المقالات المنشورة بهذا القسم تعبّر عن رأي كاتبها فقط و لا تعبّر بالضرورة عن رأي نواة

Qui-a-tué-chokri-belaid

تعتبر جريمة اغتيال السياسي المرحوم شكري بلعيد جريمة نكراء و مدانة بكل المقاييس، مهما اختلف البعض معه في طروحاته السياسية المتطرفة. كما أنها تعد نقطة تحول في مسار الصراع بين الثورة والثورة المضادة، بين قوى الانتقال الديمقراطي وقوى الجذب إلى مربع الاستبداد. سأحاول أن أكون صريحاً وأن أتجرد في تحليلي قدر الإمكان، طارحاً السؤال الأهم والذي غيب لسبب أو لآخر عن الأجندة السياسية و الإعلامية و بالتالي عن أجندة الرأي العام؛ سؤال “من إغتال المرحوم شكري بلعيد؟”.

تجدر الإشارة في هذا المقام أن هذا المقال لا يدعي إجابة دقيقة و نهائية عن السؤال، فهذه مهمة السلطات الأمنية المختصة و القضاء إنما هو محاولة لبسط الاحتمالات الممكنة على طاولة النقاش و البحث.

والسؤال الأول يحيلنا على سؤالين مركزين، هما:

1- في أي محيط كان الضحية يتحرك؟

2- من هم الفاعلون الرئيسيون في هذا المحيط؟

دعونا نتفق على ضرورة عدم القفز على هذين السؤالين، فهما يمثلان المدخل الطبيعي لتفكيك التساؤل السابق، وأيضا لفهم الصورة بطريقة شاملة، لا بالطريقة المجزأة التي تروج إعلامياً و التي هي أقرب للمراهقة الفكرية منها للتحليل الرصين.

يعتبر المرحوم قياديا يساريا تاريخيا من تيار الوطنيين الديمقراطيين. نشط بلعيد في الساحة الطلابية في ثمانيات القرن الماضي. وفيما بعد لم يبتعد طويلاً عن المنتظم السياسي؛ فقد كان قريباً من العمل الحقوقي. وبعد انفتاح الساحة السياسية إثر سقوط بن علي برز المرحوم كناشط سياسي و كقيادي يساري “وطدي”. كما عرف بطروحاته المتطرفة تجاه الإسلاميين.

وقد واكبت عملية الانفتاح السياسي للساحة التونسية جملة من الانفجارات:

1- انفجار حزبي: بلغ عدد الأحزاب التونسية قبل الانتخابات أكثر من 100 حزب، اندثر معظمها إثر الانتخابات وانصهرت بعض الأحزاب على غرار التقدمي وآفاق ليكوّنا الحزب الجمهوري. وعموما تنقسم الساحة إلى ثلاث عائلات سياسية؛ العائلة اليسارية، العائلة الإسلامية والعائلة القومية.

2- انفجار جمعياتي على مستوى المجتمع المدني: إثر الانفتاح السياسي بعد الثورة انخرط العديد من التونسيين في العمل الجمعياتي؛ فنشأت جمعيات خيرية ونسوية وحقوقية وغيرها. كما دخلت العديد من الجمعيات الدولية والمراكز البحثية التابعة لأحزاب سياسية أجنبية بقوة في المشهد. و عموماً يعتبر هذا ظاهرة صحية، لكنها تفسح المجال للاختراق المخابراتي، خاصةً في مناخ اللاّ سُلطة وغياب المسك الجيد للملف الأمني وغياب المؤسسات الدستورية التي تقنّنه.

عند زيارتي الأولى لتونس بعد الثورة لاحظت ظاهرة انتشار الجمعيات القرآنية والفقهية التابعة أساساً للتيار السلفي في نسخته العلمية. ولئن كانت هذه الظاهرة تبشر بتصالح السلطة مع حرية المعتقد وحرية الفهم للنص الإسلامي، إلا أن لها بعض العيوب التي سنعرج عليها عند تناولنا للاعب السلفي كأحد المتهمين في حادثة الاغتيال.

وإلى جانب ذلك تحولت تونس إلى ساحة خصبة لصراع المحاور الدولية. فاصطفت بعض الدول وراء التيار السياسي الإسلامي (اصطف إلى جانب النهضة على المستوى الإقليمي كل من قطر وتركيا ومصر، وعلى المستوى الدولي كل من الولايات المتحدة وألمانيا والمملكة المتحدة). بينما اصطفت بعض الدول الأخرى صراحةً ضد التجربة الوليدة وإلى جانب بعض قوى النظام السابق؛ فالسعودية وأغلب محيطها الخليجي دعم بعض التيارات السلفية المزايدة على حركة النهضة الإسلامية، وفي نفس الوقت لقي هذا التوجه دعمًا من قوى المنظومة العميقة وتجلياتها (علاقة الوليد بن طلال بالباجي القايد السبسي وإيواء السعودية للرئيس المخلوع بن علي..). بل حتى سوريا وإن كانت منهكة في الثورة السورية، إلا أنها عبرت في كثير من المناسبات على لسان مسؤوليها أو قيادات أدوات فعلها في المنطقة (السيد حسن نصر الله) على أن الربيع العربي مؤامرة صهيو-أمريكية. وفي مقابل ذلك كله اختارت بعض الأنظمة الصمت والمراقبة (الجزائر، إيران..).

تلك الانفجارات إلى جانب خصوبة الساحة التونسية أمام عامل التدخل الأجنبي أديا إلى تعدد الفاعلين في ساحة العمل العام في تونس. ويمكن تصنيف هؤلاء إلى ثلاثة أصناف رئيسية:

1- لاعبين على المستوى الوطني/المحلي،
2- لاعبين على المستوى الإقليمي،
3- لاعبين على المستوى الدولي.

وهذا يقودنا إلى السؤال المركزي الثاني عن اللاعبين في الساحة التونسية. ويعتبر هذا السؤال مهمًّا جدًّا، لأنه سيقودنا إلى مناقشة التساؤلين التاليين: من هم المستفيدون من هذا الاغتيال؟ وما مدى قوة احتمال ضلوع هذا اللاعب أو ذاك في الجريمة؟

أولا- اللاعبون على المستوى الوطني/المحلي:

ويمكن تقسيم هؤلاء إلى لاعبين سياسين، ولاعبي الصعيد المجتمعي وأدوات الدولة العميقة.

أ- اللاعبين السياسيين:

النهضة:

وهي اللاعب الأبرز داخل الساحة السياسية والإسلامية. وبما أنها الحزب الأغلبي الذي أفرزته إنتخابات 23 أكتوبر فقد ناله نصيب الأسد من سهام النقد اللاذع الذي كان يوجهه المرحوم شكري. ولما كان المرحوم معارضاً مبدئياً للحركة على المستوى الإديولوجي، وهو ما يعلمه الجميع، فإن أصابع اتهام البعض اتجهت إلى النهضة مباشرةً. فما هي حظوظ هذا الإتهام من المصداقية؟ بالرجوع إلى تصريحات من اتهم النهضة ضمنياً أو صراحةً، نستنتج أن الاتهام ينقسم إلى صنفين؛ إتهام مجاني يفتقد إلى الأدلة والبراهين، وهو لا يعدو أن يكون مجرد تفريغ لشحنات نفسية سلبية، أو أن يكون إتهاما حاول أن يلبس لبوس التحليل الرصين، سواءً من خلال الاستدلال بالتحقيق الاستقصائي الذي قامت به المجلة الإلكترونية “نواة” حول ما راج عن الأجهزة الأمنية الموازية للنهضة، والتي ردت عليه وزارة الداخلية على لسان مستشار وزيرها، السيد أسامة بوثلجة، وأثبتت -حسب رأيي- تهافته وعدم استناده إلى معطيات ملموسة، أو أيضا من خلال الإستدلال بعلاقة مزعومة بين قيادات تاريخية لحركة النهضة (الشيخ الحبيب اللوز) بقيادات أمنية في صلب الوزارة، قال البعض (الصحفي زياد الهاني) أنها كونت مليشيات خاصة تأتمر بإمرة الشيخ. وهو ما ردّ عليه الشيخ اللوز بنفسه. ولمعرفة حظوظ هذا الاتهام من المصداقية، فإنه يجب علينا طرح السؤال التالي: هل النهضة مستفيدة من مقتل شكري بلعيد؟

حسب قراءتي المتواضعة ووفقا للمنطق السليم فإنه لا يمكن أن تكون النهضة مستفيدة من حادثة الاغتيال. فالمرحوم بلعيد لم يكن شخصية محورية في المشهد السياسي التونسي، اللهم إلا إذا حكمنا على حضوره الإعلامي الذي لا يتعدى تأثيره إلى ما بعد الحصة الإعلامية وانتهاء الحوار الدائر فيها. كما أنه لم يكن رقماً صعباً في المجلس التأسيسي ولم يكن له ولا لتياره عمق شعبي يذكر (ولن أدخل هنا في النقاش البيزنطي السخيف حول أعداد المشيعين لروحه إلى مثواها الأخير، وكيف حاول بعض السياسيين ترجمتها إلى أصابع مغطسة في الحبر الانتخابي. فذلك تفكير أقل ما يقال فيه أنه يثير الاشمئزاز). ذاكل على المستوى السياسي. أما على المستوى الميداني، فإن العنف السياسي لا يمكن أن يخدم من هو في السلطة وجاء إليها بشرعية الشعب.

نداء تونس:

لم يتوقف الحديث عن هذا الجسم السياسي – من ميلاده وبروزه في الساحة باستقطابه لوجوه معارضة عرفت في المشهد الإعلامي أو حتى من المجلس الوطني التأسيسي – عن وصفه بأنه واجهة جديدة لبقايا نظام بن علي؛ بقياداته “الكاريزمية” والقادمة من أزمنة أخرى؛ أزمنة الأرستقراطية وأسر المخزن. وقد تحول الباجي القايد السبسي – زعيم هذا الحزب – من ذلك “البِلْدِي” إلى بيروقراط الزعيم بورقيبة و”أباراتشيكه” الأمني. فعُرف كوجه أمني ووجه سياسي تحدثت المصادر عن احترافه للتعذيب وقتله للمعارضين وتزويره الانتخابات. وعرف الحزب بكوادره اليسارية الاستئصالية التي لم تتورع في التعامل مع الطاغية المخلوع، بن علي، كما عرف الحزب بامتداداته في الإدارة التونسية وضمن المركب المالي الأمني التقليدي. وقد اعتبر العديد من المتابعين انه من الطبيعي أن تكون تركيبة بهاته الشاكلة على رأس المتهمين بجريمة الاغتيال وذلك لعدة أسباب، لعل أهمها:

– امتدادات بعض القيادات الندائية صلب الأجهزة الأمنية، التي أصبحت حسب بعض الملاحظين عرضة للاختراق أكثر من أي وقت مضى.

– على اعتبار أن نداء تونس من أهم المستفيدين من توتير المناخ السائد في البلد. وقد أعطت الجريمة الذريعة للباجي قايد السبسي للدعوة العلنية والصريحة بحل المجلس الوطني التأسيسي، بما يعني الانقلاب على الشرعية.

– الجبهة الشعبية:

اتجهت بعض أصابع الاتهام أيضاً إلى الصف الجبهوي نفسه، وذلك اعتمادا على أدلة أراها ضعيفة، ومن ذلك عملية قياس مسقطة وفاسدة لحادثة اغتيال شكري بلعيد بحادثة مقتل الرمز التاريخي اليساري ترويتسكي على يد صديقه ورفيق دربه ستالين في إطار الصراع على الزعامة، والمتهم حسب هذا القياس هو السيد حمة الهمامي. وأعتبر هذا الاتهام الذي سيق على صفحات الفاسبوك اتهاما متهافتا وصادرا عن نظرة مراهقة، فلا وجه لمقارنة ستالين بعدته التنظيمية وعتاده الأمني بحمة الهمامي، ولا لمقارنة ترويتسكي بالمرحوم شكري بلعيد.

ومع ذلك أقول أن أقل ما يقال في المحيط الضيق الذي كان المرحوم يتحرك فيه، وهو تيار الوطنيين الديمقراطيين (الوطد)، أنه محيط مشبوه. ولأخذ فكرة عنه أدعو الجميع للرجوع إلى تاريخ هذا التيار الذي عرف في ثمانيات وتسعينات القرن الماضي بدخول الكثير من رموزه في أجندة السلطة، حيث اضطلع الكثير منهم مراكز حساسة في الأمن؛ ومن هؤلاء محمد الناصر، شهر حلاس، الذي كان مدير الأبحاث الخاصة التابعة لإدارة الاستعلامات العامة المتفرعة عن الإدارة العامة للمصالح المختصة. ومنهم أيضا من انخرط في سلك القضاء فأفسد، أمثال القاضي الفاسد وعميد المحاكمات السياسية في العهد البائد المدعو محرز الهمامي. إضافة إلى أنهم كانوا جزء من لجان تفكير التجمع المنحل.

ب- اللاعبون على الصعيد المجتمعي:

يعتبر التيار السلفي أهم لاعب على الصعيد المجتمعي؛ فقد اختار هذا التيار منذ البداية النأي بنفسه عن اللعبة السياسية مع أنه ظل عنصرا مؤثرا فيها. وعند تناول الظاهرة السلفية بالتحليل يجب التأكيد على أننا أمام “سلفيات”، وكما هو الحال داخل المدرسة اليسارية فإن الرؤى والفُهُوم هنا أيضا تتعدد من سلفية إلى أخرى. وعموما يمكن تقسيم المدرسة السلفية إلى مدرستين:

مدرسة السلفية العلمية:

وهي تنشط أساساً ضمن الفضاء الجمعياتي الدعوي. وحسب دراسة رصدت الظاهرة السلفية، تنشط هذه المدرسة تحت إطار 24 من مجموع 120 جمعية إسلامية. وتتوزع نشاطاتها بين غالبا بين المجال الخيري والمجال التربوي التثقيفي (رياض أطفال، دروس دينية للكبار..). ويمكننا أن نخرج باستنتاج أولي أن هذه المدرسة تكتفي بالعمل السلمي في الميدان الاجتماعي والجمعياتي.

وعموماً إذا أخذنا التيار السلفي العلمي في حد ذاته بمعزل عن المؤثرات الخارجية فإني أرى أن فرضية مقتل المرحوم شكري بلعيد على يد السلفية العلمية أمر مستبعد.

مدرسة السلفية الجهادية:

وهذه تمثل مصدر صداع متواصل للنظام الوليد بسبب انفلاتها، ويمكن القول بأنها – إن صح التعبير – ظاهرة “لا فقرية”، فهي بدأت تنشط في شكل خلايا وجيوب صغيرة، ثم ظهرت مع تطور الأحداث بوادر محاولات تنظيمية داخلها. وبالرجوع إلى عملية اغتيال شكري بلعيد وباستدعاءنا للاعب السلفي الجهادي كمتهم محتمل، يتبادر للأذهان أن هذا الأخير لا يمكن إلا أن يكون المتهم الرئيسي، ولا يمكن لأصابع الاتهمام أن تتوجه إلى أحد قبله، ومبررات ذلك جاهزة، وهي التالية:

– ميل هذا التيار للعنف وتبنيه المبدئي والعلني للعمل المسلح،

– عداوة السلفيين الجهاديين الصريحة والعلنية للشخصيات اليسارية، لا سيما العناصر الاستئصالية منها، والمرحوم ينضوي تحت هذا التصنيف حسب فهمهم،

– العداوة المبدئية التي يكنها المرحوم للإسلاميين عموما للسلفيين الجهاديين خصوصا، وهو ما يعبر عنه صراحة في طروحاته.

ومع ذلك ينبغي أن نحتكم – للنظر في فرضية ضلوع التيار السلفي الجهادي في جريمة اغتيال بلعيد – إلى السؤال المعتاد “هل التيار الجهادي مستفيد من جريمة اغتيال بلعيد؟”

الأكيد أن مقتل المرحوم شكري بلعيد لن يضيف الكثير للسلفيين الجهاديين. فمشكلة هؤلاء الأساسية ليست مع الناشطين السياسين بقدر ماهي “مع أولياء الأمر الذين يحتكمون إلى القوانين الوضعية والذي يأتمرون بأوامر الكفار من اليهود والأمريكان”. كما أن مقتل بلعيد سيضعهم في دائرة الضوء وفي موضع الاتهام مما يحد من هامش حركتهم ومناوراتهم. كما أن من عادة السلفيين الجهاديين تبني عملياتهم من أجل البروباجندا.

وقبل الانتقال إلى اللاعبين الآخرين تجب الإشارة إلى أن العناصر الجهادية التونسية معلومة ومحدودة ومتابعة من قبل الأمن التونسي. وبالتالي لا يصدق العقل أنهم تحصلوا على هذا القدر من حرية الحركة، بما يمكنهم من التخطيط لاغتيال ناشط سياسي فيرصدونه ويغتالونه ويؤمنون مسلك العودة. كما أن وصول سلاح الجريمة (Colt حسب بعض التسريبات الإعلامية) إلى أيديهم وتنفيذ الجريمة في العمق التونسي (في العاصمة، بل في حي المنزه، وهو أحد أرقى أحيائها) يعدّ في نظري أمرا صعبا، اللهم إلا بمشاركة أيادي أخرى.

ج- أدوات منظومة الدولة العميقة:

في المدة الأخيرة انتشر الحديث في الساحة الإعلامية عما يسمى بمنظومة الدولة العميقة. وتم استحضار هذا المصطلح من الحقل الدلالي السياسي التركي (Derin devlet)، وهو مصطلح يصف شبكة علاقات تكونت وتجذرت على مدى سنين منذ الاستقلال، وأسميها شخصياً “شبكة صيغة حكم 56”. وهي تتكون أساساً من شبكة مصالح تتوزع بين الإدارة والأمن ولوبيات رؤوس الأموال.

– الجهاز الأمني:

لن أقف طويلاً لتوصيف طبيعة الجهاز الأمني ودوره في حياة التونسيين، وهو الجهاز الذي يُعتبر الباجي قايد السبسي أحد آبائه الروحيين ويُعتبر الجنرال بن علي مهندس ماكينته. وسأنتقل مباشرةً إلى تحليل ما إذا كان هذا اللاعب مستفيد من جريمة الاغتيال.

لا يختلف اثنان على أن الجهاز الأمني وقع تحجيمه بصفة كبيرة من قبل العمل الثوري. فلم يعد اللاعب الرئيسي في الساحة بعد أن كان عصا بن علي الطويلة التي كان يشرف عليها بنفسه ويبطش بها. كما أن وزارة الداخلية كانت الوزارة التي تحصل على نصيب الأسد من اعتمادات الدولة. أما بعد الثورة فقد اختلف الوضع، حيث أصبح لزاماً على القيادات الأمنية أن تنصاع للسلطة السياسية في الدولة، فتراجع نفوذ هذا الجهاز ليبرز نفوذ المؤسسة العسكرية.

ومن هذا المنطلق فإن جريمة اغتيال شكري بلعيد تخدم مصلحة هذا اللاعب. ذلك أن توتر الأجواء يبرز من جديد إلى الصورة معادلة الأمن مقابل عدم المحاسبة والأمن مقابل دور أهم في اللعبة. كما أن بعض الملاحظين للساحة التونسية يرون أن لبعض الجيوب داخل الجهاز الأمني شبكة علاقات مع بعض القيادات السياسية لبعض الأحزاب وبعض لوبييات ما عرف بالمركب الأمني المالي.

اللوبيات:

أدت الاختيارات الاقتصادية لنظامي بورقيبة وبن علي إلى بروز حزام من اللوبيات وشبكات المصالح حول صاحب القرار السياسي. وهي لوبيات تتوزع بين ماسكٍ للقطاع السياحي وبين ماسكٍ للقطاع الصناعي. وقد استفادت هذه الطبقة الأوليقارشية من قربها من الشخصيات النافذة والمطابخ السياسية، فاستثرت ثراء فاحشا، ونهبت مقدرات الدولة. ومع سقوط النظام البنعلي وجدت هذه الشبكة نفسها مكشوفة أمام قوى الثورة. ولاشك في أن فتح أي ملف من ملفات الفساد الإداري والمالي سيكون سببا في سقوط الكثير من الرؤوس، ولذلك فإنه يعتبر خطاً أحمر بالنسبة للحيتان الكبار. وهو ما يطرح إمكانية ضلوع أحد حلقات هذه الشبكة في عملية الاغتيال، التي يمكن أن تكون رسالة موجهة إلى صانع القرار السياسي. وأدوات فعل هذه اللوبيات متعددة وذلك لتعدد شبكة علاقتها في الداخل والخارج وحتى داخل المؤسسة الأمنية.

2- اللاعبون الإقليميون:

الجزائر:

من الأكيد أن جنرالات الجزائر لم يستسيغوا الثورة التونسية. والأكثر تأكيدا هو أن بن علي كان أقرب لـ”قلوبهم” من الجبالي والمرزوقي وبن جعفر. ومنذ سقوط بن علي والنظام الجزائري يراقب النظام الجديد في تونس بكثير من التوجس والريبة.. توجس وريبة مفهومان بالنظر إلى خوف نظام بوتفليقة من انتقال داء حمى الثورة إلى “جملكيته”، خاصةً إذا استحضرنا ما جناه الشعب الجزائري حين اختار الديمقراطية فأدى ذلك إلى صعود أطراف إسلامية لم تعجب العسكر. ويعتبر النظام الجزائري متضررا إقليميا بارزا من الربيع العربي. فقد أفقده حليفاً قوياً (بن علي) وعزل النظام أكثر عن عمقه الشعبي. وبالعودة لقضية اغتيال المرحوم بلعيد، وبتحليل ما إذا كان اللاعب الإقليمي الجزائري ضالع في عملية الاغتيال، فإن ذلك يوجب علينا العودة إلى التاريخ القريب، لتسليط الضوء على منطق الفعل السياسي الذي احتكم إليه هذا النظام حين استشعر خطراً على وجوده.

فالمؤسسة العسكرية الجزائرية تعتبر الحاكم الفعلي للبلاد. وتتمثل نواة الفعل السياسي والأمني لهذه المؤسسة في مجموعة من الضباط من تلاميذ المدرسة السوفياتية العسكرية والمخابراتية النجباء. وهذه المؤسسة أنشأها الرئيس المرحوم الهواري بومدين على أسس صلبة، متماسكة، شديدة التعقيد تنظيمياً، وهي ماسكة للميدان بشكل جيد. ولقد كانت مرحلة أواخر الثمانيات وأوائل التسعينات مرحلة فارقة في تاريخ الجزائر الحديث، حيث شهدت البلاد أول انتخابات ديمقراطية شفافة، أدت إلى صعود التيار الإسلامي ممثلاً في جبهة الإنقاذ إلى سدة الحكم، وهو ما مثل قرارا شعبيا لم يسعد به جنرالات الجزائر. فما كان من هؤلاء إلا أن أوقفوا المسار الديمقراطي بقوة الدبابة، وهو ما أدخل البلاد في عشرية من العنف الدموي، لم يتعافى البلد من آثارها إلى حد الآن.

وبالرجوع إلى شهادات عسكريين ورجال مخابرات جزائرين سابقين يعيشون حالياً في المنفى، نكتشف أن المؤسسة العسكرية الجزائرية تعاملت مع الأزمة آنذاك أساسا بسياسة أمنية واستخباراتية. حيث عملت على تشجيع التناقضات وعلى تعفين الأجواء وتوتيرها عن طريق التعامل العنيف والحاد ميدانياً مع الإسلاميين، بالاعتقال والتعذيب من جهة، ومن جهة أخرى بالعمل الاستخباراتي تحت الأرض بتدبير عمليات اغتيالات ممنهجة وباختراق جماعات إسلامية متشددة تعمل في السرية وبإنشاء ماكينات قتل بـ”اللحيّ”. فوظفت المؤسسة العسكرية بذلك أدواتها الاستخباراتية أحسن توظيف، واخترقت ومارست عمليات استخبارية جد مركبة تعرف في عالم المخابرات بعمليات عمليات الرايات المزيفة إن جازت الترجمة (False flag operations).

وإذا اصطحبنا هذا التاريخ الحافل بالخبرات الاستخباراتية وربطناه بالموقف المتوجس من الثورة وتجربة الانتقال الديمقراطي من جهة، وبما عند النظام الجزائري من عداء تقليدي للإسلاميين، فإنه لا يمكن استبعاد النظام الجزائري من دائرة الاتهام في مقتل المرحوم بلعيد، وذلك للأسباب التالية:

– كون النظام الجزائري له مصلحته في توتير الأجواء في تونس وخلط الأوراق، ومن ثم يساهم في إفشال التجربة الديمقراطية الوليدة فيها.

– كونه عالي قدرة واسع الخبرة في اختراق صفوف الجماعات المتشددة.

– سهولة التحرك في الساحة التونسية لغياب المسك الجيد للملف الأمني الميداني.

– السعودية:

لا يختلف موقف النظام السعودي من الثورة التونسية وقوى الانتقال الديمقراطي عن موقف شقيقه الجزائري. ويشاركه في ذلك نظراؤه من بقية الأنظمة العربية. ولم تكن علاقة المعارضة التونسية مع النظام السعودي علاقة ودّ. فقد كان الشيخ راشد الغنوشي ممنوعا من زيارة الممكلة ولو للقيام بمناسك الحج. وليس الموقف من بقية زعماء المعارضة التونسية بأفضل حال منه. وقد تأزمت العلاقة بين التونسيين والنظام السعودي الذي آوى الرئيس التونسي المخلوع بعد سقوطه. وبعد انتخابات 23 أكتوبر وبروز حركة النهضة كقوة وطنية رئيسية وحزب أغلبي لم تفلح محاولات بعض الساسة من تونس في ترطيب الأجواء بين الطرفين.

وإذا أضفنا إلى ذلك الصراع الإقليمي الذي نشب في السنوات الأخيرة بين النظامين السعودي والقطري، إلى جانب اختيار هذا الأخي التحالف مع الاخوان المسلمين، فإننا سنفهم أهمية الساحة التونسية كإحدى ساحات الصراع الإقليمي. وبالتالي فإن توتير الأجواء في تونس يسهمفي إفشال التجربة الديمقراطية فيها، وهذا يصب في مصلحة نظام آل سعود.

ويرى بعض الملاحظين أن النظام السعودي اختار الدخول إلى الساحة التونسية من البوابة الخلفية، عبر النشاط الدعوي لجمعيات السلفية العلمية. وكما ذكرنا آنفا، فإن جزء من الجمعيات المنضوية تحت المدرسة السلفية العلمية تربطها علاقات قوية مع مؤسسات وشخصيات سعودية نافذة، خاصةً هيئة المناصحة التابعة للأمير السعودي المرحوم نائف بن عبد العزيز وزير الداخلية السعودي السابق. وقد عُرف هذا الأمير بتبنيه لنظرية “الأمن الفكري”. وتجدر الملاحظة هنا أن من بين الشرائح المجتمعية التي تتردد على هذه الجمعيات مجموعة من العناصر المتطرفة والمستعدة لممارسة العنف. ولا شك في أن الكثير ممن يتردد على تلك الجمعيات هم ممن يريدون تزكية النفس وطلب العلم الشرعي، إلا أن هناك سيناريو آخر، قريب من السيناريو الجزائري، يطرح إمكانية الاختراق المخابراتي للساحة السلفية العلمية عبر عناصر سلفية قد تكون دخيلة عليها من جهة نظرتها للمسألة السياسية، وتكون قد وصلت إلى المرحوم بلعيد بيد سلفية المظهر، أمنية الفكر والأسلوب.

محور إيران/سوريا/حزب الله:

لا شك أن النظام السوري البعثي، العسكري هو أول المتضررين من الربيع العربي، فقد امتدت أحداثه إلى العمق السوري. ولا يقل النظام الإيراني وأهم أدواته في المنطقة (حزب الله) عن ذلك تضرراً. فسوريا تعتبر الحلقة الوحيدة الرابطة بين إيران وأدواتها في العمق العربي. فإذا انفكت هذه الحلقة انفك المحور الإيراني كله. فسوريا هي الرئة التي يتنفس حزب الله من خلالها، وهي منفذه الوحيد إلى البحر وإلى العالم عبر طريق بيروت – دمشق. وإذا وضعنا أنفسنا في موضع أصحاب القرار السوري أو الإيراني ورأينا المسألة بهذه النظرة الشاملة وانطلقنا من منطق فعلهم السياسي والإستراتيجي، فإنه من البديهي أن نفكر في عملية خارجية نوعية تضرب عدة عصافير بحجر واحد:

– خلط الأوراق في الساحة التونسية، ساحة فعل لاعبين وقفوا إلى جانب الثورة السورية ودعموها في المحافل الدولية.

– خلق حالة استقطاب داخل الساحة التونسية، تنتهي بتدويل الأزمة الداخلية على نمط قضية اغتيال المرحوم رفيق الحريري.

– تصدير أزمة النظام السوري خارجياً، كمحاولة أخيرة يائسة لإقناع شعبه أو المجتمع الدولي بأن الاستقرار لا يتعايش مع الديمقراطية.

3- اللاعبون الدوليون:

فرنسا:

وهي تعتبر من أبرز الخاسرين جيوسياسياً من ثورات الربيع العربي. ذلك أن منطقة شمال إفريقيا تعتبر تاريخياً منطقة نفوذ وعمق إستراتيجي للاعب الفرنسي. ولعل من أكبر الأخطاء القاتلة لساركوزي وفريقه هو سوء تقديره للموقف السياسي في تونس، فقد اختار الاصطفاف وراء نظام بن علي إلى آخر لحظة، وهو ما أثر على صورة فرنسا “الديمقراطية” في أعين الشعب التونسي ونخبته الجديدة. ومما زاد الطين بلة أن أصحاب القرار في تونس بعد انتخابات 23 أكتوبر توجهوا شرق وغرب باريس؛ فأعادوا بذلك ترتيب العلاقات التونسية الخارجية بطريقة راديكالية من خلال الانفتاح على ألمانيا، ثالث قوة اقتصادية في العالم والقاطرة التي تجر الاتحاد الأوروبي، ومن خلال التوجه إلى واشنطن ولندن وطوكيو وبكين. مما حسّس النظام الفرنسي بأن تونس تخرج من بين يديه بعد عقود من التبعية. وهو ما دفع بفرنسا إلى الدخول في مغامرة مالي ذات الأبعاد الجيو-إستراتججية؛ فهي من جهة تضع يدها على مخزون من اليورانيوم ومن جهة أخرى توفر لنفسها موطأ قدم في الحديقة الخلفية لدول شمال إفريقيا، وهو ما يسهل عليها أي تدخل يضمن استمرار من بقي من حلفائها (النظام الجزائري أساساً). ففرنسا مستفيدة من جريمة اغتيال المرحوم شكري بلعيد، إذ هي تعطي لها ذريعة التدخل في الشأن التونسي (تصريحات وزير الداخلية الفرنسي) وتضع حلفاءها في تونس (بعض أدوات منظومة الدولة العميقة – من لوبيات المركب المالي الأمني – وتجلياتها من بعض الأحزاب السياسية، أساساً نداء تونس) في موقع متقدم ومريح.

إسرائيل:

إن أي ارتباك وتوتر في الساحة العربية عامةً والتونسية خاصةً يصب أول ما يصب في مصلحة الكيان الصهيوني. فصعود حركة النهضة – كقوة سياسية تقود البلاد ونجاحها مع بقية شركاءها في إرساء جمهورية ثانية تقوم على إعلاء قيم المؤسسات مما يعطي الدليل الملموس والواضح على تصالح الفكر السياسي ذي الخلفية الإسلامية مع الديمقراطية – لا يخدم مصالح إسرائيل بتاتاً. وإذا أخذنا ذلك بعين الاعتبار واستحضرنا تاريخ إسرائيل الحافل بالعمل الاستخباراتي وخاصةً في مجال الاغتيالات، فإننا لا نستطيع أن نستبعد اليد الإسرائيلية من عملية الاغتيال.

وفي نهاية هذه المحاولة التحليلية – التي لا تدّعي امتلاك الحقيقة، وإنما هو مجرد تجميع بعض قطع الـ puzzle – لا بدّ من الدعوة إلى نبذ ما هو شائع في الأوساط الإعلامية والسياسية المعارضة في تونس من محاولات لتغييب قراءات لحساب قراءة معينة في قضية مقتل شكري بلعيد، ومن ذلك تغييب قراءة اليد الأجنبية أو يد الدولة العميقة لحساب قراءة مبطنة توحي بأطراف قريبة للتيار الإسلامي. ذلك أن الموضوعية والمهنية تقتضي البعد عن التوظيف السياسوي للأحداث والتوجيه الإعلامي غير البريء للرأي العام.