لعل من أهم إنجازات الثورة أنها اقتلعت الآذان التي نبتت على الجدران طيلة العهدين السابقين. فكلنا يتذكر أنه إلى عهد ليس بالبعيد كانت جدران منازلنا وجدران مقاهينا وسجوننا وجامعاتنا، بل وجدران مدارسنا الإبتدائية تنصت إلى ما نقوله وتنقله إلى من يهمه الأمر. وكان كل واحد منا لا ينطق كلمة إلا بعد أن يلتفت يمنة ويسرة عشرة مرات، وبعد أن يغافل الأذن التي تترصد همساته، حتى في غرف النوم المغلقة.

فرحنا باقتلاع آذان النظام من جدراننا وصرنا نتكلم بحرية، أو هكذا خيل لنا. لكن ما حدث مساء الثلاثاء الفارط أثبت أن الأذن التي اقتلعت يمكن أن تنبت من جديد، وأن جهاز التسجيل الذي وضع خارج الخدمة، هو جاهز للاستعمال في أي لحظة.

الحوارات العربية الجديدة” تعلق نشاطاتها في تونس، وذلك بعد أن قام رجلا شرطة بالزي المدني بأخذ لائحة بأسماء أكثر من 120 شخصا شاركوا في حوار مسجل باللغة الإنڨليزية، يوم 29 ماي بالمعهد الوطني للتراث. الحوار جمع بين ممثل عن حزب النهضة، السيد أحمد ڨعلول، وممثلة عن الحزب الجمهوري، السيدة هدى الشريف. وقد أعلن منشط الحوار وصاحب البرنامج الشهير “هارد تولك” على البي . بي . سي، تيم سيباستيان، أنه يطلب ضمانات من الحكومة التونسية بعدم التدخل مجددا في سير المناظرات التي يديرها قبل الإعلان عن استئناف “الحوارات العربية الجديدة” في تونس.

سابقة خطيرة في تونس الثورة، تثبت أن أساليب الرقابة والتصنت وتأليف الملفات عن المواطنين وجمعها وأرشفتها وتبويبها هي أساليب لا تزال سارية المفعول، وذلك رغم فشلها المطلق في حماية النظام السابق من الإنخرام ثم الإنهيار. بل أن التصنت، والتصنت على المتصنت، والوشاية المعممة كانت مظهرا من مظاهر انهيار النظام وعجزه عن إدارة البلاد والعباد في جو من الحرية والأمن والثقة المتبادلة.

في أحد مكاتب وزارة الداخلية والمصالح التابعة لها، تقبع قائمة بـ120 شخصا شاركوا في حوار تلفزي. يكفي للأعوان فيما بعد متابعة بث الحلقة على القناة الألمانية دويتشي ڤيللي، حتى يعرفوا الآراء السياسية لكل مشرك في الحلقة (من غير المستغرب أيضا أن يكون بين المشاركين في الحلقة بوليس سياسي “مندس”). فهل ستساعد هذه القائمة حكومة الترويكا على حل المشاكل السياسية والإقتصادية والإجتماعية للبلاد ؟ وإلى أي حد سيتحسن أداء الحكومة إن هي عرفت أسماء المشاركين في برنامج حواري حول العنف السياسي ؟

إن الحمى البيروقراطية لأجهزة الرقابة لم تفلح في اجتناب انهيار نظام بن علي، لأن الرقابة كانت تمارس لأجل الرقابة. إن عقلية الرقابة والوصاية على المجتمع وعلى نخبه عقلية فاسدة لم تجتث بعد، وإلا فكيف نفسر حادثة يوم الثلاثاء الفارط ؟ إن المشاركين في الحوار، وأنا من ضمنهم، ينتظرون تفسيرا من وزارة الداخلية، علما وأنها عبرت لصاحب البرنامج عن استغرابها ونيتها التحري في الموضوع. إذا كان الشرطيان مكلفين من مسؤول سام كما يدعيان، فمن هو ذاك المسؤول ولماذا طلب منهما ذلك ؟ أما إذا كانا فعلا ذلك بمبادرة شخصية، فعلى وزارة الداخلية معاقبتهما فورا. أما إذا ثبت أنهما لا ينتميان إلى سلك الأمن، فيجب تحديد هويتهما ومحاكمتهما بتهمة انتحال صفة عون أمن.

إن هذه الحادثة على خطورتها فرصة لوزارة الداخلية لتثبت جديتها في التعامل مع الممارسات القديمة وفرصة لتكريس مبدأ الشفافية والثقة بين المواطن والمؤسسة الأمنية. وإنه لمن المهم جدا أن تستعيد تونس ثقة مؤسسات صحفية عالمية وإعلاميين بحجم تيم سيباستيان. أما المجتمع الملقح ضد مثل هذه الممارسات الرقابية فإنه لن يترك الآذان تنبت من جديد على الجدران، وسيقتلعها كما اقتلعها من قبل.