة، وبين السياسات المقترحة المتغيرة بتغير الظروف الاقتصادية ومصالح الشركاء في الوطن من أصحاب الأعمال والبنوك. تتضح الرؤية حول هذه النقطة في 14 محور:

أ ـ الحرية الاقتصادية هي أحد مفاتيح بناء النهضة الاقتصادية المنشودة، ولا يعني ذلك في منظورنا تقليص دور الدولة إلى حد تخليها عن مهامها. نرى أيضا أنه في لحظات الأزمات الكبرى يكون للدولة دورا استثنائيا ينتهي بعد تجاوز الأزمة، وهو ما تفعله الدول الحديثة مع أزمات الكساد مثلا حيث تقوم الحكومة بتبني مجموعة من المشروعات والبرامج الهدف منها القضاء على البطالة ومساعدة الفئات الأكثر تضررا من الأزمة، أو ما تفعله بأشكال مختلفة لمواجهة الأزمات المالية التي تعصف بها من حين لآخر، مع ضرورة احتفاظ الدولة بملكية حصة مؤثرة في القطاع المصرفي تتناسب في كل مرحلة مع درجة النمو الاقتصادي، بما يسمح بتوفير التمويل اللازم للصناعات والمشروعات الإستراتيجية التي تحجم البنوك الخاصة والأجنبية عن الانخراط فيها لأنها ليست مربحة أو تنطوي على مخاطرة.

ب ـ تحقيق العدالة الاجتماعية بالإرادة السياسية فالسوق لا يمكنه أن يقوم بهذه المهمة وهو عاجز عن إحداث التوازن الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، وهى من وجهة نظرنا من أهم مكونات الاقتصاد السياسي للدولة وليست مجرد “رعاية الاجتماعية” وصدقة، كما أنّ العدالة الاجتماعية في نظرنا ليست مشكلة توزيع ورفع المستوى المعيشي لفئات الشعب وإنما هي أيضا وبالأساس مسألة تتعلق بإنتاج الثروة وإنماء القدرة على خلقها وابتكارها.

ت ـ حماية البيئة وهى عندنا هدف في حد ذاته لا وسيلة، فالإنسان وفق منظور اليسار الإسلامي مكلف بحماية البيئة والحفاظ عليها، والسوق لا يمكنه القيام بهذه المهمة، فما لم يكن هناك دور للدولة فإن المشروعات الاقتصادية لا تأخذ في اعتبارها، عند حساب المكسب والخسارة، التكلفة المتمثلة في تدمير البيئة، وهى تكلفة باهظة يدفعها المجتمع كله.

ث ـ توسيع البنية الأساسية وصيانتها المستمرة، والبنية الأساسية لا تشمل فقط المتعارف عليه بالبنية التحتية كالمرافق العامة وإنما المقصود هو البنية الأساسية اللازمة لأي تطور اقتصادي عموما أي البنية التعليمية والتكنولوجية والبحث العلمي.

ج ـ رفع معدلات النمو لابد وأن يصاحبه ارتفاع محسوس في مستوى المعيشة، فلا يمكن الاعتماد فقط على معدل النمو دليلا على التحسن الاقتصادي، فمعيار التنمية الذي نتبناه يضم إلى جانب معدلات النمو إشباع الحاجات الأساسية لدى الغالبية العظمى من المواطنين والمتمثلة في المأكل والملبس والمسكن والصحة والتعليم، ومن المهم إيجاد فرص عمل تحقق ذلك الحد المطلوب للحياة الكريمة.

ح ـ نرى أنه لا يمكن تحقيق سياسة نقدية سليمة وناجحة إلا إذا تمتع البنك المركزي باستقلالية تامة حقيقية تحميه من تدخل الحكومة وتأثيرها على قراراته، والبنك المركزي باستقلاليته يستطيع أيضا الإسهام الكبير في عملية التنمية عبر تقديم الحوافز للبنوك لإتباع سياسات ترشيد الإقراض الاستهلاكي والتوسع في الإقراض الإنتاجي.

خ ـ بالنسبة للبورصة نرى من الأهمية بمكان توفير الأطر التشريعية والرقابية والمحاسبية اللازمة لدعم هذا السوق، وأن تتسم المعاملات بأعلى درجات الشفافية بحيث تتم كافة الممارسات الإدارية في ظل تبنى مبدأ الحوكمة الرشيدة.

د ـ تشجيع الاستثمار لابد أن يتم في إطار أولويات الخريطة الاستثمارية التي تحددها الرؤية السياسية وفق طبيعة المرحلة، كما نرى أن واجب الدولة أن تسعى لتنفيذ تلك الأولويات عبر الحوافز… كأن تقدم مثلا الحوافز للمشروعات الاستثمارية الإنتاجية، وأن تقدم حوافز أكبر للمشروعات ذات العمالة الكبيرة كونها تسهم في حل مشكلة البطالة.

ذ ـ نرى أن المنظومة الضريبية هي أحد أهم عناصر السياسة المالية لأنها الأداة التي تحقق التوازن بين دفع النمو الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية، ومن هنا فالسياسة الضريبية لابد وأن تقوم قبل كل شيء على خلق مناخ من الثقة مع الممولين عبر تفعيل مبدأ سيادة القانون من ناحية ورسم سياسة ضريبية عادلة من ناحية أخرى، ولا يجوز أن تتحمل الفئات الأضعف العبء نفسه الذي تتحمله الفئات الميسورة ولذلك نرى أن يتم رفع حد الإعفاء الضريبي بحيث يشمل متوسطي الدخول مع كون الضريبة تصاعدية على دخول الأفراد والإبقاء عليها متساوية على المشروعات الخاصة كي تخلق الثقة بين الحكومة والممولين. ومن المهم أيضا أن تميز السياسة الضريبية بين المشروعات الإنتاجية والاستهلاكية عبر الحوافز والإعفاءات المختلفة، ونرى تعديل المنظومة الضريبية على نحو يسعى لعلاج الخلل الشديد في الجهات فيتبنى اليسار الإسلامي مشروعا لخلق نظام ضريبي يختلف باختلاف الجهات وهدفه تشجيع الانتشار المتوازن في كل مناطق الجمهورية.

ر ـ إصدار قانون ملزم لكل من القطاعين العام والخاص بحد أدنى للأجور وربطه بمعدل التضخم والتعامل مع الفجوة الهائلة بين أعلى الأجور وأدناها.

ز ـ لحماية المستهلك نرى أهمية إطلاق قوى المجتمع الأهلي والسماح لها بالعمل الرقابي، فالمجتمع هو الرقيب الأهم القادر على حماية المستهلك.

س ـ لا يمكن للنهضة الاقتصادية أن تتحقق دون مجتمع حي يدعمها ويسهم في إنجازها، فالمجتمع هو المولد الرئيسي للأفكار ومن ثم نرى أن على الدولة بمؤسساتها المختلفة أن تنفتح على كل مؤسسات المجتمع الأهلي وتشجعها وتتعامل بجدية مع الأفكار والاقتراحات التي يقدمها المواطنون بشأن التطور الاقتصادي. نؤمن بأن قدرة المجتمع على جذب الابتكارات وتشجيع القدرات الإبداعية لأبناء الوطن لا يتأتى إلا في مناخ موات يسمح لتلك الأفكار أن تخرج إلى حيز التنفيذ. ضرورة تفعيل القوانين الخاصة بحقوق الملكية الفكرية يسهم ليس فقط في تدفق الأفكار الايجابية ذات القيمة المضافة، بل يشجع أيضا على جذب الاستثمارات وتوطينها، خاصة المتقدم تكنولوجيا منها. تشجيع حرية إنشاء الجمعيات الأهلية بشتى أنواعها من شأنه أن يؤدى إلى تفجير طاقات المجتمع وإسهامه في خلق المشروعات التي توفر فرص العمل وتدعم المشاركة الشعبية في المجال العام وتسهم في تطوير الثقافة المدنية.

ش ـ تشجيع المؤسسات الأهلية على جمع أموال الزكاة وتوجيهها ليس فقط للأعمال الخيرية وإنما أيضا للمشروعات التنموية.

ص ـ رغم أن مصادر الزكاة والصدقات معتبرة ويجب تشجيعها إلا أن محاربة الفقر ومساعدة الفقراء هي إحدى أهم مسئوليات الدولة في كل بلدان العالم بما فيها أعتى الرأسماليات، والفقر لا تكون معالجته إلاّ عبر برامج تنموية هدفها زيادة دخل الفقراء ودعم الخدمات المقدمة لهم. وتمثل أزمة البطالة مشكلة اقتصادية واجتماعية في آن واحد، وتحتاج إلى مواجهة في الأجلين القصير والطويل، فيتحتم على الدولة عاجلا دعم المشروعات الصغيرة والإسهام في المشروعات متناهية الصغر، أما في الأجل المتوسط، فيتحتم على الدولة توسيع الطاقة الاستيعابية للاقتصاد الوطني وذلك عبر مناخ سياسي واقتصادي وتعليمي وتشريعي يشجع على نمو الاستثمارات الحقيقية العينية المحلية والأجنبية.

ض ـ بلادنا لا تعيش في معزل عن العالم ولذلك فاليسار الإسلامي ينتمي إلى التيار العالمي الذي يزداد كلّ يوم قوة، والذي يرى أن نوع العولمة الاقتصادية الجاري صنعها من جانب القوى الكبرى هي عولمة غير عادلة، فهي تنحاز للمشروعات العملاقة والنخب على حساب صغار المنتجين والشعوب في الشمال والجنوب، وتزيد باستمرار الهوّة بين الأغنياء والفقراء. نحن مع الاتجاه الذي يعمل على فرض قيود تتعلق بضمانات حقوق العمال وصغار التجار والمنتجين وحماية البيئة. العولمة الجارية تروج لفكرة الإصلاح الاقتصادي الموجه نحو التصدير وفق المزية النسبية، وهو توجه إذا لم يتم ضبطه يؤدى لمزيد من الإفقار، فنحن وإن كنا مع فتح أبواب الإنتاج والتصدير إلا أننا نؤمن بأن على الدولة أن تحدث من خلال الحوافز والإعفاءات التوازن الدقيق بين إدارة العجلة الاقتصادية بهدف التصدير وبين الوفاء بالحاجات الأساسية للمواطنين وخصوصا ما يتعلق منها بالإنتاج الغذائي.

1 ـ الزراعة وتحقيق الأمن الغذائي

نرى أن النمو الاقتصادي الحقيقي يقوم على تحقيق توازن في النمو بين قطاعات الاقتصاد المختلفة كالزراعة والصناعة والبناء والخدمات، لأن هذا التوازن هو الذي يخلق قوة الاقتصاد الوطني، ومن ثم نعطي أولوية كبرى لعلاج الخلل في قطاعي الصناعة والزراعة، فقطاعا العقارات والخدمات على أهميتهما لا يمكنهما وحدهما النهوض بالاقتصاد ونرى ضرورة إعطاء أهمية خاصة لقطاع الزراعة لتحقيق الأمن الغذائي. وتقوم رؤيتنا للنهوض بهذا القطاع أوّلا على النهوض بالمزارعين، فلا يمكن النهوض بالزراعة دون إعادة الاعتبار للفلاح وضمان الحياة الكريمة له ولأسرته، فالمعاناة التي يعيشها الفلاح هي جوهر أزمة الزراعة بل هي المسئولة أيضا عن الهجرة من الريف إلى الحضر وخلق أحزمة من العشوائيات حول المدن الكبرى، فوجب أن تقدم الدولة دعما معتبرا للمزارعين، وهى مسألة لا تتناقض مع اقتصاد السوق ولكنها جوهرية بالنسبة لضمان النهوض بالزراعة. ثانيا حسن استغلال الموارد المائية، يعتبر الاستخدام الرشيد للموارد المائية من أولويات الحزب عموما وهو ما يعكس نفسه بصورة خاصة في رؤيتنا للدور الرئيسي للزراعة. نرى أن هناك ضرورة لحملة شعبية كبرى لتوعية المواطنين بضرورة ترشيد استهلاك المياه عموما، مع ضرورة تشجيع البحث عن المياه الجوفية. ثالثا المحافظة على الأرض الزراعية، إذ تتعرض المساحة الزراعية في بلادنا للتآكل بسبب سوء التخطيط العمراني والتعديات المختلفة، ومن هنا ضرورة تفعيل القوانين التي تجرم البناء على الأرض الزراعية أو الاعتداء عليها تحت أي مسمى، ومن الضروري استصلاح مساحات جديدة للأرض الزراعية وتوفير الأسمدة والكيماويات بأسعار مناسبة. رابعا نؤمن بأن تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الغذاء قضية تتعلق بأمن الوطن بشكل مباشر، ومن هنا أهمية ومحورية تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح، خصوصا وأنه من المحاصيل التي لا تستهلك مياه كثيرة. نرى أيضا ضرورة تنمية الثروة السمكية والحيوانية، والثروة السمكية لا يمكن تطويرها دون تفعيل قوانين البيئة وتقديم الدعم الحكومي للعاملين في ذلك المجال، أما الثروة الحيوانية فيمكن تنميتها عبر تقديم الدعم اللازم فضلا عن فتح المجال لمراع جديدة.

أصبحنا اليوم إزاء نوع جديد من الفقر في العالم، وهو فقر لا يمكن فهمه إلا من خلال فهم طبيعة العولمة الحالية، فعلى سبيل المثال، إنّ تركز إنتاج الغذاء في أيدي عدد محدود من الشركات العملاقة تحدد ما يتم إنتاجه وتسيطر على بيعه وتتحكم في أسعاره مما يجعل إنتاج الغذاء مرهونا فقط بمنطق الربح والخسارة، وقد أدى ذلك لا فقط إلى إفلاس الملايين من المزارعين الصغار وإنما إلى خلق أزمة غذائية في العالم كله، وقد ازدادت حدّة الأزمة مؤخرا بعد أن بدأت بعض الدول في استخدام الحبوب لإنتاج الوقود الحيوي لمواجهة أزمة الطاقة وهى جريمة في حق الإنسانية ينبغي مواجهتها دوليا، ففضلا عما يؤدى إليه ذلك من فناء ملايين الأطنان من الحبوب في عملية إنتاج الوقود، ويؤدى بالضرورة إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأخرى، فنحن إزاء فقر له أسبابه المحلية والعالمية في نفس الوقت.

2 ـ الرعاية الصحية هي أمُّ الحقوق

نرى اليوم ضعف الخدمات الصحية والتأمين الصحي خصوصا للفقراء، ارتفاع متواصل في أسعار الأدوية على نحو تعانى منه الطبقة الوسطى والدنيا، نقص واضح في نسبة الممرضين والأطباء إلى مجموع السكان، وفي أحيان كثيرة قلة الأجهزة الطبية والمستشفيات العمومية…

هناك ضرورة قصوى لمدّ مظلة التأمين لتشمل كل مواطن وذلك عبر إلزام صاحب العمل بتوفير التأمين الصحي القائم على حصة يدفعها العامل وحصة يدفعها صاحب العمل، ودعم البرنامج الصحي العمومي لتشمل العاملين بالأجر اليومي والعاطلين عن العمل الذين يدفعون اشتراكات رمزية عند طلب الخدمة.

في بلد يعيش أكثر من ثلث سكانه تحت خط الفقر، ليس لنا أن نحلم بنهضة تنموية حقيقية دون بشر أصحاء قادرين على العطاء، ومعنى ذلك أنه يتحتم رفع النسبة المخصصة للرعاية الصحية في الميزانية العامة للدولة، ومراعاة عدالة التوزيع للمناطق الجغرافية المختلفة، ودعم الرعاية الصحية الأولية الأساسية والوقائية خصوصا في المناطق العشوائية والفقيرة فضلا عن الريف، والاستثمار في جيش من الأطباء ورفع أجورهم بشكل معقول وتشجيعهم على مهنة الممارس في الوحدات الصحية والمستوصف في كل بقاع الجمهورية، وتطوير المستشفيات العامة وتمويلها وتشجيع البحث الطبي الميداني، وزيادة عدد معاهد التمريض والعمل على إعادة الاعتبار لتلك المهنة في الثقافة العامة فضلا عن رفع الأجور بما يضمن الحياة كريمة، والاهتمام برفع كفاءة التقنيين وفنيي الأجهزة الطبية وتوجيه جزء من الميزانية لذلك، وتقديم الدعم لشركات الأدوية المحلية وتشجيع البحث العلمي في مجال الدواء، والاهتمام بتطوير أداء قطاع الإسعاف بكافة عناصره وأقسام الطوارئ بالمستشفيات العامة.

3 ـ ترشيد علاقة التعليم بالاقتصاد

أولوية سياساتنا هي أوّلا وقبل كلّ شيء ترشيد علاقة التعليم بالاقتصاد، فالاهتمام بتطوير التعليم يقع في القلب من رؤيتنا الاقتصادية، إذ لا يمكن حدوث أية نهضة سياسية أو ثقافية أو اقتصادية دون اهتمام كبير بتطوير التعليم. العلاقة الوثيقة بين النهضة الاقتصادية والتعليم إنما تأتي من الدور المهم الذي يلعبه التعليم في زرع قيم بعينها تجعل الشباب فاعلا في عملية التنمية وقادرا على المنافسة بغض النظر عن تقلبات السوق، وأهم تلك القيم هي استقلالية الفكر والقدرة على التفكير النقدي والمبادرة والعمل بروح الفريق واحترام الوقت وإتقان العمل. تطوير التعليم لا يقتصر على الاهتمام بإدخال التكنولوجيا الحديثة وتطوير المعدات وإنما يتضمن خلق جيل معتز بهويته وعلى وعى بقدرات الأمّة وإمكاناتها ويمتلك من المهارات ما يمكنه من المشاركة في عملية التنمية ودفعها إلى الأمام.

تراجع مستوى المعرفة والكفاءة لدى قطاعات واسعة من المجتمع، وحتى طلبة الجامعة صاروا “ذاكرة” يتم تحميلها طوال العام بالمعلومات ويتم تفريغها على أوراق الامتحان في نهايته، وذلك بزعم الإعداد لمتطلبات السوق، مما نتج عنه تفريغ العملية التعليمية من أي محتوى قيمي وحرم الشباب من تنمية مهاراتهم ومواهبهم، ويستحيل تحقيق التنمية دون خروج التعليم من هذه المحنة ومن هنا الأولوية القصوى لمراجعة شاملة لتوجهاته وإصلاح جذري لكافة مكوناته، وندرك أن تلك عملية طويلة الأجل لن تحدث بين عشية وضحاها، وتحتاج إلى دراسات مستفيضة تستلهم باستمرار الخبرات من تجارب العالمين. العلم قيمة عليا والتعليم أحد الحقوق الأساسية، والإصلاح لا يمكن أن يتم دون التوصل إلى إجماع وطني حول أهدافه، وأية خطة مقترحة لتطوير التعليم لابد وأن يتم عرضها للنقاش المجتمعي واسع النطاق بكل شفافية، ويتم تعديل تلك الخطة بناء على الرؤى المختلفة التي يفرزها المجتمع وفي نفس الوقت إعداد الشعب لاستقبال التغيير والإقبال عليه ودعم أهدافه، فلا يعقل مثلا أن يكون النظام التعليمي يهدف للتأكيد على قيمة العلم والعمل الجاد بينما يروج الإعلام لقيم الكسب السريع والاستهلاك وينشر ثقافة مؤداها أن الحظ أساس الثروة ! أهمية الاستفادة من خبرات الدول التي حققت نهضة تعليمية، لكن الجوانب الفنية والمنهجية التي يمكن الاستفادة منها في تلك الخبرات لا تنهض وحدها بالتعليم، إذ أن الاهتمام بالقيم التي يبثها النظام التعليمي لا يقل أهمية عن الجوانب التقنية والفنية في إصلاح التعليم، ورغم أن هناك مجموعة من القيم الإنسانية التي يمكن أن تشترك في التركيز عليها المنظومة التعليمية في أكثر من دولة، إلا أن واقع كل دولة وطبيعة مشكلاتها يحتم التأكيد على قيم بعينها في مرحلة ما، ثم أن لكل أمة حضارتها وتاريخها الذي يمكن أن يسهم في بناء نهضتها بتمثل خاص لقيم الانتماء والمواطنة والجمال والعمل والعلم والمصلحة العامة. فلا قيمة لتعليم لا يدرك فيه النشء من نحن وما هي أهدافنا، أو لا يغرس في النشء الثقة بالذات الحضارية ويسمح بالتفاعل الصحي مع العالم دون انسحاق أمام الأقوى وبلا حساسية من الاستفادة من خبرات الآخرين، فضلا عن استعادة المعرفة والعلم باللغة العربية كمسألة حياة أو موت بالنسبة لشعبنا، وتنمية قيمة الجمال بمعناها الواسع وهو ما يتطلب اهتماما بالفنون بكافة أنواعها.

بسبب الفساد انهارت قيمتا العلم والعمل، فصارت الشهادة العلمية لا العلم نفسه هي الهدف ولم يعد العمل الجاد والإتقان والتميز والتفوق هو سبيل تنمية الوعي الجمعي، وتراجعت قيمة المصلحة العامة وصارت المنافسة لا العمل بروح الفريق هي معيار النجاح، الأمر الذي أدى إلى تدهور في الأداء بل وانهيار أخلاقيات المنافسة وقيمها.

من المهم للغاية أن يغرس النظام التعليمي قيم المواطنة لدى النشء، بما تعنيه من المساواة وتكافؤ الفرص بين كل أبناء الوطن فضلا عن حقهم المشروع في المشاركة الفعالة في إدارة شئونه وإعادة اندماج المواطنين في المجال العام والسياسي باعتباره المكان الطبيعي للقاء المختلفين وليس الانكفاء أو الارتداد لدوائر الانتماء الأولية !

ضرورة الزيادة الكبيرة في النسبة المخصصة للتعليم في الميزانية العامة لتغطية كل المجالات التي يحتاجها تطوير التعليم، وتتوزع بين إنشاء المدارس الجديدة وصيانة المدارس القديمة وتجديد معاملها وورشها ومكتباتها فضلا عن زيادة الأموال المخصصة لمرتبات المدرسين والإداريين العاملين في مجال التعليم، ومن المرفوض أيضا أن يتحول التعليم إلى سلعة هادفة للربح على حساب مستقبل البلاد والعباد.

الحرب على الأمية بتبني مثلا حملة وطنية تستغرق فترة 3 سنوات يتم فيها الاستعانة بخريجي الجامعات والمعاهد العليا الذين يبحثون عن عمل لمدة عام أو عامين للمشاركة في محو الأمية وذلك مقابل أجر معقول يزداد وفق استعداد الخريج للانتقال إلى المناطق النائية والأكثر احتياجا. المهم أنه من الواجب تحديد مدى زمني لإعلان بلادنا خالية من الأمية وفق معايير ومؤشرات دقيقة يضعها الخبراء.

برنامج لمكافحة التسرب من التعليم عبر تعميم الوجبات الغذائية في المدارس وإيجاد الوقت للتدريب على الحِرف إلى جانب حصص التعليم الأساسي، الأمر الذي يقلل من إخراج الأولاد من التعليم بسبب الضغوط الاقتصادية، ومنظومة من الحوافز خصوصا في الريف والمناطق الفقيرة، كالحصول على مزايا عينية أو غذائية للأسر.

مواجهة نظام رأسمالي عالمي ظالم وهمجي، يستلزم منّا “إدارة الصراع” بتعاون كل القوى الاجتماعية والسياسية، ودعم الاقتصاد الوطني لبلادنا، وتشجيع الادخار ومحاربة الإسراف والترف، وتشجيع ثقافة مقاوِمة تنتقي وتختار أو تقاطع المنتجات الثقافية والسلع بما يناسب هويتنا أو مصالحنا. التعليم والصحة هما أساس النهضة الاقتصادية فالواجب الأول هو توفير الموارد اللازمة من الميزانية العامة للدولة لتغطية زيادة حاسمة في هذين القطاعين.

إن الإنسان هو الثروة الأولى التي تمتلكها بلادنا، ولا يمكن للمواطن أن يسهم بشكل فاعل في تحقيق التنمية ولا القيام بواجباته دون أن يحصل على حقوقه الأساسية التي تضمن له حياة كريمة من ناحية وتمكنه من العطاء من ناحية أخرى، والحق في التعليم والرعاية الصحية هما القلب من تلك الحقوق الأساسية غير القابلة للمساومة ولا للنسخ أو المسخ.

4 ـ الثقافة من أجل مجتمع الكفاءة

غياب “مفهوم الهوية الثقافية” عن المشاريع التنموية كان عاملا رئيسيا من عوامل الإخفاق، والمفهوم المركب والمنفتح للهوية يستند أوّلا على اللغة العربية : تراجع اللغة العربية التي تصب فيها مكونات الهوية، والتي بدونها ينفرط عقدها، يشكل خطرا يتمثل في فقدان الذاكرة التاريخية، وتحول الإنسان إلى وحدة استهلاكية أو منفصمة، فمسألة حياتية لمجتمعنا تفعيل اللغة العربية كأداة للتواصل بين المواطنين، وللتواصل مع هويتنا التاريخية. وبفعل الإخفاقات السياسية والتراجعات الحضارية المتوالية صارت الثقافة العربية محل تساؤل عما إذا كانت تصلح لأن تكون ركيزة للنهضة أم لا ؟ بل وجرى التشكيك في صلاحيتها وفي قدرتها على استيفاء شروط النهضة، ونعتت بأنها إحدى مورثات التخلف، ومن هنا كانت الدعوات إلى تهميشها وتحويلها إلى مجرد فلكلور، ونحن إذ نرى خطل هذا التوجه سنعمل على كشفه ومواجهته لما يمثله من مخاطر على المصالح العليا للمجتمع الأهلي.

ندعو للانفتاح على الثقافات الأخرى ولا يعني ذلك قصر اهتمامنا على الثقافة الغربية وحدها بزعم أنها الثقافة العالمية الوحيدة، بل علينا أن نتجه شطر الحضارات الأخرى العريقة والفاعلة مثل الآسيوية والهندية والإفريقية والشرقية وتجارب أمريكا الجنوبية الثرية والمتنوعة.

ضرورة تشجيع الجمعيات الأدبية والثقافية التي هي بمثابة المحتضن للشباب وتفجير الإبداعات، وتوظيف إبداعاتهم في خدمة جهود التنمية لمختلف مجالات الحياة في المجتمع وبخاصة تشجيع الجمال والذوق الفني لدى الأفراد وفي كل جهات البلاد.

تشجيع الجوانب القيمية والأخلاقية في عمليات التنمية والمساهمة المتعددة الأبعاد في مواجهة “ثقافة” الحنث بالعهود وشهادة الزور، الرشوة والمحسوبية والسرقة والنصب والاحتيال، النزعة المادية والاستهلاك الترفي لدي فئات واسعة، زيادة معدلات الجريمة والعنف، الانتشار الواسع نسبيا للتفكير الخرافي ومخاطبة الغرائز… فهذه الأمراض الاجتماعية وغيرها لا تؤدي فقط إلى اختلال ميزان العدالة وإنما أيضا إلى فوضى اجتماعية حيث تدفع المواطنين إلى اليأس أو إلى السعي للحصول على حقوقهم بالقوة أو بطرق الاحتيال. إن إدماج الإصلاح الأخلاقي مع الإصلاحات السياسية والاقتصادية والتشريعية والثقافية والاجتماعية، أمر ضروري ولازم لأنه هو الطريق الأمثل لتماسك المجتمع ولبناء الأرضية الملائمة لتقدمه، ومهما كانت صعوبة عملية إدماج الأخلاق في مداخل الإصلاح المختلفة، فإنها عملية تستحق ما سيبذل فيها من الجهد والوقت لأنها من وجهة نظرنا شرط ضروري ولازم لنجاح الإصلاح وإدراك مقاصده، ومسؤولية القيام بذلك تقع على عاتق الجميع من الأفراد والمؤسسات الأهلية والمدنية والحكومية وجمهور المواطنين.

الدور الكبير الذي تقوم به مؤسسات التربية والتعليم في بناء العقليات وتوجيه السلوك الفردي والجماعي نحو قيم الجمال والعمل والعدل والوفاء والخير والجهد، ومن الضروري تطوير المناهج الدراسية والأنشطة الترفيهية والتربوية في هذا الاتجاه، وتقع مسؤوليات إنجاز هذه المهمة التطويرية في مناهج التربية والتعليم على الهيئات والمراكز التربوية والإعلامية والتعليمية العمومية والخاصة، كما هي أيضا مهمة المفكرين ودعاة الإصلاح وصانعي الرأي وقادة المجتمع المدني ومنظماته وهيئاته، والمطلوب أيضا صياغة ونشر خطاب ثقافي إعلامي يركز على تلك المعاني الغائبة، وليس المقصود هنا إنتاج برامج ذات طابع تعبوي خطابي ولا مادة فنية تلقي على الناس محاضرات في الأخلاق، وإنما المقصود هو رؤية إعلامية متكاملة تضع البعد القيمى في قمة أولوياتها وتبث عبر برامجها الثقافية والفنية القيم الناهضة بالفرد والمجتمع.

تجديد الخطاب الديني وتفعيل دوره في مواجهة المشكلات التي يعاني منها المجتمع وبخاصة فئة الشباب، ودوره في جهود التنمية والإصلاح الاجتماعي، وهذا واجب ديني ووطني، لإدراك الواقع والتفاعل معه وتطويره بما يخدم مصالح الأمة وضرورة مشاركتها في الحوار العالمي. المبادئ والقيم الأخلاقية مهما كان نبلها وسموها تظل قليلة التأثير في الواقع ما لم تتجسد في قدوة جماعية حسنة يقتدي بها جموع المواطنين، ودعم هذا التوجه بمجموعة من إجراءات الشفافية في كل مستويات الإدارة والسلطة.

5 ـ الحق في العدل وحماية البيئة في العلاقات الدولية

في مجال السياسة الخارجية والعلاقات الدولية نسعى، ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، إلى تحقيق العدل وهو قيمة إسلامية وإنسانية عليا ونعنى بها، في مجال العلاقات الدولية، أن تُبنى العهود والمواثيق والاتفاقات الدولية على أساس ضمان العدالة للأطراف المتعاقدة وعدم الجور على طرف فيها، وثمة علاقة وثيقة بين إقرار العدل وتحقيق السلام لأن غياب العدل يخلق الصراع ولا يمكن للسلام أن يدوم إلا إذا كان عادلا، هذا أوّلا وثانيا الحرية… ويعنى مبدأ الحرية في مجالات العلاقات الدولية، الانفتاح على العالم شرقه وغربه، شماله وجنوبه، والتفاعل معه والاستفادة من خبرات شعوبه، وهو تفاعل مبنى على الثقة بالذات الحضارية والإيمان بأن لدينا ما نسهم به في عالم اليوم، وبطلان الأوضاع التي تنشأ نتيحه للقسر والإكراه وتتنافى مع قيمة الحرية، ولابد لسياستنا الخارجية أن تعمل لتصحيح الأوضاع بما يتفق مع هذه القيمة الإنسانية العليا، ونرى أنّ احترام العهود والمواثيق يعد عاملا أساسيا في العلاقات الدولية لترسيخ مبادئ التعاون والتعايش والسلام.

الاحتفاء بالتعددية واحترام الخصوصية الثقافية واللغوية، لأن التنوع والاختلاف سنة الحياة ومصدر ثرائها، و”التعاون” المبني على تبادل المنافع والمصالح المشتركة، في إطار السعي لتحقيق الخير الإنساني العام. نحن ندرك أن العلاقات الدولية في واقعها تبتعد كثيرا عن هذه المبادئ والقيم التي تكفل التعاون والسلام والحرية لجميع الأمم والشعوب، ومن ثم فإن التحدي الحقيقي هو التفاعل الناجح في الساحة الدولية بواقعية ومن منطلق قيمي في نفس الوقت، والواقعية تقتضى الكفاح من أجل حماية المصالح العليا للوطن في ظل الظروف الدولية أيا كانت طبيعتها وبغض النظر عن الموقف منها، إلا أن ذلك لا يعنى بالضرورة الاستسلام للواقع الدولي بكل آفاته، فالواقعية التي تسعى لتحقيق المنفعة الوطنية تعنى أيضا امتلاك روح المبادرة والتفكير في السبل التي يمكن من خلالها العمل مع دول وشعوب أخرى من أجل تغيير واقع دولي ظالم يضر بها كما يضر بنا، فلا يجوز المصادرة على حق الشعوب في أن تحلم بواقع دولي أفضل.

أمان الوطن وأمنه، يقتضي أوّلا رفض هيمنة القوى الأجنبية على صناعة القرار السياسي، والهيمنة الاقتصادية بأشكالها المختلفة فضلا عن الاستحمار الثقافي، ومن هما نتبنى تعريفا للأمن الوطني يتضمن العمل على حماية بلادنا من كل ما يهدد استقلالها سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا، وإدراكنا أن سبل مواجهة التهديدات ليست كلها واحدة، فقد يتطلّب بعضها تعبئة شاملة للمجتمع، ويتعيّن في حالات أخرى اتخاذ خطوات متعددة وصغيرة في إطار برنامج طويل الأجل، وتأتي الشراكة مع المغرب العربي والإسلامي في قمة أولويات الأمن الوطني على الإطلاق فهو العمق الاستراتيجي لبلادنا، ومن هنا الضرورة القصوى لبناء الثقة المتبادلة وإغنائها المتواصل بالمشاريع العملية والثقافية والاقتصادية، كذلك الأمر بالنسبة للمسألة الفلسطينية فهي بالنسبة لنا قضية محورية لأمننا الوطني، ونجهر هنا بتأييدنا الكامل لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، وحق اللاجئين في العودة لديارهم، كما نؤكد على حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل كحق ثابت لأي شعب في مواجهة الاحتلال.
يتحدد موقف اليسار الإسلامي من القضايا المختلفة ومن دول العالم بناء على المصالح العليا للمجتمع الأهلي، فالحزب لا يتخذ موقفا موحدا من دول الغرب مثلا، بل هي علاقات تبنى مع كل دولة على حده بناء على المصالح العليا للوطن، علاقات تقوم على تبادل المصالح وعلى التفاعل مع الثقافة والفنون والآداب، واحترام المواثيق والمعاهدات بما يكفل الاحترام المتبادل للمصالح العليا للشعوب، والاستثمار في التعاون المشترك ليس فقط مع دول الجوار العربي والأوروبي وإنما مع دول الجنوب عموما.

6 ـ حضارة “اقرأ” والرحمة للعالمين

تنمية الوعي الأهلي بمسائل التّنمية الإنسانيّة القائمة على تبادل الخبرات البشريّة، وأن لا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، والحفاظ على الأرحام والتعاون على البِرّ، وحماية حقوق النّاس… ليتمتّع بها الجمعُ والأفراد.

التّاريخ البشري هو تاريخ الصّراع ضدّ الظلم والاستكبار، بأبعاد جديدة في كلّ مرحلة، وأمام كلّ إعادة إنتاج للظّلم ونشر الظلمات يهبّ الصّالحون وأنصار العدل والتوحيد للدفاع عن المجتمع اﻷهلي ضدّ الظلمات والحصار. التّوحيد والعدل، يعني عمليّا القضاء على الشّرك في السّلوك العملي والخُلقي للأفراد وللجماعة، أي بناء مجتمعات بلا قهر ولا تسلّط ولا استغلال. “لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله” تُحرّر شعور الإنسان وواقعه من كلّ القيود والسّلاسل الاجتماعية والسياسيّة والمادّية… تُحرّر الفرد من كلّ أسوار القهر. نقرأ القرآن ونهتدي به لمواجهة مشاكل النّاس كما هم في هذا العالم وهذا العصر (لا مشاكل عالم وعصر آخر) ونستعدّ بالقرآن ليوم الحساب. والقرآن يؤكّد لكلّ قارئ ولكلّ مواطن يتلوه، واجب التّفكّر، التّدبّر، التّعقّل، وهو يدعونا لما يُحيينا (ولن تتكشف معاني الكتاب العظيم وأسراره قطّ للذين يتّخذون القرآن مهجورا.) ورفض آليات القهر والنهب وثقافة السحر والحظ وإتباع الآباء. يدعونا إلى النظر في أنفسنا وفي كتابنا وفي العالم، ويحثّنا على الاجتهاد ورفض الشرك والتوسّط والأسرار والتقاليد وكل ما يُعارض التحرّر والعدل والعقل من ظلم ووهم وظن ولُبس في الرؤية، ويؤكّد على الوضوح والبيان في النظر والعمل. التكليف قائم على النظر والفهم وبذل المجهود، يعني حرّية الإنسان وضرورة اختياره، بين الخير والشر، بين العدل والظلم، وبين الطيبات والخبائث… وما ينتج عن هذا الاختبار من الجزاء، وكلٌ يأتي ربّه فردا والعاقبة للمتّقين.

واجبنا الجهر بالقرآن ضدّ الظلم وضدّ الفساد، واستعادة التغيير الجذري الذي أتى به القرآن الكريم منذ كلمة “اقرأ” (…) بالإقبال على تفهّم الآيات في الكتاب وفي النفس وفي الآفاق. “اقرأ” (…) الكلمة الحضارية التي أدهشت النبي الأمّي، وحفزّت أصحابه، وأثارت عليه العالم. حضارة التوحيد، بتفعيل قراءة وفهم المسلمين للقرآن الكريم، وتحويل العالم إلى “دار الشهادة”، فنكون الأمّة الشاهدة على الناس، أي أن نكون شواهد على الاستقامة ومكارم الأخلاق وتجسيدا للعدل.

السمة الجوهرية لهذا الدين تقوم على الرحمة والمغفرة والتسامح بين البشر، فطبعَ المسلمين بطابع الرحمة والتراحم والتعاون (من المفيد الانتباه إلى أنه لم يفتتح السّور بأحد أسماء الله الحسنى الأخرى). فالله سبحانه وتعالى بَعث خاتم رسله، رحمة للعالمين، ليجمع الفرقة وليزيد الألفة، ولم يبعثه ليفرّق الكلمة وليتحرش الناس بعضهم ببعض، بل لتحقيق الأخوّة وليخرِج الناس من عبودية العباد والأغلال التي تكبّلهم إلى عبادة الرحمان الذي خلق كلّ شيءٍ ثم هدى، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. الجنس البشري كله أبناء آدم وحوّاء وهذا معنى السلام الحق.

الإنسان فيه أبعاد مطلقة لا يمكن اختزالها في الطبيعة وحدها، ومن هنا ضرورة التعامل الاجتماعي والتاريخي مع متغيرات عودة الدين للمجال العام، وعودة القيم إلى المجال السياسي والاقتصادي، فالحركات الإحيائية عمت العالم كله جنوبا وشمالا، وضرورة الخروج من ثقل الإيديولوجيات الحداثوية وصناعة الأوهام، ونقد فصل العقل عن الوحي، والواقع عن الغيب، خاصة وأنّ الإسلام يمثل أفقا تقدميًّا وديمقراطيًّا.

ما يرهبنا، في مرحلتنا التاريخية وواقعنا المعاصر، ليس شبح القرون الوسطى، مع العلم بأنّ صور هذا الشبح تختلف من مجتمع إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى، بل إنّ ما يرعبنا هو النظام العالمي الجديد بنهب شركاته المتعدّدة الجنسية وحروب تدميره الشاملة، بخطاب إنسانيته المزدوج وقدرته على التدمير والقصف، بإغراقنا بالتلوّث البيئي والسلع والأوبئة، بتغريب الإنسان وتفقير المعنى.
الأولوية حسب وجهة نظرنا يجب أن تكون لوسائل النقل الجماعية والنظيفة، الضمان الصحّي للجميع، التعليم المجاني عالي الكفاءة، العون والرعاية للقاصرين والعجّز والمعاقين، الدفاع عن الكائنات الحية سواء كانت حيوانات أو نباتات أو مساكين جائعين، الاهتمام بالماء ورعايته وصونه، وحماية الأرض جوفها وتربتها ومناخها. العمل على توفير الأكل واللباس والسّكن وحقّ تكوين أسرة وحقّ العمل والحقّ في العدل… لكلّ واحد وللناس جميعا. مجتمع أهلي مقتصد ومتعاون، يؤمن بالله الخالق الكريم، يحمي الحرمات الفردية والجماعية، ويحبّ الأرض وتنوع الحياة.