عقب 14 جانفي 2011 تردّد ذكر اسم رجل الأعمال كمال لطيّف في وسائط إعلاميّة متعدّدة، وصفه البعض ب”رجل الظلّ” و صانع القرار الحقيقي في تونس، بينما يرى البعض الآخر أنّه مجرّد رجل أعمال لديه علاقات متنفّذة في الدّاخل و الخارج.

لاحظنا أنّ المجهود الإعلامي في فهم و تحديد دور كمال لطيّف بعد 14 جانفي 2011 تراوح بين الإفراط و التفريط، من ناحية نُشرت حوله شبه تحقيقات سطحية و من ناحية أخرى هنالك تحاليل تفتقد للأدلّة.

سنعود في المقالات القادمة لإستعراض ملامح شخصيّة كمال لطيّف و دوره في السّاحة السياسية التونسية قبل و بعد 14 جانفي 2011 على ضوء المعطيات المتوفّرة لدينا، حيث ننشر مبدئيّا جزءا أوّلا من سلسلة إستقراآت و تحقيقات.

منذ أكثر من أسبوعين و أثناء التحقيق الجاري ضدّه بتهمة التآمر على أمن الدولة و الذي تمّ في إطاره تحجير السفر عليه تحصّلنا على كافّة المُعطيات المتعلّقة بملفّ التحقيق إضافة إلى لائحة المكالمات الواردة و الصّادرة عن الهاتف الجوّال الخاصّ بكمال لطيّف منذ 2 جانفي 2011.

من ضمن الموجودين على لائحة المكالمات التي بحوزتنا شخصيّات سياسية في مناصب عليا صلب الحكومة الحاليّة، معارضون سياسيون بارزون، مدوّنون و إعلاميّون مشهورون، إضافة إلى شخصيّات حقوقية و إطارات أمنيّة، و سنعود في مقالات لاحقة لتحليل و إستقراء كافّة الإتّصات.

بعيدا عن الإستعراض الإعلامي حول القضيّة لاحظنا مبدئيّا أنّ ملفّ التحقيق لا يحتوي على أدلّة تُدين أو تربط بطريقة مُقنعة كمال لطيّف بأحداث عنف جدّت في البلاد أو بتآمر مُفترض على أمن الدّولة، كما نؤكّد في هذا الإطار أنّ هذا لا يعني بالضرورة براءة لطيّف لكنّ الأصل أنّ البيّنة على من إدّعى و في هذه الحالة لم يُقدّم الأستاذ الجبالي أيّ دليل يدين كمال لطيّف أو يُبرّر قرار تحجير السفر عليه.

في قراءة أوّليّة نُلاحظ أنّ ملفّ التحقيق مبنيّ على شكوى المحامي الأستاذ شريف الجبالي بعد تلقّي أحد زملائه المُحامين على هاتفه الجوّال خلال شهر ماي 2011 على وجه الخطأ على حدّ قول الأستاذ الجبالي من رقم هاتف جوّال آخر لإرساليّات قصيرة تحتوي على رسائل مشفّرة حول أحداث عنف وقعت بالبلاد و حول التّخطيط لأحداث عنف أخرى منها حسب الأستاذ الجبالي محاولة إختطاف شقيق الوزير الأوّل السابق الباجي قايد السّبسي لإستبداله بعماد الطرابلسي، كما أشار الأستاذ الجبالي أنّه بعد كشف البحث التحقيقيّ أنّ رقم الهاتف المذكور تابع لشخص مُحدّد إتّصل بالوزير الأوّل حينها الباجي قايد السبسي الذي أبلغه أنّ الحبيب الصيد الذي كان يشغل حينها منصب وزير الداخلية أفاده أنّ الرقم المذكور تابع لمركز نداء ولم يمدّه بهويّة صاحبه.

⬇︎ PDF

في إطار هذه التصريحات المتعلّقة بمسألة حيويّة تمسّ بأمن الدّولة التساؤل الأوّل الذي يمكن أن نطرحه موضوعيّا بعيدا عن الإثارة الإعلامية و عن التوظيف السياسي : لماذا لا يحتوي ملفّ القضيّة على محضر سماع للباجي قايد السبسي و لحبيب الصّيد ؟ و لماذا لا يحتوي على مكافحات بين شريف الجبالي و السبسي من جهة و الحبيب الصيد و السبسي من جهة أُخرى ؟

الأغرب في الأمر أنّه عوض إستدعاء الحبيب الصيد و الباجي قايد السبسي لسماعهما كإجراء أوليّ، تمّ تحديد صاحب الرّقم التليفوني، ثمّ تمّ إستدعائه وفق الإنابة العدليّة عدد 05/15712 بتاريخ 07/07/2011 فنفى أن يكون قد إستخرج رقم الهاتف المذكور، مُبيّنا أنّ له رقم مُختلف مُستخرج من شركة إتّصالات أخرى، و عند مكافحته بعقد تونيزينا المُتعلّق بالرقم المشبوه نفى أن تكون الإمضاء الموجودة على العقد خاصّة به، علما أنّ نتيجة الإختبار الخطيّ تُؤيّد أقواله.

إثر ذلك تمّ إستدعاء أقارب المواطن الذي سُجّل بإسمه الرقم للتثبّت إن كان أيّ أحد منهم تحصّل على نسخة من بطاقة تعريفه، و توسّعت الدائرة لتشمل كلّ من تحصّل من قريب أو بعيد على نسخة من بطاقة تعريفه دون الخلوص إلى نتيجة.

من ناحية أخرى تمّ تحديد رقم سلسلة الهاتف الجوّال الذي صدرت منه الإرساليات القصيرة المشبوهة و تمّ إستدعاء كلّ من إستعمل نفس الهاتف ليُصدر إرساليّات فتبيّن أنّه سُرق من صاحبته منذ مدّة على حدّ قولها.

تباعا ليس واضحا في سياق التحقيق كيف تمّ إقحام إسم كمال لطيّف في الموضوع، و نظرا لثبوت ما لَحِقَ كمال لطيّف من مُضايقات من طرف زوجة زين العابدين بن علي ليلى الطرابلسي خلال الفترة الأخيرة من حكم بن علي فهل يُعقل أن يكون متورّطا في مُحاولة تهريب عماد الطرابلسي ؟ فضلا عن أنّ طريقة صياغة المحاضر تُعطي إنطباعا بأنّ حاكم التحقيق مُجرّد شاهد أو كاتب في القضيّة و أنّ الأستاذ شريف الجبالي هو حاكم التحقيق الفعلي، حيث أنّه مثلا في محضر سماعه كشاهد بتاريخ 7 جوان 2012 فإنّ الأستاذ الجبالي يسرد على حاكم التحقيق نتائج كشوفات هاتفيّة مفصّلة لا نعلم مصدرها و محلّ الإعراب القانوني لحصول الشاهد عليها و وفق أيّ سند يُمكّن الأستاذ الجبالي من تحليلها، علما أنّ الكشوفات تحتوي حسب الأستاذ الجبالي على أدلّة إتّصالات هاتفيّة بين كمال لطيّف و قيادات أمنيّة من جهة و شخص مشتبه بالجوسسة لصالح جهات أجنبيّة و محلّ بحث تحقيقي في قضيّة موازية من جهة أخرى ، دون أن يحتوي ملفّ القضيّة على تلك الكشوفات و دون أن يتّخذ حاكم التحقيق إجراءات متناسبة مع خطورة ما زعمه الأستاذ الجبالي.

من جهتها نشرت وزارة العدل يوم الخميس 1 نوفمبر 2012 بيانا تحت عنوان “من أجل النأي بالقضاء عن كل الحسابات والتجاذبات حول فتح بحث تحقيقي ضد السيد كمال بن يوسف اللّطيّف” عرضت خلاله التسلسل الزمني لمراحل الإجراء ات القضائية في التحقيق بتهمة التآمر على أمن الدّولة :


4 جوان 2011: أحد المواطنين يرفع شكاية الى وكالة الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس أفاد من خلالها علمه بمخطط يستهدف الاعتداء على الأشخاص والأملاك طالبا فتح بحث في الموضوع وتتبّع من تثبت إدانته.

7 جوان 2011: وكيل الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس يتخذ قرارا بإجراء بحث طبق الفصل 31 من مجلة الإجراأت الجزائية ويعهد بذلك إلى أحد قضاة التحقيق طالبا منه فتح بحث وإصدار البطاقات القضائية اللازمة.

7 جويلية 2011: قاضي التحقيق المتعهّد بالملف يصدر إنابة للجهات الأمنية المختصّة بالبحث في مسائل محدّدة واستمرّت الأبحاث بسماع الشاكي وعدد من الشهود.

17 أكتوبر 2012: قاضي التحقيق يصدر قرارا في اطّلاع وكيل الجمهورية على أوراق البحث.

19 أكتوبر 2012: النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس تطلب من قاضي التحقيق المتعهّد بالملف توجيه تهمة التآمر الواقع لارتكاب أحد الاعتداأت ضدّ أمن الدولة الداخلي طبق الفصل 68 من المجلة الجزائية ضدّ كلّ من عسى أن يكشف عنه البحث وإصدار البطاقات القضائية اللازمة بعد سماع عدد آخر من الشهود.

25 أكتوبر 2012: قاضي التحقيق يصدر قرارا بتحجير السفر على السيد كمال اللطيف الى أن يأتي ما يخالف ذلك ومواصلة الابحاث في القضية.

تجدر الإشارة أنّ المحامي الأستاذ شريف الجبالي ضابط سابق بوزارة الدّاخلية و أنّ وثائق بحوزتنا تُبيّن أنّه محامي رجل الأعمال شفيق جرّاية الذي تربطه علاقة عدائيّة بكمال لطيّف، علما و أنّ عديد المتابعين للسّاحة يؤكّدون أنّ شفيق جرّاية عقد إتّفاقا مع حركة النهضة يقضي بغضّ طرف الأخيرة عن قضايا الفساد التي تورّط بها مُقابل دخوله “بيت الطّاعة”.


علما أنّ الأستاذ شريف الجبالي أكّد مرارا أثناء تصريحات خاصّة أنّ الشيخ راشد الغنّوشي رئيس حركة النهضة و عبد اللّه الزواري رئيس تحرير جريدة الفجر يُشرفان شخصيّا على التحقيق ضدّ كمال لطيّف، كما أكّد الأستاذ الجبالي أنّه لا يترك ملفّ التحقيق حتّى لدى حاكم التحقيق، ممّا يشير أنّ عمليّة البحث و التحقيق أقرب أن تكون عمليّة مخابرات داخل المخابرات من أن تكون تحقيقا عدليّا.

حسب تصريحات خاصّة للأستاذ الجبالي هنالك تسجيلات صوتيّة لمكالمات كمال لطيّف عكس ما صرّح به وزير الداخلية علي العريّض، لكنّ اللّافت للإنتباه عدم وجود تسجيلات صوتية في المُعطيات و الوثائق التي بحوزتنا حول ملفّ التحقيق.


علما أنّ الأستاذ الجبالي ليس مُقرّبا من الحكومة كما يزعم البعض بل إنّه لا يُخفي سخطه من علي العريّض لكنّه في المُقابل على إتّصال يومي براشد الغنّوشي الذي يبدو و كأنّه رجل الظلّ الفعلي في التحقيق، حيث أنّه يتّخذ أغلب القرارات عبر أوامر لوزير العدل نور الدين البحيري.

السؤال المبدئيّ الذي يطرح نفسه في هذا الإطار : هل تمّت عمليّات مراقبة الهواتف النّقّالة و التنصّت المُفترض على المكالمات الهاتفيّة بمقتضى إذن قضائيّ أم أنّ العمليّة بدأت دون علم الجهات القضائيّة ؟

في المُقابل أبلغتنا مصار أمنيّة مُطّلعة أنّ تعيين السيّد عبد الحميد البوزيدي يوم 19 أكتوبر 2012 مديرا عامّا للأمن الوطني خلفا للسيد محمد نبيل عبيد تمّ إثر إبلاغ رئيس الحكومة حمّادي الجبالي و رئيس حركة النهضة راشد الغنّوشي بمعطيات تفيد بتورّط نبيل عبيد و توفيق الديماسي المدير العام الحالي للمصالح المشتركة بوزارة الداخلية في أحداث السفارة الأمريكية كماأنّ ملفّ التحقيق يحتوي محضر سماع الأستاذ الجبالي كشاكي حُرّر بتاريخ 1 أكتوبر 2012 يصرّح فيه لحاكم التحقيق أنّ كلّا من نبيل عبيد المدير العامّ للأمن الوطني حينها و توفيق الديماسي المدير العام السابق للأمن العمومي و المدير العام الحالي للمصالح المشتركة لهواتفهما الجوّالة أثناء أحداث السفارة الأمريكية يوم 14 سبتمبر 2012 حوالي الواحدة بعد الزوال إلى حدود الساعة الثالثة ظهرا عكس ما صرّح به وزير الدّاخلية علي العريّض أمام المجلس التأسيسي عقب أحداث السفارة من أنّه لا أحد من القادة الأمنيين أغلق هاتفه.

تجدر الإشارة أنّ ملفّ التحقيق يحتوي على إحصاء لمكالمات بين كمال لطيّف و مسؤولين أمنييّن دون ذكر لمحتويات المكالمات و دون الإشارة أنّ اللاّئحة تحتوي أيضا على أرقام هواتف شخصيّات قياديّة في مناصب عليا صلب الحكومة الحاليّة، و قد ورد في التحقيق :


عدد الإتّصالات الهاتفيّة الصّادرة من كمال لطيف نحو هاتف نبيل عبيد المدير العام السّابق للأمن الوطني الـ557 مكالمة من 8 مارس 2011 تاريخ مباشرة عبيد خطّة مدير عام للأمن الوطني إلى حدود 7 ماي 2012 في حين أنّ عبيد إتّصل بلطيّف 99 مرّة خلال نفس الفترة.

عدد الإتصالات الهاتفيّة الصادرة من كمال لطيّف نحو هاتف توفيق الدّيماسي مدير عامّ الأمن العمومي سابقا و المدير العام للمصالح المشتركة حاليّا 261 مكالمة في حين صدرت عن الديماسي نحو هاتف لطيّف 101 مكالمة.

281 مكالمة بين كمال لطيّف و عماد الدغّار و الذي كان يشغل خطّة مدير مركزي للإستعلامات منها 55 مكالمة صادرة عن الدغّار و 266 مكالمة صادرة عن لطيّف.

70 مكالمة صادرة عن كمال لطيّف نحو هاتف الأزهر العكرمي الوزير المكلف بالإصلاح الأمني بوزارة الداخلية سابقا و 33 مكالمة صادرة من العكرمي نحو هاتف لطيّف.

87 مكالمة صادرة من كمال لطيّف نحو هاتف توفيق بوفريحة محافظ عام بالإدارة العامة للمصالح الفنيّة و 26 مكالمة صادرة عن بوفريحة نحو هاتف لطيّف.

6 مكالمات صادرة عن كمال لطيّف نحو هاتف مالك علّوش محافظ أعلى يشغل حاليّا خطّة رئيس منطقة الأمن الوطني بباب ببحر و 3 مكالمات من علّوش نحو هاتف لطيّف.

إتّصلنا بنبيل عبيد الذي أفادنا أنّه لم يكن لديه معرفة مباشرة بكمال لطيّف إلى حدود مبادرة لطيّف الإتّصال به عقب تولّيه مهامّ الإدارة العامّة للأمن الوطني لتهنئته مقدّما نفسه له، و كان ذلك حسب نبيل عبيد أوّل إتّصال، كما أبلغنا أنّ لطيّف واصل الإتّصال به بانتظام للتنبيه إلى أمور تخصّ الوضع الأمنيّ العام، و أشار أنّه اضطرّ مرارا إلى المبادرة بالإتّصال بلطيّف كي يوضّح له مسائل عرضها الأخير عليه و أحالنا عبيد على قائمة التسجيلات لنتأكّد ممّا يقول عبر معاينة المدّة القصيرة للمكالمات التي وردت منه على هاتف كمال لطيّف.

من ناحية أخرى استنكر نبيل عبيد إقحام إسمه في تحقيق بتهمة التآمر على أمن الدّولة و أشار أنّه مع إطارات أمنية أخرى ساهموا في إحياء وزارة الدّاخلية من رفاتها بعد أن وجدوها إدارة مهجورة و مُهملة في فيفري 2011، كما أشار نبيل عبيد أنّه مثلما أجابنا في الهاتف دون معرفة هويّتنا مسبقا فإنّه يتلقّى عشرات الإتّصالات يوميّا من مواطنين و أشخاص مختلفين.

بالنسبة لأحداث السفارة الأمريكيّة فقد أكّد نبيل عبيد أنّه لم يُغلق هاتفه الجوّال مُطلقا مُتحدّيا أيّ جهة أن تُثبت عكس ذلك، كما أشار أنّه في كلّ الحالات لازم مكتبه إلى حدود الساعة الواحدة صباحا و أنّه كان على إتّصال بالقيادات الأمنية الميدانية عبر قاعة العمليّات.

حاولنا الإتّصال أيضا بكلّ من توفيق الديماسي، عماد الدّغّار، الأزهر العكرمي دون أن يُمكننا التحصّل عليهم هاتفيّا.

ختاما نُشير أنّنا في هذا المقال لا نجزم بإدانة أيّ طرف أو برائته بل نؤكّد مبدئيّا أنّ أيّ تنصّت هاتفي يجب أن يكون بأمر من القضاء و تحت مراقبته، كما نرجوا للتحقيق التوفيق في إبراز الحقائق للرأي العام بعيدا عن التوظيف السياسي.

أمام عدم جديّة البحث التحقيقي و عدم سماع أيّ جهة أمنيّة إلى الآن رغم خطورة التُّهم لنا أن نتساؤل إن كانت القضيّة في الفترة الحاليّة محاولة للتغطية على فشل حكومة الترويكا إفتراضيّا و حكومة النهضة عمليّا في معالجة الإشكاليّات الإجتماعية و الإقتصادية و الأمنية المستفحلة في البلاد.