أليس الإسلام أولا وقبل كل شيء كلمة الحق التي تقال مهما كان الثمن؟ فها أنذا أكتب إليكم مجددا هذه الألوكة وفيها من العتاب ما يدفع إليه ذلك الحب القتال، وقد كنت تجرأت وأرسلت لكم سابقا رسائل فيها من كلمات الحق ما سمح له المجال وما نطق به الضمير، لا يحدوني في ذلك إلا حب بلدي، هذه المحبة التي تجمعنا، أنتم على مستوى عملكم السياسي وأنا من زاوية نضالي على صعيد الأفكار، بما أن مطلبي المشروع للعودة إلى سايق خدمتي للوطن لم يحض بعد بموافقة حكومتكم.
إن حزبكم بسياسة ليس فيها من الأخلاق الإسلامية إلا الشعارات الجوفاء ينتهج طريقة من سبقه في الحكم بالكلام المعسول والتصرفات العنجهية، فيضيع الفرصة التاريخية التي تحياها بلادنا لتكوين نمط جديد للحكم السياسي، وقد كانت سباقة في انقلابها الشعبي على ماض مقيت ولى واندثر.
فكيف، وأنتم ممن قاسى الأمرين من سياسة القمع تقمعون الشعب؟ وكيف، وأنتم تنادون بأخلاقية التسامح الإسلامية، تشوهونها وكأنكم تعملون لصالح من لا يفتأ ترديد ادعاءه الكاذب أن الإسلام ظلامي، لا مكان له في السياسة اليوم؟
نعم، الأعداء كثر والمتربصون بكم الدوائر يعملون ليلا نهارا على إفشال مساعيكم. ولكن، أليس لأنصاركم اليد الطولى أيضا في تشجيع ذلك؟ لم لا تعملون مع النوايا الحسنة، وهي لم تنعدم ولا تنعدم في بلادنا، على انتهاج المحجة السوية لإيصال تونس إلى برّ الأمن والسلام بسياسة فهيمة قوامها المحبة وحسن الظن وعدم الوقوع في حبائل الأعداء وخزعبلات المداهنين؟
إن حزبكم، عبر العديد من نسائه ورجالاته، بل عظمهم، لم يفتأ على اتخاذ الحكم مطية لأغراض شخصية أو تصفية حسابات، لا لخدمة الشعب الذي وصل بأصواته إليه. إنه ينسى أو يتناسى أن هذا الشعب لم يعره ثقته إلا لأجل نضاله السابق ضد الهيمنة والتغطرس؛ فهل يعتقد أن الشعب سيبقى وفيا له وهو ينتهج نفس سياسة الحكم السابق؟
لعلكم تقولون أن البلاد ودواوينها ليست تماما تحت هيمنتكم، وأن جنود الخفاء يعملون على عرقلة مساركم؟ ولعلكم لا تبعدون في ذلك عن الحق، ولكن أليس هذا من مسلمات العمل السياسي؟ ثم، أين كياستكم السياسية حتى تعملون على ألا تجري رياح المقادير بما لا تشهيه سفنكم؟ وهلا انتهجتم سياسة تقطع حقا مع ما عرفته البلاد، فتعاطيتم على الأقل كلام الصدق ومنطق الحق ليصدّقكم عموم الشعب فلا يشك في نواياكم؟
إن الدين الذي تتخذونه كشعار لكم يعقد العمل، كل العمل، على حسن النية؛ فهلا حسنت نية النهضة في خدمة البلاد؟ فسياستها اليوم كسياسة غيرها من الأحزاب، أي العمل الدؤوب والمجاهدة في البقاء بالحكم والحفاظ عليه كلفها ذلك ما كلفها؛ بل الأخطر والأدهي، أيا كان الثمن للشعب التونسي، بغثه وسمينه، بريئه ومذنبه!
فعندها، كيف نلوم من يحمله الشوق العنيد، وهو أشد من المرض وطأة، للعمل بكل الوسائل على العودة إلى سدة الحكم بدعوى مصلحة البلد، وأنتم تسعون بسياستكم في ركابه ولا تدرون؟ وكيف تصرون على مثل هذه السياسة القمعية التي يندى لها جبين وكل مسلم حق يرنو إلى السلم والسلام ونقاوة الأيدي والضمير؟
لا شك أنكم تقولون أيضا أن المسلم يرفض الاعتداء السافر ولا ييقى مكتوف الأيدي لرفعة الحق؛ ولكن هل يكون ذلك باعتداء مماثل؟ وهل تسمح أخلاقكم الإسلامية أن تسقط الضحايا البريئة على أيديكم حتى وإن كانت كنتيجة لتحريض المحرضين وتهييج المشاغبين ممن لا يفتأ يصطاد في المياه العكرة؟ فأنتم في الحكم، وذلك يقتضي المثل الأفضل وحسن التصرف، ولا شك؛ فهل انعدمت الحنكة والكياسة في رجالاتكم؟
إن الأشنع في ما تعيشه بلادنا اليوم هو ما يلحق دينها من تشويه من طرف حزبكم في الحين الذي سنحت فيه المقادير لأن تكون تونس ذلك البلد المثالي الذي يقدم الإسلام فيه أفضل الدليل على أنه دين ودنيا وأن السياسة المستلهمة من مبادئه السنية غير مستحيلة طالما اعتمدت روحه لا نصه؛ إذ هي الأفق الذي لا مناص منه للسياسة الرشيدة، سياسة تكون فهيمة، تعتمد على عقل حساس وفكر متفتح، عقلاني وكوني في نفس الآن.
إنكم اليوم بترككم الحبل على الغارب تضيعون مثل هذه الفرصة على تونسنا الحبيبة في تجديد العروة الوثقى الإسلامية حسب المعايير الدولية والأخلاق البشرية الفضلى. فهلا أفقتم أو أيقضتم أصحابكم، يا شيخنا الموقر؟ إنه بعد في الوقت بعض المتسع للعمل بالحسنى وللحسنى، فلا تضيعوه! فأنتم إذا لم تقطعوه اليوم قطعكم وقطع معكم على تونس الجميلة درب الرقي إلى الأفضل؛ فأليس من واجبكم نصرة الإسلام؟ وهل يكون ذلك بتفويت مثل هذه الفرصة السانحة التي لعلها لا تتكرر عن قريب؟
فلتعمل النهضة حقا على مصلحة بلادنا ولتبين قدرتها على نسيان ذاتها من أجل الصالح العام! فإما هي ذلك الممثل السياسي للشعب، كل الشعب، الذي همه خدمة الوطن، ولا مناص عندما مما سبق ذكره؛ وإما هي ما هي عليه اليوم، هذا الحزب الذي همه الحكم، فلا ميزة تميزه عن غيره من الأحزاب. عندها، لا داعي أن تتبجح النهضة بادعاء الإسلام كمرجعية لها، لأنها تشوه تعاليمه في الحين الذي تعتقد فيه خدمتها؛ والإسلام منها بريء!
إنها كلمة حق، يا سيدي الشيخ، وليس على قول الحق من حرج، ولا تبعية على قائله في ديننا الحنيف، هذا الدين الذي لم يعد يفقهه أهله للأسف الشديد، الدين الثوري على الدوام والأزلي في تعاليمه، كما تقتضيه روحه ومقاصده!
ولكم مني مجددا أحر الأماني، وإن انحسر مددها، في عودة الوعي على أيديكم لنخبتنا الحاكمة اليوم، فتكونوا بحق لديننا وروحه السنية، ما دام الأمر بعد لكم، خير مذكّر وأفضل معيد لنهجه السوي. وذكّر، فإن الذكرى تنفع المؤمنين!
iThere are no comments
Add yours